تحقيق حول الاختناق العمراني في دمشق والمدن السورية 2: تخطيط مساحة عيش جديدة
بول روس
نشرنا في “قضايا النهار” نصين مأخوذين من مجلة “سيريا توداي” الصادرة باللغة الانكليزية في دمشق يتناولان، في ضوء معلومات رسمية، جوانب غير متداولة من المشاكل العمرانية في المدن السورية وخصوصاً العاصمة دمشق، بما في ذلك الحجم الكبير المفاجئ للبناء غير الشرعي. اليوم ننشر نصاً ثالثاً للخبير في التنظيم المدني بول روس مأخوذاً من المجلة المذكورة ينطلق من مشكلات نمو “الاحياء غير الرسمية” ليطرح ضرورة التخطيط المدني الفاعل:
على غرار بلدان عدة، شهدت سوريا نمواً مدنياً مهماً في الأعوام الأخيرة، مع بلوغ النمو خمسة في المئة في بعض السنوات. يعيش أكثر من 50 في المئة من السكان الآن في مناطق مدنية، ومن المتوقّع أن ترتفع هذه النسبة إلى 75 في المئة بحلول 2050. ثمة عوامل عالمية مألوفة خلف هذا النمو المدني السريع، بينها النمو السكاني والنزوح الداخلي.
لكن هناك ضغوطات إضافية في سوريا بما في ذلك تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين الإقليميين، من فلسطين في مرحلة سابقة، ومن لبنان والعراق في الآونة الأخيرة، والذين تستقبلهم سوريا برحابة صدر.
ولمعالجة ضغط النمو المدني، يجري اللجوء أكثر فأكثر إلى البناء غير الرسمي الذي تشهده البلاد منذ 40 عاماً على الأقل. على الأرجح إن النمو غير الرسمي يشكّل الآن 50 في المئة من النمو المدني، ويعيش 40 في المئة من سكان المدن الكبرى في مستوطنات غير رسمية. في ضوء هذه الأدلة، لا بد من الاستنتاج بأن النمو غير الرسمي هو شكل أساسي من أشكال التوسع المديني في سوريا – ولا يقتصر فقط على المساكن.
إدارة النمو المدني
في هذه الظروف، من المفيد جداً أن تعمد وكالة مانحة إلى تمويل أعمال معمّقة حول المسائل المدنية العملية الأساسية في سوريا وتشجيع مقاربة راسخة لها. ومن هذه المشاريع برنامج تحديث إدارة البلديات الذي يموّله الاتحاد الأوروبي والحكومة السورية. إنه من أكبر برامج الاتحاد الأوروبي في البلاد. وهو يهدف إلى تحسين فاعلية الحاكمية المحلية، ولا سيما في إدارة النمو المدني. يوفّر البرنامج خلال ثلاث سنوات خطط عمل متداخلة تغطّي الإصلاح التشريعي والمالي والإداري. ويشمل العمل المهم الذي يتولاّه البرنامج التخطيط المدني ومواضيع ذات صلة: أنظمة المعلومات الجغرافية، والشراكات بين القطاعين العام والخاص، وإدارة الأملاك، والأجندة 21، والتخلص من النفايات الصلبة، والمدن القديمة والمواقع التراثية، والسير والنقل، والتخطيط المناطقي. وترتبط مجالات عدة يهتم بها البرنامج بمسألة الاحياء غير الرسمية في سوريا.
لقد سنحت الفرصة لبرنامج تحديث إدارة البلديات لمعاينة أربعة احياء سورية غير رسمية بالتفصيل، بينها حي قاسيون في دمشق. وقد تم العثور على مجموعة غنية من الأشكال المدنية والتركيبات الاجتماعية. تقريباً كل الاحياء غير الرسمية التي عاينها البرنامج تفتقر إلى مساحات عامة مفتوحة ومواقف للسيارات ومساحة للمنشآت العامة ومعايير مناسبة في تصميم الطرقات. كما أن الروابط مع باقي المنطقة المدنية سيئة في معظم الأحيان. لا تراعي الاحياء غير الرسمية معايير بناء ملائمة، ولذلك يمكن أن تكون غير سليمة. ويمكن أن تزيد ظروف الأرض الصعبة كثيراً من هذه المخاطر، كما في قاسيون. وهكذا فإن المباني معرّضة للانهيار في ظروف معيّنة، لكن خدمات الطوارئ لا تستطيع الوصول إلى المكان بسهولة.
