صفحات مختارة

غوته وشيلر حكاية صداقة بين رجلين في كتاب

الكره أولاً ثم يأتي الحبّ حيث يتكامل الذهنان التأملي والغرائزي
يمكن المجازفة بالقول ان الصداقة التي جمعت فريدريتش شيلر ويوهان فولفغانغ فون غوته، شكّلت مساهمة في فن الحياة. ليس لأننا من هواة المبالغات اللفظية وانما لأننا من صنف الموقنين ان هذين الذهنين المتّقدين علّما كيف لرابط اسمه الصداقة أن يصير فعلا تصميميا، وكيف للوعي المتشامخ أن يجعل الصلات الذاتية جزءا من منجز الحياة. استطاع الاثنان في الحدّ الادنى، ان يشيعا الاطمئنان الى ان في وسعنا جميعا محاولة تقليد شيء من نسق هذا الالتزام.
ثمة تواطؤ نيّر نسجته الحياة بين هذين الرجلين، يحاول كتاب الفيلسوف والكاتب الألماني روديغر سافرانسكي “غوته وشيلر، حكاية صداقة”، الصادر بالألمانية حديثا لدى “دار هانسر”، مجازاته من طريق الاقتباسات الملائمة والمشهدية التفصيلية. في التوثيق، يزيد المؤلّف الكثير على ما سبقه، فيما يحاذي في السرد المديد، في الثلث الأول منه على الأقل، التماس بين غوته وشيلر قبل انطلاق الودّ.
كان الكاتب المسرحي والشاعر فريدريتش شيلر يصغر غوته بعشر سنين، وقد رآه للمرة الأولى في يفاع عقده الثاني طالباً في الأكاديمية العسكرية التي انشأها دوق فورتمبيرغ كارل يوجين وحملت اسمه. ارتاد شيلر اكاديمية، كان الانضباط فيها سيّداً وحيداً، الى حدٍّ دفع بمعاصريه الى تعريفها بأنها “مزرعة للعبيد”. في هذا المطرح، في كانون الأول من 1779، حاذى شيلر غوته، وكأنه محض خيال، وفق ما يروي سافرانسكي في مطلع كتابه. حلّ المسرحي والشاعر والفيلسوف غوته مع ربّ عمله دوق ساكس فيمار، كارل اوغست، ضيفا على دوق فورتمبيرغ كارل يوجين في حفل تسليم الميداليات في الأكاديمية في الرابع عشر من كانون الأول. يومذاك حاول الطلاّب استراق نظرة الى غوته، شاعر “العاصفة والاندفاع” الريادي الذي جعل العالم ينهمك بباكورته الروائية “آلام فرتر الشاب” (1774). وقف الدوق كارل يوجين عند مدخل القاعة الرئيسية يحوطه كلٌّ من الدوق كارل اوغست وغوته، ليتقدّم شيلر ويتلقّى ثلاث ميداليات فضية. انحنى شيلر كما يريد التقليد، ولامست ركبتاه الأرض وقبّل معطف الدوق، بيد انه لم يتجاسر على رفع عينيه صوب حدقتي غوته. والحال ان متخرجاً آخر في الاكاديمية دوّن ذكرياته في شأن سطوة غوته على الحاضرين في ذاك النهار: “يتمتّع غوته بنظرة نسور يتعذّر صدّها. عندما يرفع حاجبيه، يخال لمن يقف قبالته انه يغضّن جمجمته”.
في اعقاب مغادرة شيلر الأكاديمية وتذوّقه بعض النجاح بفضل عمليه المسرحيين “اللصوص” (1781) و”الحب والدسيسة” (1784)، كرّر محاولة دخول حلقة المقرّبين من غوته. قدم الى فيمار في العام 1787 آملا بترفيع هذه العلاقة المرجوة، غير انه وجد غوته مسافرا الى ايطاليا، وكارل اوغست غائبا. كان على هذه الصداقة ان تنتظر ستة اعوام اخرى لكي تنعقد ثمارها.
