أزمة أخلاقيات الصحافة
محمد قيراط
قبل شهر كتبت في هذه الصفحة مقالاً موسوماً «عندما ينحرف الإعلام عن مساره»، شرحت فيه مخاطر خروج المؤسسات الإعلامية عن رسالتها النبيلة والدخول في معادلة «فبركة» الواقع، والخوض في الفتن والتحريض على القتل ونشر الكراهية والحقد وثقافة إقصاء الآخر.
وخلال هذه الفترة عشنا واقعا أقل ما يقال عنه إنه كشف المستور عن إفلاس مؤسسات إعلامية وعن بعض من دخل مهنة الصحافة واغتصبها وتطفل عليها، ممن لا علاقة لهم بها، لا علميا ولا مهنيا ولا أخلاقيا ولا ميدانيا. وما سمعناه وقرأناه وشاهدناه، كان فيه الكثير من الدجل والتضليل، في ضوء النهار وأمام مرأى ومسمع الجميع.
شاهدنا حربا إلكترونية بين دولتين شقيقتين، كنت أنا شخصيا أتمناها تصب في إطار التنمية والتطور والممارسة الديمقراطية، وتبادل العلم والمعرفة والتجارب الناجحة، بدلا من الشتم والتجريح والقذف والتضليل والتشويه.
هذه الحرب الإلكترونية عبر وسائل الإنترنيت المختلفة، مثلت وسيلة لا مثيل لها لفبركة الرسائل والصور والفيديوهات، للنيل من الآخر وشتمه وإهانته، دون رقيب ولا حسيب، ومن دون ضمير ولا مسؤولية ولا التزام ولا احترام لذكاء المشاهد وأخلاقه وقيمه.
وهذا بطبيعة الحال يخرج عن أدبيات وأخلاقيات العمل الإعلامي الهادف والمسؤول والنزيه. ما شاهدناه جسّد كيف أن الشارع هو الذي قاد الإعلام وليس العكس، فالشارع بل الحشود وجهت الإعلام في الاتجاه الخطأ البعيد عن الصدق والحرفية، والامتثال لأخلاقيات مهنة شريفة تعمل وتكافح من أجل البناء وكشف الحقيقة.
ففي الوقت الذي كنا ننتظر من الفضائيات ووسائل الإعلام المختلفة أن تقوم بتهدئة الأجواء والدعوة إلى التبصر والتعقل، وتوجيه الشباب المراهق الطائش في الاتجاه السليم والصحيح، لاحظنا فضائيات عديدة وصحفا تتهافت على شحن الشباب المراهق بالحقد والكراهية نحو الآخر.
كنا ننتظر من الفضائيات أن تكّذب الإشاعات وتكشف عن التجاوزات وتنحاز للحقيقة، حتى ولو كانت مرة. لكن، مع الأسف الشديد، ما شاهدناه هو «بلطجة» و»فهلوة» لا يصدقها أي عاقل!
يعتبر علم الأخلاق العلم الخامس المكون للفلسفة بعد الميتافيزيقا، والمنطق، وعلم المعرفة، وعلم الجمال. والأوساط الأكاديمية العلمية التي اهتمت بدراسة الإعلام والاتصال، لم تول العناية اللازمة لدراسة البعد الأخلاقي للمؤسسة الإعلامية وللعملية الإعلامية، في مجتمعنا العربي بصفة خاصة والعالم بصفة عامة.
ففي الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال، ظهرت مواثيق الشرق وأخلاقيات الصحافة في العشرينيات من القرن العشرين، ورغم هذا فإن المشكلات الأخلاقية والتجاوزات والضغوط التي تعيشها المؤسسات الإعلامية في مختلف أنحاء العالم لا تعد ولا تحصى، والخلافات ما زالت قائمة بين الناشرين والممارسين، وبين المعلنين وأصحاب النفوذ المالي والسياسي ومختلف القطاعات في المجتمع.