تأثير الاحياء غير الرسمية
الاحياء غير الرسمية موجودة في العديد من البلدان، وقد تطوّر فهم عالمي لطبيعة هذه الاحياء وتأثيرها على شكل المدينة ونوعيتها. غير أن التجربة السورية، كما نراها من خلال برنامج تحديث إدارة البلديات، تتحدّى هذا الفهم بطريقة مفيدة.
القاعدة في سوريا هي أن “البناء غير الرسمي” لا يتطابق مع الصورة المألوفة عن أحياء فقيرة متشابهة تفتقر إلى الخدمات والشروط الصحية من النوع الذي ينتشر في أميركا الجنوبية وأماكن أخرى. الوضع أكثر تعقيداً بكثير. صحيح أن في سوريا الكثير من الاحياء غير الرسمية التي يشغلها فقراء يعيشون في ظروف سيئة، لكن هناك أيضاً عائلات من الطبقة الوسطى تعيش في احياء غير رسمية، وأحياناً في فيلات باهظة الثمن. فضلاً عن ذلك، تنصّ توجيهات رسمية تعود إلى مطلع الثمانينات حول وجوب توفير الخدمات الأساسية لكل الاحياء غير الرسمية في سوريا. وقد عملت الحكومة على مستوياتها كافة جاهدة لتوفير هذه الخدمات ما عدا في الأماكن التي يتعذّر فيها ذلك جغرافياً، كما في أجزاء من قاسيون.
لكن ثمة أمر أكيد. نظراً إلى أن النمو غير الرسمي يشكّل 50 في المئة من النمو المدني، وإلى أن الحكومة التزمت توفير الخدمات لكل الأملاك السكنية، بما في ذلك غير الرسمية منها، من الواضح أن هناك تراجعاً كبيراً في السيطرة على شكل المدن السورية وتنظيمها في المستقبل.
لا شك في أن لهذا الأمر تداعيات على مستقبل المدن السورية وآليات التخطيط المدني. إذا كان نصف السكان قادرين على الحصول على مساكن من طريق آليات غير رسمية – أو يختارون ذلك – وعلى تجاهل النظام الرسمي، يجب إذاً طرح أسئلة عن النظام برمته وقدرته على تلبية الحاجات الأساسية.
يضع ذلك مسألة الاحياء غير الرسمية في صلب السياق المتعلق بالوسائل التي يستنبطها المخطِّطون المدينيون من أجل ضمان حسن سير المدن وتحوّلها مكاناً صالحاً للعيش. ثمة حاجة إلى رؤية أوسع نطاقاً.
ضغوط تغيّر معالم المدن
إلى جانب الضغوط في مجال النمو المدني، يواجه نظام التخطيط المدني السوري ضغوطاً قوية ومألوفة تؤدّي إلى تغيّر معالم المدينة، ومنها:
• تمارس زيادة تملّك السيارات ضغوطاً أكبر على نظام الطرقات ومواقف السيارات وتؤدّي إلى زيادة التلوث.
• الحاجة إلى تنمية قطاع التسوّق، بما ينسجم مع تزايد الثروة. ليست هناك حاجة إلى مزيد من المتاجر وحسب، إنما أيضاً إلى متاجر أكبر، أي مراكز تجارية كبرى “مول” في شكل أساسي. غير أن النسيج المدني الحالي لا يتيح لأسباب متعددة فرصاً كثيرة لإنشاء مثل هذه المراكز.
• تعترض مشكلات مشابهة توفير منشآت للخدمات المالية والتقنية، وتترافق في هذه الحالة مع الحاجة إلى شبكات خدمات إلكترونية عالية النوعية.
• تنمو السياحة، ولا سيما في الأجزاء التاريخية الأعلى قيمة في المدن السورية، وتسعى للحصول على حصتها الخاصة في المساحات والأنظمة العامة.
