صفحات ثقافية

تجارب نسائية جديدة في الإبداع الروائي العربي

null
نبيل سليمان ()
على الرغم من أن العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين لم تنقض بعد، فإن ما ظهر فيها من الأصوات الروائية العربية يعد بالمئات. وفي هذا الغمر حضرت بقوة الأصوات النسائية، ما ضاعف من أعباء النقد ومن تقصيره، سوء تعلق الأمر بالغمر كله أم بالأصوات النسائية فقط. وقد كابدت مثل هذا العسر.كما لعله يبدو مما كتبت عن عشرات الروايات الأولى لصاحباتها وأصحابها، فضلاً عن الروايات غير الأولى لكثير من الأصوات الجديدة. وربما كان ذلك هو ما أغواني بالمغامرة هنا بالنظر في التجارب النسائية الجديدة في الابداع الروائي العربي. ولكن في المسألة ـ سوى الغرابة ـ ما ينادي النظر فيما يقترحه ذلك الابداع من تجربة تنادي بدورها تجارب بقية الأصوات الجديدة، على الأقل. ومن أجل ذلك توزع القول هنا بين ما تمحورت حوله تجربة أو أكثر حول كل من الاستراتيجية السيرية واستراتيجية اللاتعيين والزمن، ليبلغ القول أخيراً لعله تأنيث الرواية.
1 ـ الاستراتيجية السيرية
وبها تقوم الرواية السيرية والسيرة الروائية (أو النصية) مما شكل علامة فارقة من علامات المشهد الروائي العربي خلال العقدين الأخيرين، وبخاصة لدى الأصوات الجديدة. وقد سيقت لذلك تعليلات شتى، ربما كان أبرزها أو أقواها ما تسمى بسقوط الايديولوجيات ودوال السرديات الكبرى، والتفات الكاتبة أو الكاتب الى الفردية المحاصرة والمضطهدة والمرتبكة. وكما لدى السابقين والسابقات جاء تجسيد الأصوات الجديدة للاستراتيجية السيرية في واحدة من هذه الهيئات:
1 ـ 1 الرواية تبحث عن اسمها
من الرويات ما ظل اسم الرواية فيها مغفلاً. واذا كانت الشبهة هنا تصل بين الكاتبة والروائة، بعون من ضمير المتكلم أو بدونه، فان تأكيد هذه الصلة يتعلق بما يتوافر من قرائن خارج نصية، ونصية، اي بمقدار ما يتوافر من قرائن تتعلق بالكاتبة، عبر المقابلات او الشهادات او كتابة السيرة الذاتية او الوثائق او المعرفة الشخصية.
لشبهة الصلة اضرب مثلاً بالرواية الأولى للأردنية فيروز التميمي (ثلاثون) وحيث تبعد الشبهة في البداية التي تعود بالرواية الى البدء: المرأة الماء في فجر الكون، حتى اذا بلغت في التاريخ هنا والآن، صارت المرأة التي بلا اسم رواية تكتب ايضاً، رواية، فيكون لها سيرة من حب وحزب ووظيفة واسرة وطفولة وجامعة ومدينة هي اربد ثم مدينة هي عمان.