اللافت ان تلك المودّة كانت غير محتملة في شتّى المعايير، بسبب هول الاختلاف بين طرفيها. فرقت السنون الرجلين فاندفع شيلر جاهدا للانقلاب على المنطق الزمني علّه يبلغ مصاف غوته ومرتبته، بيد انه لم يلبث أن أحسّ بالنبذ. حلّ في مطلع الصلة بين الإثنين نفورٌ مرّ، والحال ان فريدريتش شيلر وصف غوته في ايام الصداقة المتثاقلة بـ”المتزمّت المتفاخر”، ولم يكن كلام استهلالي مماثل مصدر تشجيع لمزيد من المبادرات. وصلت كثافة الحقد بينهما الى الذروة في 1788 حين لم يوفّق اللقاء المدبّر بينهما، على ما يتراءى. نعت شيلر غوته في اعقابه بـ”القوي وغير الناضج”، ليتبعه كلام غير مجامل، يفضح خيبة أمله العميقة: “سيجعلني المكوث مع غوته لمدة أطول تعيسا. لا يسعه للحظة ان يبيّن عن انفتاح. ينسحب هذا الواقع على اصدقائه المقرّبين كذلك. لا ينبغي لأي شخص محاولة تبرير موقفه. اظنّه أنانيا من درجة استثائية. يملك غوته موهبة نصب الفخاخ للآخرين فيما يحافظ على حريّته. يرغب في ادراك وجوده وانما كإله فحسب، من دون اخذ العناء في تقبل سواه. أكرهه لهذا السبب تحديدا”. تحسّر شيلر بعدذاك على انتفاضة احاسيسه السلبية، بيد ان ذاك الخليط الغريب من الحبّ والمقت ابقاه في يقظة، ليستمر الالتباس لاحقا على الرغم من تولّي شيلر كرسي تدريس التاريخ في جامعة ينا في ساكس فيمار في العام 1789 بدعم من غوته.
تنبّه شيلر الى ان التوتر الذي تشبّث به كلما عنّ غوته على ذهنه، سيصيب منجزه الفكري بالشلل في المحصلة، فكان ان احتمى بعلاج ناجع يقضي بالبحث عن مساره الشخصي عوضا من التمسّك بمقارنة عقيمة تجعله يواجه مثالا اعلى. جعله هذا الانعطاف يستعيد، بعد تململ، فطرية نصّه الضائعة.
يبيّن سافرانسكي في “غوته وشيلر، حكاية صداقة”، معارضة تيار فيمار التقليدي الى حد بعيد لمفاهيم الثورة الفرنسية، ويلفت الى التباين بين حماسة شيلر الفاترة والمتريثة وتقزّز غوته ازاء هذه المسألة. بيد انه لا يتناول على نحو واضح وتام، التقليد السياسي المحافظ الذي جعل غوته يعارض الرأي الحرّ. يفضّل سافرانسكي التوقّف عند المسائل الشخصية، ليقارن بين مغازلة شيلر لإحدى النساء قبل زواجه بها وعلاقة غوته الفضائحية مع كريستيان فولبيوس.
في حلول منتصف التسعينات من القرن الثامن عشر، تقلّصت المسافة بين الكاتبين، ووضعت صداقتهما عند فوهة التحقّق، وإن جاءت، للمفارقة، بعيد موقف شيلر النقدي من غوته في بحثه “في شأن النعمة والكرامة” (1793). في اعقاب الإصدار المدوّي تربّع شيلر في المانيا بصفته المثقف الأبرز في مجالّي الفلسفة والأدب، الامر الذي حدا به الى عقد العزم على اصدار صحيفة “الملهمات” بالتعاون مع ناشره “كوتا”. اراد للمطبوعة ان تغدو الهيئة الثقافية الأكثر اهمية في النطاق الجرماني وصوت الطباق في الحقبة الثورية. لم يكن ثمة مجال تاليا للتخاذل والتواني عن دعوة غوته الى المساهمة. كانت اللحظة آنذاك حرجة على المستويين السياسي الجمالي معاً. كان شيلر قد توصّل الى تحقيق امور جمة، في حين ظلّ الشعر نائياً عنه. اما غوته فشعر في اعقاب عودته من ايطاليا بأنه محاصر ومعزول ومشوّش الوجهة. كان التقرّب الثنائي الشخصي موعدا مرتقبا لإحياء جذوة قدراتهما الابتكارية. صارت “الملهمات” الحجة النافعة للقاء اول فعلي بين القامتين، وباباً ليحقق شيلر تطلعاته الغابرة.
توصّل غوته في الأعوام اليسيرة السابقة الى تثمين شيلر ككاتب محترف وقادر، بينما لحظ ظواهر غير مشجّعة وتسلّل اليباس الى عروق الأدب. حدث الإلتئام المرتقب بين شيلر وغوته في صيف 1794 في ظلّ تلك الخلفية المؤاتية. كانت اللحظة على نسق انفجار للمشاعر، حيث باغتهما فرح عميق لمجرد نجاح اللقاء.
يجوس كتاب روديغير سافرانسكي “غوته وشيللر: حكاية صداقة” ارضاً معروفة يتفيأ فيها احدى اكثر الصداقات بروزا في ميدان الأدب، لكأنه يضعها في مقارنة مع سواها، من قبيل صداقة ويردسويرث وكوليريدج التي لم تعش طويلا، وألهمت مؤلفات قليلة، واختتمت على جفاء. يهدف سافرانسكي، على ما يدلل عنوان كتابه، الى السرد وليس التحليل، فنراه يقلل من شأن الرسائل المتبادلة بين الكاتبين كوثيقة مركزية للدراسة، في حين يوسّع منظاره ليضم مواد اخرى غير متوقّعة.