• تحسين نوعية الحياة: لدى سكّان المدن توقّعات طبيعية بشأن إدخال تحسينات في الخدمات الاجتماعية والصحية والتربوية وسواها.
• يرتدي الدور السوري في التجارة وحركة النقل عبر القارات أهمية تاريخية في الوقت الحالي، وفي المستقبل في شكل خاص. تنجم عن ذلك حاجة ماسّة إلى تطوير المرافئ وبناء طرقات وسكك حديد تتمتّع بمعايير عالية.
تكمن المشكلة في السرعة التي تغيّر بها هذه القوى شكل المدن السورية وطبيعتها.
تملك سوريا نظام تخطيط مديني متطوراً مستوحى من أوروبا وأماكن أخرى، وقد جرى تطبيقه بصورة شاملة. غير أن نمو المستوطنات غير الرسمية إلى جانب أدلة أخرى تظهر بوضوح أن النظام الرسمي الحالي عاجز عن اللحاق بوتيرة التغيّرات.
تخطيط مدني فاعل
تقع مسؤولية رفع هذا التحدي على عاتق المخطِّط المدني. ثمة حاجة إلى منظومات تخطيط مدني أسرع وأكثر دينامية ودقّة. يبيّن العمل الذي يقوم به برنامج تحديث إدارة البلديات ما يأتي:
• يجب أن يكون جمع المعلومات وتحليلها في مجال التخطيط المدني سريعاً وفاعلاً، مع الإفادة من التكنولوجيات الجديدة.
• يجب أن يرتبط التخطيط مباشرة بالتطبيق كي يكون واقعياً ومحترماً.
• يجب أن يذهب التخطيط أبعد من الجغرافيا والمساحة.
• ثمة حاجة إلى أنواع مختلفة من الخطط لأهداف مختلفة، لكن يجب أن تكون الخطط متكاملة.
• يجب توافر اليقين (لدى السكان والمستثمرين) والمرونة (للإفادة من الفرص).
من المناسب أيضاً اعتماد وسائل سريعة لإعادة تصميم المناطق الأقدم، الرسمية وغير الرسمية على السواء، التي لا تفيد من ترتيبات مكانية ملائمة. ومن المفيد كذلك اتّباع أسلوب مباشر لدمج الاحياء غير الرسمية في النسيج الطبيعي للمدينة جغرافياً واجتماعياً واقتصادياً وقانونياً.
فضلاً عن ذلك، من الجيد أن يكون هناك برنامج شامل من أجل إشراك السكان باكراً، ولا سيما المجموعات غير الممثَّلة كما يجب في المتحدات الأفقر في المناطق الرسمية وغير الرسمية على السواء. ويجب أن يقود هذا مباشرةً إلى تطبيق البرامج المتّفق عليها. يجب ألا تكون هذه الخطوات كبيرة أو باهظة التكاليف كي تحقّق الفاعلية في تحسين نوعية الحياة.
ويتعيّن علينا أن نعالج مكامن الخلل في منظومات التخطيط المدني الحالية من أجل رفع التحدّيات الجديدة. يقع على عاتقنا، نحن المخطّطين المدنيين، لا على عاتق الآخرين، معالجة هذه المسائل. يجب أن نقرّ بالحاجة إلى اعتبار المدينة كياناً متكاملاً يتغيّر باستمرار ويعيد تعريف نفسه ومستقبله رداً على مجموعة متنوّعة من القوى، ويجب استخدامه لتحقيق الفائدة القصوى باستمرار للمواطنين كافة. يرتدي إنشاء “أماكن صالحة” للجميع في عالم يتبدّل باستمرار، أهمية قصوى. يجدر بنا نحن المخطّطين المدنيين أن نتحرّك بسرعة لنتمكّن من مواكبة ما يجري على الأرض.
(رئيس فريق التنمية المدنية في البرنامج السوري لتحديث إدارة البلديات المدعوم من الاتحاد الأوروبي. ترجمت النص نسرين ناضر)
النهار
اقرا الحلقة الاولى من هذ التحقيق على الرابط التالي
https://alsafahat.net/blog/?p=19469