اما توكيد الصلة بين الرواية غير المسماة والكاتبة، فأضرب له مثلاً برواية السورية رجاء طايع (ماينفست الهذيان) والتي ترويها خمسينية لم تتزوج ولم تنجب، وهي كاتبة مقالة عملت في مجلة فكرية ليبرالية لا تنسجم مع المناخ الفكري الذي ساد السبعينيات السورية من القرن الماضي، كما عملت هذه الرواية محررة في القسم الثقافي لما تسميه جريدة (التوجيه الواحد) وفي مؤسسة السينما. وقد أنجزت سيناريو عن رواية لهاني الراهب وشرعت في كتابة روايتها الأولى… وهكذا تقدم الرواية نفسها في (ماينفست الهذيان) بما هو معروف ومتداول من حياة الراحلة رجاء طايع التي رحلت وهي تناوش خمسينيتيها، ولم تتزوج، وعملت في مجلة المعرفة، وتكتب المقالة، كما عملت في مؤسسة السينما ومحررة في القسم الثقافي لجريدة رسمية، وكتبت السيناريو المذكور…
1 ـ 2 الرواية تحمل اسم الكاتبة
في بداية الفورة النسائية العربية جاءت الجزائرية احلام مستغانمي بروايتها (ذاكرة الجسد) وجعلت من الرسام (خالد) راوياً لها. غير انها رمت للقراءة بالالتباس السيري بين اسم (حياة) كما سمى خالد بنت صديقه وقائدة في الثورة (سي الطاهر) وبين اسم (احلام) كما سمى الأب ابنته، وذاك هو الاسك الأول للكاتبة. وسوف يتفاقم هذا الالتباس في رواية مستغانمي التالية (فوضى الحواس) التي ترويها (احلام ـ حياة) والرواية هنا كابتة ايضاً، ولعلها تضاعف الالتباس السيري بقولها: “كيف لي بعد الآن ان اكون الرواية والروائية لقصة هي قصتي، والروائي لا يروي فقط، لا يستطيع ان يروي فقط. انه يزور ايضاً. بل انه يزور فقط”.
من دون هذا الالتباس، تسفر المصرية نورا امين كراوية لروايتها (الوفاة الثانية لرجل الساعات). وهكذا تتابع كاتبة سفور الروائي كراو، مما يذكر بابراهيم عبد القادر المازني منذ ثلاثينات القرن الماضي، في روايتيه (ابراهيم الكاتب) و(ابراهيم الثاني) كما يذكر بمن تلوا بعد عقود، وظلا قلة قليلة: غالب هلسا (ابتداء بالخماسين 5791) وعبد الحكيم قاسم (محاولة للخروج 0891) ونبيل سليمان (المسلة 0891) وحليم بركات (طائر الحوم 8891) وخليل النعيمي (القطيعة 2991) ثم (تفريغ الكائن 5991) واخيراً وليس آخراً: خليل صويلح (سارة وزهزر وناريمان 2008).
من نافل القول ان لهذا التوحيد بين اسم الكاتبة واسم الراوية. الشخصية المحورية عبئه الاجتماعي الذي ما زال يعوق الكتابة السيرية الروائية وغير الروائية في الفضاء العربي. ولذلك ظل صنيع نوراً امين في (الوفاة الثانية لرجل الساعات) نادراً.
تتولى الساردة سرد هذه الرواية احياناً بضمير الغائب، وغالباً بضمير المتكلم. لكن الكاتبة تحضر باسمها في بداية الرواية وفي نهايتها. وفي سائر الأحوال، فالسيري في هذه الرواية ينيط بطولتها بالأب الراحل، اذ تتعلق سيرة نورا بسيرة الأب، فيما ينادي الحالة الفرويدية الأنموذجية الشهيرة، ولكن دون ان ينال النداء من فنية هذا النص الجارح، وهذا ما سيظهر ايضاً في رواية العمانية جوخة الحارثي (منامات).
1 ـ 3 السيرة النصية
بالعودة الى رواية رجاء طايع (ماينفست الهذيان) نرى الرواية غير المسماة تشبك سيرتها بسيرة الروائية نفسها، منذ فكرت الكاتبة بكتاباتها. وسنرى ان الرواية تنشد رواية استثنائية فردانية “تتحدث عن الانبلاجات والشحوبات” عن مشاهداتي!! عن الماضي عن عدوانات العالم الذهولية!! عن الانكماشات!! عن المدنية!! رواية تسفح سفر الإفك وتعبث في التشابك. وتتحدث الرواية عن أنها، بعد شهور من كتابة “التوهان” راحت تدرب نفسها على الكتابة التقريرية الاخبارية. وسيتبلور وعي الرواية بأنها ستكتب حالة من العطالة لدمشق، وهي ترى ان ما كتبته ثرثرة، وأنها تشيد عالماً قائماً على الثرثرة، وان التقزز سيصيب من يقرأ “مونولوجي هذا”.
مثل هذه المواجهة للذات وللكتابة على المكشوف، أو في العراء، أمام القاريء يدفع بالسؤال: من أين لهذه المرأة كل هذا العنف والعطب والتفجر الذي لم يوفر لا اللغة ولا الكتابة ولا المدينة ولا الوطن ولا العالم ولا الذات، حتى ليصح في الرواية قول الراوية نفسها: “رواية ام نص ليس له شكل ولا ينتمي الى جنس معين!! نص مفتوح على التشظيات! نص يستقي الانفلاشات وأوهام التدمير!! نص القيح وطفح الدمامل!! وهلوسات الدماء المسفوحة في كينونات الوجود؟!
تلك هي ايضا رواية الأردنية سميحة خريس (نارة.. امبراطورية ورق) والتي تسفر فيها الكاتبة في المقدمة الثانية للرواية التي تصدرتها مقدمة اولى ترويها الشخصية المحورية التي حملت الرواية اسمها. وفي هذه المقدمة ان نارة الصحافية الثلاثينية تسعى الى سميحة خريس لتكتب قصتها. وهي توصي القراءة بتصديق الرواية فقط، وبترك الهراء الفائض الذي شكل المقجمتين.
سبق لسميحة خريس ان لعبت مثل هذه اللعبة في روايتها (خشخاش)، حيث ظهرت كشخصية روائية تلتبس بأخرى. وفي مقجمتها لرواية (نارة.. امبراطورية ورق) خاطبت نارة وهي تهديها رواية (خشخاش) بالقول: “كتبت مثل حكايتك واكتفيت. لكن اللعبة تتواصل، فتخبر الكاتبة انها خلطت أوراقها بأوراق نارة، لذلك استعانت بمقدمة “تبريرية خشنة” كي تتميز عن نارة. كما تصرح بأنها اذ أقبلت على كتابة (نارة) فقد كانت خارجة للتو من عملين مجنونين “رواية هلوسة استنزفتني وكادت تلمسني بالجنون، اسميتها (الصحن)، زورت فيها امراضاً عقلية ونفسية، مستعيرة ملامح بشرية قاسية عن خيالات الشياطين.
كذلك كنت انتشل نفسي الغارقة في سيل عمان القديم الذي تجرأت على بعثه في (رواية دفاتر الطوفان)”.
2 ـ استراتيجية اللاتعيين
اذا كان عدم تعيين الزمان و/أو المكان في الرواية يفسح للمخيلة ان ترمح فيما هو ارحب، و/او يفسح للدلالة ان تخرج الى ما هو أرحب، فان ذلك قد يكون ايضا اتقاء للرقيب الاجتماعي و/أو الرقيب السياسي الذي لا يخفى انه كان خلف تشغيل استراتيجية اللاتعيين في روايتي السوريتين منهل السراج (كما ينبغي النهر) وحسيبة عبد الرحمن (الشرنقة).
فالأولى اكتفت من تعيين الفضاء في مدينة ما بحارتين يصل بينهما نهر، اما الزمن فقد اكتفت من بدايته بالاشارة الى الاستعمار الفرنسي، ومن نهايته بالأمس القريب الذي حل فيه الانترنيت في الفضاء العربي. بيد انه قد يكون للقراءة ان تعين الرواية في سورية بعون ما تحفظ بطلتها فطمة من اهزوجة الأطفال في زمن طفولتها “ديجول خبر دولتك باريس مربط خيلنا” والحق ان القارئ السوري لن يجهد كيما يعين الرواية في مدينة حماة. وهي مدينة الكاتبة ابان الصراع المسلح بين السلطة والاخوان المسلمين في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي. ومهما يكن فقد خرجت الرواية من ربقة النقية باستراتيجية اللاتعيين، وعوضت خسارة التعيين بما هو أثمن، اذ بات شعاع الدلالة اشعة دلالات تتراقص في الفضاء العربي عبر عقوده القليلة المنصرمة.
اما (الشرنقة) التي جاءت اشبه بالشهادة منها بالرواية، وبالأحرى: “سردية تطمح الى ان تكون رواية سيرية، وهذا ما بوسعي توكيده، فالكاتبة سجينة سياسية سابقة، وكوثر، رواية (الشرنقة) وبطلتها هي كذلك. بيد ان التقية جعلت الرواية لا تعين فضاءها، كما لا تعين الحزب اليساري المحظور الذي تنتمي اليه كوثر. ولكن، وكما سبق بصدد رواية منهل السراج، لم يجهد القاريء السوري كيما يعين بلاده في الرواية، وكذلك رابطة العمل الشيوعي والاخوان المسلمين وصراعهم المسلح مع السلطة قبل ثلاثة عقود. والحق، ان هول ما ترسم (الشرنقة) يجعل السؤال عن الخسارة في عدم التعيين او عن جدوى تشغيل استراتيجية اللاتعيين في هذه الرواية، سؤالاً غير ذي بال.
3 ـ الزمن
تؤشر بعض الروايات الى حضور خاص للزمن، تعبيراً عن مفهوم مختلف او احساس مختلف، فيكون له فعل ما في تركيب شخصية ما او في التركيب الروائي برمته. فبالعودة الى رواية نورا امين (الوفاة الثانية لرجل الساعات)، تذهب الاشارة الى اللقب الذي يحمله الأب (رجل الساعات) والذي يعنون الرواية، ولا يظهر فيها الا متأخراً. أما الأهم فهو ان الساعات تبني الرواية في احساس رهيف بالزمن، فالفصل الاول عنوانه (ساعات) والثاني عنوانه (ودقائق) والثالث عنوانه (وثواني) والرابع الأخير عنوانه (خارج الزمن). وفي هذا البناء ينقسم الفصل الاول وحده الى فقرات تتعنون بالساعات، فالأولى: (في العاشرة دوماً)، والثانية: (في السادسة يحدث أن). وفي فقرة (الثانية عشرة الرسمية) ينتهي عشق الساعة الرسمية بالأب الى ارباك ساعة جسده؟ أما في فقرة (العاشرة صباحا المرغمة) فتصيب القرحة الرجل، فتتكلل ساعة الحائط في غرفته بالحمرة، وتدفن اسفل عقاربها موعداً سرياً تفيض فيه الدماء ليلاً من الرجل المريض. لقد ارغمت الساعة “هذه المرة على التوقف حيث لا يحلو لها، وخفت الضحك الذي كانت تطلقه عندما تتجمع عقاربها في رقم واحد”.
وللزمن حضور آخر في رواية العراقية لطيفة الدليمي (حديقة الحياة) فالأس الروحي الذي تقوم عليه هذه الرواية يتشكل في الطبيعة والموسيقى والحرب والأنوثة، وقبل ذلك وبعده، في الزمن، فكل شيء يسق من الزمن” تلك هي بحسب الرواية حقيقة الوجود. التي تجوهره كما تجوهر الانسان، لكن السؤال يظل لائباً: أين يسقط الزمن؟
ان قلب المرأة وحده يلاحق نبض الزمان الخفي. وتلك حقيقة اخرى تشكل السؤال اللائب، كما تشكل حقيقة الوجود، ومن اجل ذلك، ربما، لم تشارك ميساء التي تخرجت في قسم الآثار، في التنقيب الا مرة في أور، حيث تقول: “وجدتني اعبث بالزمن” و”استخرج دهراً”. ومن أجل ذلك ايضا. ربما، ينهض الأب (غالب) كعلامة فارقة في (الماضي) الذي يستعاد في زمن الحرب. ولئن كان الرجل قد قضى، فقد ترك للأم (حياة) ذلك الرسم السومري المقس: رجل وامرأة وبينهما النخلة/شجرة معرفة الخير والشر، ووراءهما الأفعى وهما يمدان ايديهما الى عذوق المخلة، فكأن الدلالة تصدح بأن الرجل والمرأة شريكان في المعرفة، وليس في الخطيئة.
يحضر هذا الحفر في الزمن في رواية فيروز التميمي (ثلاثون)، لكنه حضور أكبر وأعمق مما في رواية (حديقة الحياة). فلرواية (ثلاثون) نطفتها الانثوية التي تبدأ في تلك اللحظة الحاسمة من الوجود: لحظة الخلق الأولى، أي لحظة (الماء) بحسب الرواية، والتي لا تفتأ تتخلق في الجسد والطبيعة الى أن يأتي التاريخ. وهكذا يتأسطر الزمن وهو يتأرخ، كما العكس. وهذا ما يكون له لعب فاتن آخر في رواية السعودية رجاء عالم (حبّى)، حيث يتخلق الزمن في المكان المقدس وفي الانوثة، فإذا بالأسطورة تصير تاريخاً والتاريخ يصير أسطورة، مثله مثل المكان والطبيعة والبشر والأحداث، مثل أم القرى والجزيرة العربية والقبيلة والطوطم والجن والحكيم وخردزبة وحيان وسارح وطاسين ودهر التملي و..حبّي.
إزاء ما تقدم تأتي تجربة الجزائية رشيدة خواز في رواية (قدم الحكمة)، فكأنما تمضي في اتجاه معاكس، مثلما فعلت روايتا الجزائريين أيضاً واسيني الأعرج (المخطوطة الشرقية) وابراهيم السعدي (بوح الرجل القادم من الظلام)، حيث الزمن يرمح في المستقبل، ولكن على غير طريقة رواية الخيال العلمي.
تغامر رواية (قدم الحكمة) في قراءة خمسين سنة قادمة عبر الحكايات التي تتعدد رواياتها، من الجدة الى الحفيدة الى الكاتبة التي تفتتح الرواية وتختتمها، مؤكدة أن حكايتها لا تصلح أن تكون رواية. وقد ساقت الكاتبة في غير البداية والنهاية ما يلاعب الميتارواية، عبر تساؤل رشا خوزي عن الكاتب الحقيقي للرواية، وهي التي تذهب الى أن الرواية ليست بحاجة الى من يحاكمها، بل الى من يصغي الى حركاتها الدائرية الطفولية، فالأجدى، بحسب رشا خوزي، هو أن نقرأ بحب وشوق الرواية المصنوعة من “لحظات الكشف عن الحقائق الصغيرة التي تملأ أدراج الروح”.
بين ستراسبورغ وموسكو واستنبول وحيفا والجزائر، تضرب رواية (قدم الحكمة)، وتتوالى التواريخ 2003 ـ 2005 ـ 2009… في سنتا هذه تجمع المصادفة بين ريما وأستاذها ميلود في ستراسبوغ، ليلي في سنة 1102 سفر ميلود ورشا خوزي الى موسكو. وهناك تتبلغ رشا بموت حبيبها القديم الفلسطيني، فتعود الى حيفا، وفي فلسطين تمضي الرواية من إسرائيل وقرى عرب الـ1948 الى السلطة الفلسطينية عام 2021 الى أبعد فأبعد في المستقبل الموار بالانتحارات والاغتيالات والجاسوسية الصناعية و..الحريق الجزائري الذي سيرمي رشا خوزي حين تعود الى الجزائر بعد نصف قرن، عجوزاً.
