من درعا إلى دير الزور
صلاح الدين بلال
لا ادري لماذا كلما أسافر إلى بلد جديد تحت سبب من الأسباب، أتذكر تلك الزيارة التي اصطحبني فيها والدي معه لتقديم واجب العزاء في إحدى العشائر العربية والتي فقدت رجل من رجالها بعد أن انتهى أجله في هذه الدنيا، ولما كانت للجيرة حقوق وطلب الوالد طاعة فقد رافقت والدي بكل رضى وسرور، بالرغم إنني لا أحب أمسيات العزاء وخاصة في تلك السن المبكرة، ذهبنا معا وبرفقة بعض الوجهاء قاصدين مضارب عشيرة المتوفى، وحين دخلنا خيمة العزاء كان ثمة رجل يجلس في صدر المجلس يلقي بخطبة سرعان ما قطعها للترحيب بالضيوف القادمين. وبعد أن اكتملت دائرة التحيات والتعزيات ككل العادات المتبعة في المنطقة، أكمل الرجل حديثة من حيث انتهى به المقام،( يقولون: اذكر محاسن مواتكم ) ، والرجل كان يدلو وبكل ما أستطاع إليه سبيلا وتعابير في نبش سيرة الرجل من زاوية المحاسن والمآثر، علما بأنني لم اعرف الرجل المتوفى لا من قريب ولا من بعيد، / كما ما هو ظاهر فمن المؤكد لي أن الرجل لم يكن سوى فلاح بسيط وتاجر أغنام/ . …. حتى وصل الخطيب إلى الجملة التالية والتي ستبقى عالقة في ذهني ما حييت ليقو ل وبلهجة عربية بدوية : ” ( والله الرجال يا أهل الخير ما ترك شي في هي الديرة، وزاد أكثر الله يرحمه ما حرم حال من شي، يا جماعة الزلمة دار كل الدنيا ودوما كان يسافر من هين لهين و في كل سنة إلا هو داير في ها البلاد، ول ياجماعة هو داير كل الدنيا يا ولو من درعا حتى ديرالزو ؟؟؟!!! ) ” .
عندما قطعت الحدود إلى لبنان وانأ في سن السابعة عشر من عمري، اعتبرت أنني انتصرت على الرجل المرحوم ابن تلك العشيرة التي ذبحت لأجله الخرفان وضربت له أيام سبع من العزاء والترحام، وقد سبقته في رؤية الدينا أكثر منه بقليل.
بعدها سافرت إلى تركيا في زيارة عائلية وكانت جولة جديدة أخرى لرؤية عالم لا يبعد مستوى نظر لكن حدود الممنوعات وأسلاك القمع والخوف تصنع دوما للخيال عالما من الأحلام بمعرفة عالم ما وراء تلك الجبال وأسراره ؟؟ . بعد عدة سنوات ورغبة في دراسة الإخراج السينمائي، سافرت إلى الاتحاد السوفيتي وهو في أواخر أيامه، حينها ذهبت خلسة كما كانت هي الحال المتبعة حينها بين صفوف المنتمين للأحزاب السياسية الممنوعة والمقموعة، لعدم إثارة الأمن واجهزة المخابرات، الذي يتخوف من الشيوعية ومن جهة أوطانها وكل مسافر أو قاصدا إليها، بالرغم من كل العلاقات الإستراتيجية والتحالف العسكرية المعلنة بين الدولتين والشعارات الطنانة التي كنا نسمعها بين الدولتين والصداقة الحميمة بين الرئيسين الكبيرين ؟؟؟؟ .
وتتالت بعدها الإسفار حتى زرت اغلب الدول الاشتراكية السابقة وحين انهار الاتحاد السوفيتي السابق ومنظومته، حل بي الرحال العيش والإقامة في دولة ألمانيا ( الامبريالية ) ونظرا لإزالة الحدود بين دول الاتحاد الأوربي فقد قمت بزيارة عديدة إلى اغلب دول الاتحاد حتى غدا السفر بين دولها كما السفر بين حلب وعفرين، طبعا بدون إن ألمح يوما او اتعرض الى دوريات الأمن وحواجز الجمارك والتفتيش الطيارة كما في سورية والتي تثير في اضلاعك الخوف لكل صغيرة وكبيرة، والخشية من لزق أي تهمة بك قد لا تتوقع عقباها فربما حملك لآلة موسيقية كوردية او كتاب بلون احمر قد يثير حولك الشبهات ومكمن الخطر الخارجي ؟؟؟؟.
اليوم إنا في أمريكا ( سأحدثكم لاحقا عن اهلها واهلنا فيها )، كنت قد زرت سابقا كندا، الحكاية التي ذكرتها لكم في البداية عن رجل العشيرة، تجعلني اضحك كلما مرة وربما احزن على ذلك الرجل وعلى الكثير من الناس الذين تفوتهم رؤية الدنيا قبل إن يأخذ رب العباد الأمانة ويعيدنا إلى حفنة من تراب،… في سورية كما هي حال في الكثير من البلدان التي ترزح تحت سياسة الجهل والخوف من الآخر، ومن انعدام برامج وثقافة السفر والسياحة وروح الاطلاع والبحث عن تاريخ العالم، يولد البعض من البشر ويموت الكثير من الناس دون إن يرى ابعد من حدود ماشيته وقريته وفي أكثر الأحوال مدينته ؟؟؟؟ . هل لأن سوريا كما يردد الإعلام ليلا ونهار بأنها أبوالدنيا وإذا كان ذلك صحيح فمصر حقيقة هي أم الدنيا أم العالم المتبقي فليس غير صفة عيال ويمكن عيال واولاد حرام .
تحت هذه الاكذوبة يموت الكثير وهو يعتقد بأنه عالمه هو كل الدنيا ؟؟؟؟ . ولكن أي دنيا ، هذا السؤال !!! .
ثلاثين عاما وأنا أسافر وأتجول بين عدة بلدان واستطيع القول بأنني لم أرى الدنيا بعد، وربما ما زلت جاهلاً في الكثير من ثقافة الشعوب وتاريخها التي تستحق مني عناء البحث والسفر وروح المغامرة، وما زلت أرغب بكل حرارة وحتى يومي الأخير أن أخوض غمار البحث و السؤال عن أم الدنيا، وعن قطع مسافة أكثر من درعا إلى دير الزور .
2009-12-04
واشنطن
خاص – صفحات سورية –