وتحتل وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، مكانة استراتيجية وحساسة في المجتمع، وينعم القائم بالاتصال بمكانة لا تقل أهمية عن تلك التي تتمتع بها صاحبة الجلالة، ومثله مثل الوسيلة الإعلامية، فإنه يتمتع بمزايا ونفوذ وتسهيلات قد لا تتوفر لمعظم أفراد شرائح المجتمع الأخرى.
ويقال عن الوسيلة الإعلامية إنها سلاح ذو حدين، مما يعني أن كل هذه الأمور تحتاج إلى قوانين وتشريعات وتنظيم وتقنين وأسس ومبادئ وأخلاقيات، تعمل في إطارها المؤسسة الإعلامية والصحافي.
من هنا، نرى أن الممارسة الإعلامية بدون هذه القوانين والمبادئ، وبدون ميثاق شرف يحمي المؤسسة الإعلامية ويحمي الصحافي من النزوات النفسية، ومن الانحراف واستعمال المهنة لتحقيق أغراض شخصية أو مؤسساتية أو حزبية أو غيرها، تصبح تحت رحمة من يشاء من أصحاب المال والجاه والنفوذ، وتتحول المؤسسة الإعلامية في خدمة حفنة من الفاعلين في المجتمع، الذين يغتصبون الحقيقة والمعلومة والخبر لخدمة أغراضهم الشخصية، فينشرون ما يريدون ويخفون ما يتناقض مع مصالحهم وأفكارهم.
المؤسسة الإعلامية العربية في غالب الأحيان، يُشرع في إنشائها وتمويلها دون النظر في مستلزمات كثيرة يجب توفيرها وتحديدها قبل العمل الإعلامي نفسه. مؤسسات إعلامية عربية كثيرة لا تعرف من ميثاق الشرف ولا من ضرورات نقابة الصحافيين إلا الاسم.
وكلنا يعلم أن معظم المهن في عالمنا المعاصر لها قوانينها ومواثيقها الأخلاقية ونقاباتها، من أجل صيانتها وحمايتها والذود عنها وحماية من يمارسها، ومراقبته حتى لا يستغل المهنة لأغراض بعيدة عن القيم والأخلاق، وحتى لا يُظلم أو يُهان.
في العالم العربي تم وضع العربة قبل الثيران، وتم شراء التكنولوجيا دون التفكير في الرسالة وفي ما تبثه المؤسسة الإعلامية من خلال تلك التكنولوجيا. مارس العرب الإعلام وتفننوا في استعماله، دون التفكير في الشروط والمستلزمات والإجراءات التنظيمية والأخلاقية للعمل الإعلامي المسؤول والهادف، وهكذا وبعد عقود من الزمن وبعد فوات الأوان، وبعد أن وُظفت وسائل الإعلام بطرق غير مهنية وغير احترافية ولا أخلاقية، وبعد الفوضى الإعلامية المنظمة، يتباكى الكثيرون في هذه الأيام لما وصل إليه الإعلام العربي، وخاصة الإعلام الفضائي الذي أصبح يهدد النسيج القيمي والأخلاقي للمجتمع.
ميثاق الشرف الإعلامي ضرورة حتمية للمؤسسة الإعلامية، وأداة من أدوات العمل الإعلامي الناجح. فكل مؤسسة إعلامية مطالبة بأن تحدد بكل وضوح ودقة المحرمات والمباحات، وواجبات القائم بالاتصال وحقوقه.
وعادة تتحدد المحاور الرئيسية لميثاق الشرف الإعلامي في المسؤولية، الأخلاق، الدقة والموضوعية، احترام شعور وديانات ومقدسات الآخرين، احترام الحياة الخصوصية لأفراد المجتمع، وحق الجمهور في الأخبار والمعرفة والمعلومات، وأخيرا الالتزام باحترام المهنة والدفاع عنها، وحمايتها من كل من يحاول المتاجرة بها أو استعمالها لأغراض غير المصلحة العامة والكشف عن الحقيقة. ما شاهدناه مؤخرا في بعض الفضائيات العربية على خلفية مباراة الجزائر ومصر، كان جريمة في حق شرف مهنة اسمها الصحافة.
البيان