إنها المغامرة الخطرة في تخييل المستقبل. ولئن كان ذلك يبقى رهاناً مفتوحاً لقارئ المستقبل، فمغامرة الكتابة أمام القارئ الآن تبدو مرتبكة بطموحها الكبير، إذ تروم النسب الحداثي، بينما تضيق ساحة اللعب باللاعبين، ويكبر الاشتباه بمد عباءة الحاضرة الى المستقبل.
4 ـ محاولة تأنيث
في حمأة الاشتغال الروائي، وبخاصة لدى الأصوات الجديدة، على الفردي والذاتي، ومنه: علي السيري، تتلامح محاولة الكاتبة في التأنيث، مما يتعلق بالوجود والجسد والكتابة، وبالتفاعل على نحو ما مع ما جاء به خطاب ما بعد الكولونيالية حول النسوية.
غير أن علينا منذ البداية ألا نغفل عن تواضع ما تحقق روائياً وعن محدوديته، وعن كون الأمر صخباً إعلامياً أضعاف ما هو عليه من تحقق إبداعي. كما أن الأمر بدا في حالات عديدة نشداناً للإثارة وتسطيحاً للأنوثة والجسد والجنس.
من القليل الذي يعبر عن محاولة جدية في التأنيث تأتي رواية فيروز التميمي (ثلاثون) التي تبدأ من لحظة البدء، لحظة المرأة. الماء في فجر الكون، عندما “كنت كأني وجدت جزءاً مني، أو كأني اكتملت”. وفي هذا التأنيث للوجود تقرن الرواية في رواية (ثلاثون) بين الماس وجسد الأنثى. فالماء منح المرأة شيئاً من لونه وطبيعته الذي دخل التاريخ دون المرأة، لتبقى وحدها خارج التاريخ، تفتش عما لا تدري، وتعبر الجغرافيا.
وإذ تتألق اللغة الروائية في (ثلاثون) لتعبر عن كل ذلك، تراها تلوح لقصيدة النثر، كأن نقرأ: “أنا التي أستقبل احمرار القاني دون وجل الدم. رعب حروب الرجال المضحكة. يأتيني أليفاً وديعاً مني.. دمي الأحمر”.
ومن هذا القبيل في محاولة التأنيث أيضاً تأتي رواية رجاء عالم (موقد الطير)، حيث تجتمع اللفحة الصوفية ولعبة التقمص واللعب اللغوي.
بالرغم من الأخطاء الإملائية والنحوية الوفيرة على غير العهد بكتابة الكاتبة!
فإذا بعائشة التي تتزوج آدم وتنجب سهل، تنشق بالأمومة الى جسدين، بينما الأب يتوق، لفرط عشقه عائشة وغيرته من ابنه، الى أن يحشر جسده بين الوجه والوجه. وهنا تسوق الرواية خطابها في (التخصيب). فالإنجاب ليس فعل لذة بقدر ما هو استنساخ روح من روحك، ليكون لك (آخر). وبقدر ما هو استنبات من جسدك، هو بتر لجزء منك. وفي تعالق محاولة التأنيث بالجسد، نرى حورية. توأم عائشة. لا تؤمن بجسدها الذي يموت، ولا تعرف إلا به. وجسدها نفسه، يؤكد على أن تدرك مهمة الخيالات غير المرئية التي تتوالد من الجسد البشري.
حين تنجز عائشة لوحتها، فتفتح بالرسم سبلاً جديدة للعشق، يتحد جسدها وجسد توأمها حورية. ولأنه الجسد الصوفي يصير للوحة قلب وعين، وللدمية قلب، وتتحد عناصر الكون بهذا الجسد، فينخطف الحجر في الحجر، والشجرة في الشجرة، والولد في الولد.