والحال ان شيلر يستخدم في رسائله الى غوته ترسانة افكار التنوير، ويستبقي مصطلحات العبقرية والطبيعة والمنطق والتخييل من اجل أسطرة غوته وجعله “بطلا المانيا صاحب روح اغريقية”، بل اكثر: اخيليس أدبيا. لا ريب ان غوته اصيب بحمّى الغرور من جراء البخور الناجم عن نعوت التفخيم تلك، غير ان حدّة مقترب شيلر وصرامة تحليله وحجته الاخلاقية الواعية، منحت مديحه الناتئ صدقيةً يعبّر عنها بحنان فياض، صار بعدذاك متبادلاً، وقادهما الى انسانية متوازنة وانما شغوفة.
يحتاج كاتب السيرة المتمكّن سافرانسكي الى تلاوة حكاية، غير انها تضغط على نصه وتحثّه على عدم التوسّع في فحوى الصداقة الفكرية، وعلى التردّد في الغرف من الأدب الذي يشكل مبرّر وجود تلك العلاقة. اللافت في هذا السياق ان غوته وشيلر لم ينفكا يستخدمان الأسلوب الرسمي خلال مخاطبة احدهما الآخر. كان جليّا انهما ارادا التشبّث ببعد عايناه ضروريا. رغبا في المحافظة على سمتين متناقضتين، تأخذ احداهما بالكاتبين الى الدنوّ والتماهي، في حين تشيّد الأخرى حائطا عازلا. بعد عامين او ثلاثة من الصداقة، روادتهما فكرة التحرّر من التكلّف، غير انهما حدسا على ما يبدو أن المسافة تمنح كلاً منهما جرعة حيوية من الحرية.
غدت الصداقة بين غوته وشيلر مبرر تحفيز ادبي. يعدّ تنازل غوته عن مضمون عمل “ويلهيلم تيل” المسرحي لشيلر مثالا ساطعا على ذلك. لم يكن نص “فالنشتاين” هو الاخر ليرى النور خارج نطاق صداقتهما، ولا ريب ان شيلر كان من دون غوته ليعوز الجرأة اللازمة ليعود الى الكتابة المسرحية وينجز اعماله الكلاسيكية. في الصفة المقابلة، لم يكن لرواية غوته الثانية “ويلهلم مايستر” فرصة الاكتمال سوى في جوار شيلر. ارجع شيلر غوته الى صحبة القصيدة، ووهبه شبابا شعريا ثانيا.
اهتم غوته بالآخرين من منطلق واع ومؤسلب ايضا ساعده في تحديد موقعه في هذا العالم وفي تحسين فنّه الأدبي. ادرك غوته كيف يفيد الى الحدّ الاقصى من علاقته بالكتّاب والاكاديميين والعلماء ورجال الاعمال. استطاع على هذا النحو ان يعقد علاقة منتجة مع شخصيات زمنه القيادية، مع شيلر الذي صار منافسه الوحيد ككاتب، ومع الامبراطور نابوليون ايضا، الذي راقه ان يناديه “امبراطوري”. يحكي هذا الموقف الكثير في شأن ثقافة غوته الذاتية التي اذاعتها نصوصه. من اللافت في هذا المجال ان نتأمل شيلر ونابوليون يمتدحان غوته ويسترضيانه من طريق خطاب نقدي أدبي.
اختتم شيلر حياته على الكلام الآتي: “ازاء الفرادة المتفوّقة (عنى بها غوته) يختزل الحب الحرية الوحيدة”. انها لجملة مذهلة اعجبت غوته الى حد استخدامها وإن معدّلة في مؤلفه “القرابات الانتقائية”. يقول المفهوم انه ينبغي للمرء إذا اراد التحرّر من المشاعر السلبية ومن الحسد والكره، ان يختار الموقف الهجومي والحب المتفوّق. لا شك في ان شيلر تصرّف وفق هذه المسلّمة.
ظهّر هذا الموقف الجريء اعلاناً متعمداً يتمحور على الصداقة، وكان هكذا فعلا. من وجهة نظر شيلر، تصرّف غوته على سجيّته المدركة، ذلك انه كان من صنف اشخاص يُطرقون ولا يخرجون افكارهم الى العلن. كان تصرفه جزءا من حسّه الشخصي بالحرية. تمسك غوته بتقدم العقل على اي نزعة اخرى، غير ان هذا لم ينف عاطفته ايضا.
من الصعب ان نجد معارضة أهمّ من تلك القائمة بين الذهن التأملي الذي ينطلق من الوحدة ممثلا بشيلر، وبين ذهن غرائزي ينطلق من التنوّع مجسداً بغوته. ففي حين يبحث الأول عن التجربة من خلال حسّ وفيّ ورزين، ينقّب الثاني عن القانون من خلال طاقة الذهن الحرة والناشطة. لا ريب تاليا انه كان مقدرا لشيلر وغوته ان يلتقيا في منتصف الطريق، من اجل ان تكتمل الصورة في جميع ألوانها.

رلى راشد
(roula.rached@annahar.com.lb
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى