أي دور للكاتب يلعبه في مجتمعه
هامشي أو خطير.. الأدب العظيم يغير لكن الانزواء لم يعد معاصراً
اسكندر حبش
هل لا يزال الكاتب يستطيع لعب أيّ دور في مجتمعه المعاصر؟ ليس الحديث عن دور الكاتب، من القضايا الجديدة في عالم الثقافة، إذ غالبا ما يعود السؤال ليطرح نفسه، حول هذا النشاط الفكري، وعمّا يمكن أن يلعبه «صاحب الكلمات»، راهنا، وفي جملة من القضايا التي يعرفها مجتمعه الحالي. بالتأكيد عرف العرب فترات عديدة، كان فيها الشاعر مثلا، الناطق الرسمي باسم قبيلته وباسم شعبه، وكان ميلاد شاعر، نقطة تحول، إذ كان الجميع يجدون فيه، ذاك الشخص الذي يستطيع أن يخلدهم، على أقل تعديل.
بالتأكيد تغيرت الحياة، حتى بدا ذلك كأنه جزء من الماضي، على الرغم من أن بعض المجتمعات لا تزال ترى في كُتّابها، جزءا من الوعي الأخلاقي الذي يقود إلى حياة أفضل. في أي حال، واستعادة لهذه الفكرة، حاولنا طرح السؤال التالي على بعض من الكتاب العرب: «هل من دور ما يستطيع أن يلعبه الكاتب العربي اليوم في مجتمعاتنا الراهنة»؟
الجواب الأول، كان للشاعر العراقي خالد المعالي الذي رأى أن الدور «بمعناه الإيجابي، هو دور هامشي جدا»، من هنا، ويضيف قائلا: «الدور الوحيد الذي استطعنا أن نبنيه في العقود الأخيرة، لدور الكاتب العربي في المجتمع، هو هذا الدور الطفيلي».
الشاعرة اليمنية ابتسام المتوكل تقف في جوابها على طرفين، إذ تجد أنه يستطيع أن يلعب دورا ما كما أنه لا يستطيع أن يلعب هذا الدور. تبدأ المتوكل بالقول: «نعم؛ ولا. ربما يكون جوابي مربكا ولكنه ليس مرتبكا فالإجابة بنعم تأتي في حال تذكرنا أن مجتمعاتنا ما زالت مكتظة بمشاكل حقيقية تحتاج إلى وعي لا يتوفر لقطاع كبير من شعوبنا ومن ثم فلن ينهض بهذا الدور في بث الوعي والاشتغال الجاد على قضاياه إلا الكاتب، تماما كما كانت الحال في بداية القرن المنصرم حين كان على الكتّاب استنهاض شعوبهم والسعيّ باتجاه التنوير والتحديث، فما زالت تلك المجتمعات موجودة بكلّ مشاكلها وتعقيداتها وما بدا انه مشروع نهضة عربية مبشرة تم الالتفاف عليه من طرف الحكومات القمعية والطائفية والقبيلة والعسكر تاركا الذين سيطروا على مفاصل الحياة وخاصة التعليم فأعاقوا مشروع التنوير لأنه سيطيح وجودهم وسموا منجزات وهمية وقدموا أمثلة ترهيبية لمآل المعارضة أو قدموا معارضة من صنعهم تشتغل وفق خطوط حمراء لا تتجاوزها. إذاً الكاتب العربي الجاد والنزيه ما زال بوسعه ومن واجبه أن يسعى للقيام