تعبر محاولة التأنيث عن نفسها في رواية (موقد الطير) بالإلحاح على اتحاد الذكورية والأنوثة، كما تقرأ عائشة في حالة ابنها، فتقول: “إنه يرجعنا لما قبل الانشطار الاول بتمام تذكيره وتأنيثه”. وقد ألحت على هذا (النظر) رواية رجاء عالم (حبّى)، حيث نرى الطوطمية تنهض من الأرملة ماه سرمد قرينة حبّى، الى نور بنت النائحة الكردية، الى الخنثى ترنجان، الى “تمام التذكير والتأنيث” فتتأله الأنثى وتتقدس، وتكون جنوسه النص.
على نحو مختلف عما تقدم في روايات فيروز التميمي ورجاء عالم، تتنزل محاولة التأنيث في (الآن وهنا)، كما في روايتي سمر يزبك (طفلة السماء) وعفاف البطاينة (خارج الجسد). وفي هذا التنزيل (الاجتماعل التاريخي) يصير تسريد الجسد عنواناً رئيساً. فالرواية الأولى تدوي عالياً بلعنة الأنوثة في المجتمع السوري، فتتساءل الرواية الشابة نور: “أي لعنة حلت بي عندما خلقت أنثى”؟ وتقول: “أن تكون أنثى يعني أن تكوني غير موجودة. فالأنوثة التي كانت فيما تقدم (البدء) وهي تمام التذكير كما التذكير تمامها، باتت الآن لعنة ونفياً. بل إن الأنوثة المتجسدة على الأرض هي لدى المسيحية ولدى فريق باطني إسلامي، بحسب نور: “أرواح مذكرة عاقبها الله بمسخها الى أنثى، وعندما تتحول الروح المذكرة الى أنثى فمن الصعب عليها العودة الى الذكورة.
هي فقط تستمر عبر تجلي كونها امرأة، وذلك أقصى ما تستطيعه. وإذا حدث وأذنبت هذه الروح، فهي تتحول الى حيوان, وربما الى حشرة، وربما الى أشياء أكثر دقة لا تراها العين المجردة”.
بتعرية هذا النفي للأنوثة، تقوم محاولة التأنيث في رواية سمر يزبك كما تقوم في رواية عفاف البطاينة. وإنها لمصادفة لا تخلو من الدلالة أن تصور الروايتان المشهد الجارح لتأكد الأهل من عذرية نور في رواية (طفلة السماء) ومنى في رواية (خارج الجسد).
وفي تجربة منى كان البلوغ اعتقالاً للجسد، وكان العنف هو اللغة التي أنشأه عليها الأب. فالأب يضرب الأم ويضرب منى ضرباً (مادياً) مريعاً، كما يضرب بالسباب الجنسي ضرباً مريعاً أيضاً. وجراء ذلك يأتي العنف الثالث: التدمير الذاتي للجسد. غير أن جسد منى سيخلع هذا القميص بالانتقال من إربد وعمان في الأردن الى بريطانيا، حيث يرتدي جسد منى قميص مسز مكفيرسون بزواجها من ستيورت، ثم يرتدي قميص الكسندرا عندما تضطر الى التخفي طلباً للنجاة من ملاحقة الماضي الأسري حتى القتل.
خاتمة
بالطبع ثمة تجليات روائية أخرى، وربما أفضل، لمحاولة التأنيث، سواء في الروايات التي عرضت لها الفقرات السابقة أم في سواها. تماما كما أن للاستراتيجية السيرية ولاستراتيجية التعيين وللزمن تجليات أخرى، وربما افضل، في الغمر الذي جادت به العشرية الاولى من هذا القرن، كما أشرت في المقدمة. ولكن ما تقدم. كما يؤمل. يمثل لما لعله أكبر تميزاً في ما تقترحه المدونة التي جاءت من سوريا والأردن والجزائر ومصر والسعودية والعراق، عبر اثنتي عشرة رواية، أغلبها هو الرواية الأولى لصاحبتها.
() ناقد وروائي من سوريا
قدمت هذه الورقة في ندوة مجلة “العربي” حول الإبداع العربي المعاصر في الكويت
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى