مخالب الضعفاء!
ميشال كيلو
هناك نظرات ثلاث تقاسمت العقل السياسي العربي الحديث:
– واحدة ترى أن القوة هي سند الحاكم الرئيس، فعليه اعتمادها كأداة يتعامل من خلالها مع كل من لا ينتمي إلى دائرته الضيقة: داخل بلده وخارجه.
– وثانية تعتقد أن السياسة هي فن الممكن، إبان إدارة الشأن العام، فهي سند الحاكم، الذي يستطيع بمعونتها التصدي للمشكلات التي يواجهها.
– وثالثة تدعو إلى التوفيق بين هاتين المدرستين وتقول باستخدام القوة والسياسة، بالتناوب والتبادل، حسب الأحوال والظروف.
تهتم قلة من النظم القائمة في بلداننا العربية بالنظرة الثالثة. وتحصر معظمها اهتمامها بالأولى، التي ترى في القوة وسيلة التعامل الأفضل في الحقل السياسي الداخلي والخارجي. والقوة المقصودة هنا هي القوة العسكرية / القمعية المتخصصة، وليست القوة النابعة من تناغم الفرد والمجتمع والدولة، والتي تكثف قدرات الاقتصاد والمجتمع والثقافة والسياسة والجيش والموقع الجغرافي والحضاري… بسبب سيطرة مفهوم القوة الأول، يرى المواطن العربي، حيثما نظر، ما يدل عليها من أشخاص ورموز، كي لا ينسى أن القوة تحيق به وتلازمه.
لنظام القوة سمة رئيسة هي تخليه عن السياسة كوسيلة تضبط وتنظم علاقاته مع مجاله الداخلي. أما سبب اتكاله على القوة، فيرجع إلى رفضه الاعتراف بالاختلاف السياسي وبوجود تعبيرات تجسده، ورفضه ما يتوجب على وجودها من توازنات تتولى ضبط حركتها وعلاقاتها بوسائل سلمية وطرق حوارية تحل محل القوة وتكفل إدارة تناقضات وخلافات السياسة بطريقة هادئة، تعزز النظام العام وحاجة كل طرف داخلي إلى الأمن وحفظ الذات والمصالح الخاصة باعتبارها جزءا من مصالح الوطن العليا. حيث لا توجد، أو لا يتم الاعتراف بوجود منظمات سياسية متنوعة، موالية ومعارضة، تضبط السياسة علاقاتها، تنتفي شرعية وجود أي تكوين سياسي أو مجتمعي إلى جانب السلطة، ويستند النظام إلى وضع حده الأول والأخير حضوره بمفرده في الشأن العام. عندئذ، يصير دخول أي مواطن أو حزب أو تجمع إلى حقل السياسة “خطرا” تجب إزالته بالقوة. بالإضافة إلى هذا، تبقي السلطة المواطن بعيدا عن السياسة عبر استخدام القوة بطريقة وقائية، وممارستها كعنف منظم ودائم، مع أن العنف المنظم احتكار شرعي تنفرد الدول بامتلاكه، فليس من حقها استعماله إلا في حالات الدفاع الشرعي عن النفس: عند نشوب ثورة داخلية، أو وقوع غزو خارجي.
بنظرة إلى إيران، نجد أن بروز دور حمَلة القوة والقمع، وبخاصة الحرس الثوري منهم، بعد حركة الاحتجاج الواسعة، وظهوره على حساب السياسيين ورجال الدين، يرجع إلى ما أصاب النظام الإسلامي من ضعف ويشعر به من خوف. يستخدم الحرس هنا لحجب الضعف وطمأنة القيادة وتوحيدها وبث الخوف في قلوب معارضيها وخصومها، علما بأن قوة الحرس ليست من النمط الذي يكثف قدرات المجتمع والدولة، بل هي قوة جهاز سلطوي، تستخدم بكثافة متزايدة للتغطية على ضعف وانقسام جهاز السلطة السياسي، ولكبح احتمالات تشكل بدائل له. ومن المرجح أن يستمر دور الحرس في البروز، إن استمر ضعف النظام وتزايدت متاعبه الداخلية، وبقي قطاع واسع من المجتمع بعيدا عنه أو معارضا له. ما يقال عن إيران يمكن قوله عن بلدان عربية كثيرة، فالقوة إن اعتمدت وسيلة لعلاج أزمات ومشكلات الدولة، كانت تعبيرا عن ضعفها وعن عجز وسائلها السياسية والإدارية والإيديولوجية، عن التصدي لمشكلاتها، وعن اضطرارها لاعتماد وسيلة غير سياسية هي القوة بمعناها العسكري / القمعي. حين يفقد نظام ما قدرته على ضبط أوضاعه بوسائل سياسية سلمية وحوارية، ويستخدم القوة وأجهزتها كأداة ضبط وتوازن، فإنه يكون ضعيفا.
تتراكم الأدلة حول ضعف نظام إيران. فهل تقنع تظاهرات القوة، التي يمارسها الحرس الثوري، ضد مواطنيه بالدرجة الأولى، العالم بأنه نظام قوي، أم تقدم براهين على أن ما كان النظام يستطيع فعله بالأمس بوسائل السياسة وقنواتها، لم يعد ممكنا اليوم، وأن علاقته مع شعبه ستستند، من الآن فصاعدا، إلى قوة الحرس الثوري، الذي كانت مهمته ردع الخارج، فانهمك أكثر فأكثر في ردع الداخل، بعد ازدياد عجز الوسائل السياسية والإدارية والأيديولوجية عن تهدئته.
هناك قاعدة ذهبية في حياة الدول، تقول ما يلي: تكون الدولة قوية بقدر ما تستغني عن القوة في علاقاتها مع داخلها. وتكون ضعيفة بقدر ما تلجأ إليها في التعامل معه. هذه القاعدة الذهبية يؤكدها مثال إيران، التي لم تسمح للحرس الثوري باحتلال واجهة المسرح السياسي حين كانت قوية، وعندما ضعفت احتل الشوارع والمدن والقرى وعناوين الصحف ونشرات الأخبار وشاشات التلفاز. ويبقى السؤال: هل يمكن للقوة أن تلغي السياسة أو أن تحل محلها ؟. وهل بوسعها أن تستمر في الفعل والتأثير، إن غدت “سياسة” النظام الوحيدة ؟. ألا تحمل القوة معها خطر إصابة النظام الذي تحميه بضعف لا شفاء منه، يجسده ضياع توازنات العمل العام، وسيطرة قهر يفتقر إلى القدرة على التصدي للمشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبنيوية والروحية ؟. أخيرا، ألا تغري القوة من يستخدمها بعدم التخلي عنها، وبلعب دوراً أكبر في العمل العام، على حساب مكوناته السياسية الرسمية ؟. لقد خال قادة نظم كثيرة أن استخدام القوى المسلحة هو السبيل إلى الخروج من مآزقها وضعفها، فصارت هذه مشكلة لا حل لها، أطاحت بمن لا ينتمون إليها.
المستقبل