بدور حقيقي في مجتمعاتنا الراهنة». أما من الجهة الثانية، أي عدم قدرته على لعب أي دور، تقول ابتسام المتوكل: «أما عن لا، ففي ظلّ إقصاء الكاتب المستقلّ عن الفعل المجتمعي وتقسيم الكتّاب، سياسيا وطائفيا وقبليا وعشائريا، يصعب كثيرا على الكاتب أن يقدم مشروعه المستقل ورؤيته النزيهة لخدمة مجتمعه والسعي لمحاولة معالجة قضاياه العالقة خصوصا في ظلّ سياسة الترهيب التي تمارس علانية تجاه من يقدم صوته ووعيه ورأيه بمعزل عن القطيع المسيّس؛ وهنا لا يمكنني إلا أن أتذكر الكاتب اليمني محمد المقالح المختفي منذ أكثر من شهرين جرّاء آراء ورؤى تخصه في قضايا مجتمعه الشائكة التي سكت عنها الجميع لأنها عدت خطا أحمر ولهذا كان اختفاؤه أو بالأحرى إخفاؤه نتيجة حتمية لخروجه عن ما صار معلوما ضمنيا وبالضرورة من أنه منطقة خطر ستودي بأيّ كاتب يقتحم أسرارها ومسكوتاتها ويقدمها لقرائه دون تشذيب أو تمويه. إن ذلك يعني أن على الكاتب العربي أن يقدم حياته وأمنه مقابل دوره المرتجى لخدمة مجتمعه أو حتى التفكير في تحليل ونقد الأوضاع الراهنة التي تعزز من بقاء ثالوث الجهل والفقر والاستبداد وهذا ما يعيق كثيرا وجود دور لكتابنا في مجتمعاتنا الراهنة».
تداعيات الكتابة
الشاعر العراقي باسم المرعبي، يرى أنه «لا يمكن للكاتب أن لا يقرّ بدور ما له حتى لو كان هذا الدور هو من تداعيات عملية الكتابة وليس من صلبها. على أن التأثير قائم، في نظري، متجلياً عبر صور عديدة. قد لا نلمس هذا التأثير، الآن، بالمعنى الذي كانت فيه ـ على سبيل المثال ـ قصيدة للجواهري تعبئ الجماهير وتقود إلى التظاهر في شوارع بغداد. وعلى الرغم من «فخامة» مثل هذا التأثير ظاهريا إلاّ انه يبقى تأثيراُ برانياً، طارئا تتجلى فيه نفسية الحشود كما تسمّى في علم النفس الاجتماعي ومن الممكن أن يكون لخطبة سياسية مليئة بالأغلاط والمغالطات التأثير ذاته في التحشيد. إلا أن الأثر الأقوى والأهم هو ذاك الذي يتركه الكاتب عميقاً في نفس قارئه والذي ربما يقود إلى تغييره وإن بصمت. يقول الكاتب الأرجنتيني ارنستو ساباتو متحدثاً عن التأثير الذي يمكن أن تجترحه الرواية: «الروايات العظيمة هي التي تغيّر قارئها وكاتبها على حد سواء». لقد تحولت أفكار فلاسفة عصر الأنوار إلى دساتير ومواثيق اجتماعية في أوروبا الغربية نعمَ مواطنها بمزاياها الإنسانية وهو مدين في الكثير من جوانب تحضره ورفاهيته لتلك الأفكار والنصوص، على الأقل في تأسيسها لحاضره الذي يحياه».
ويضيف المرعبي طارحا سؤالا آخر: «لكن ماذا عن الكاتب العربي ومجتمعه»؟ ويحاول الإجابة بالقول: «ليس المواطن العربي أقل تقبلاً لما يمكن أن ينتشله من بؤس واقع قاتم إلى شفافية فراديس إنسانية منشودة وليس الكاتب العربي بأقل عناءً وتطلعاً وحلماً لإحداث نقلة في حياة مجتمعه إلا أن رأسه يصطدم على الدوام بسقف «السياسة» الذي هو أوطأ مما يجب إن لم يكن هذا السقف يريد لكل شيء أن يبقى في مستوى الحضيض. كم من كاتب متنور أو مثقف تجرأ على الجهر بأفكاره بالحرية والعدالة الاجتماعية أو إنهاء حالة الطوارئ والعسكرة في بلده لم يكن مصيره السجن بل ما هو أسوأ من ذلك أي القتل، وإن كان هؤلاء قلة على أية حال. الكاتب العربي يمكن له أن يغيّر على أن يؤمن بإمكانية تحقق ذلك حتى لو استغرق انتظاره زمناً استثنائياً، حتى لو بدا الأمر مستحيلاً! رسم ذات مرة بيكاسو بورتريه لغيرترود شتاين، الكاتبة والشاعرة الأميركية، فقيل له انه لا يشبهها فأجاب بيكاسو سيشبهها، سيشبهها! في ما بعد أخذت شتاين تعتقد أنها بدأت تتغير لتشبه هي تخطيط بيكاسو. في الثمانينيات عرفت شخصاً في العراق ذا تعليم بسيط ويعمل سائقاً اسمه «مجيد حرز» وكان ما يحفظه ـ عن ظهر قلب ـ من قصائد الماغوط يدعو للعجب كثرةً وتذوقاً وأصبح حديث المثقفين في المدينة! هل ثمة تأثير أبلغ من ذلك، حتى لو أردنا اختصار دور الكاتب في جزئية مثل هذه»؟
الانزواء
الكاتب المغربي عبد العزيز الراشدي يبدو أكثر تفاؤلا وأكثر اقتناعا بأن الكاتب لا يزال يمكن له أن يلعلب الدور في مجتمعه، يقول الراشدي: «صدّقني يا عزيزي اسكندر إذا قُلتُ إنني كُنتُ دائما ـ على عكس الكثيرين من أبناء جيلي – واحدا ممن يؤمنون بدور الكاتب والمثقف، بل إنني استغربتُ للكثير من الشعارات التي رَفَعَها الأدباء الجدد خلال سنوات التسعينيات، في فورة التمرد على كلّ يقين، التي تدعو إلى تَبْجيلِ الانزواء وتحطيمِ صورة المثقف الذي يحتكّ بالمجتمع ويساهم في الحراك السياسي والاجتماعي، (لأن المثقف انخدع بقوته الزائفة، واكتشف أنه لم يغيّر حتى نفسه). كان الكثير من مبررات الانزواء صحيحا، لكن الرّد كان متطرفا، فالانزواء لا يحلّ أي شيء.عموما، لقد انتهت هذه الفكرة وانمحت ـ أعني فكرة الابتعاد عن الشأن العام ـ بعد أن استيقظ المثقف من سُباته القصير خلال الألفية الثالثة على حرب العراق وغزة وارتفاع حرارة الأرض وسيادة قيَم الابتذال والخواء، وأدرك أن غياب ثقافة البناء والحق لا يملأ فراغها إلا ثقافة الموت والفوضى، وأدرك أنه لا يعيش في العالم لوحده وأن له مهمة (وإن كانت، على كل حال، مهمّة غير تاريخية أو أسطورية كما تصوّرها يوما)، بل هي مهمّة طبيعية تكبُرُ وتصغر حسب حجم المثقف ووضعه والتزامه الأخلاقي مع كتابته ومع نفسه قبل أي شيء»…
ويضيف الراشدي، محاولا أن يقيم مقارنة راهنة، بالقول: «حسنا، إننا نرى اليوم ما تفعله المدوّنات و«الفايس بوك» والتأثير الكبير لهــما على الأوضاع حتى في بلادنا العربية الغارقة في الجهل. ونرى قيمة المقــــالات التي يكتُبها أدباء ومفكّرون دفاعا عن البيئة وحقوق الإنسان، ونرى أهمـــية وتأثير أن يُصدِرَ الكاتب بيانا يدافع فيه عن قيمة ما. لا زلتُ أتذكّر ذلك البيان الذي أصـــدره غابرييل غارسيا مــــاركيز دفاعا عن الشعب الفلسطيني، ولعلــها ذكرى تنفع المثقفين»…
مهما يكن من أمر، بدور أو بغير دور، لا بد أن يطرح السؤال إشكالية أخرى، هي إشكالية الكتابة نفسها. ولعلها هي الإشكالية الأهم التي يجب أن ننتبه لها.
السفير