الفقر السنغالي موجود في بلادنا …
تحقيق للصحافي المعتقل معن عاقل
لا يوجد فقر في سورية مقارنة بالسنغال”، تصريحٌ لافتٌ لأحد مسؤولينا يحمل معنيين، الأول متفائل يتطلب من فقرائنا الحمد والشكر على النعم المُغْدَقَة عليهم، وتأويله: انظروا إلى مصيبة غيركم تهون عليكم مصائبكم، والثاني متشائم يحمل في طياته صيغة التهديد، وتأويله: إن كنتم تعتقدون أنه لا يوجد دَرَكٌ أسْفَلَ مما أنتم فيه، فأنتم مخطئون، يمكننا أن نمتص دماءكم حتى آخر قطرة بحيث تصبح السنغال بالنسبة لكم جنة ونعيماً.
بالتزامن مع هذا التصريح قيل لي إن هناك منطقة متاخمة لمدينة دمشق، وبتعبير أدق على مرمى حجر منها، تعيش واقعاً سحرياً أو سحراً واقعياً، عالمٌ آخر من الخيال تبصقه الأرياف الفقيرة على أطراف العاصمة، سنغالُ صغيرة في بلدنا الكبير، أو بشكل شعري، إله الفقر السنغالي بنى عرشاً جديداً في الغربة أو انتدب سفيراً له، تحت اسم جميل يحمل الكثير من الدلالات: غزال.
هي فعلاً غزال في كل شيء. منذ أسابيع زرت فيها ما لا يقل عن خمسين منزلاً، النظيف منها أحصيت فيه خمس ذبابات، وعلى باب أحد المنازل، شاهدت صورةً جمعت اثنين من قادة الأمة العظام، وفوقها كانت أكثر من مائتي ذبابة تتنزه غير عابئة بالبرد ولا بتلويحات صاحب المنزل الذي يدعو لهما وهو يستقبلنا. إنه اعتداء سافر من إله السنغال على أمننا الوطني.
أخيراً صادفت أعجوبة الدنيا الثامنة. دخلتُ منزلاً في وسط غزال تماماً، كان نظيفاً فعلاً، ونعمتُ بالدفء، وانتظرتُ كأس الشاي لأحتسيه بعيداً عن تلك الحشرات الصغيرة التي شاطرتني وقاسمتني جميع المشروبات طيلة أيام من تجوالي هناك، وما إن وضعت الكأس على شفتي، حتى وجدتها، ذبابةٌ عائمةٌ فوق المشروب الساخن، تجسيدٌ لقدرة إله السنغال العظيم، وآمنت حينها أن الأعاجيب سبع وستظل سبع، وأن روح المعجزات فارقت سطح الغمر، وتعالت، تاركةً خلفها تلك المراحل الوسيطة بين الحيوان والإنسان.
المطر في غزال لعنة، قليلٌ منه يُحَوِّلُها إلى بلدة عائمة، وكثيرُهُ يُذَكِّرُ بطوفان نوح، وفي الحالتين اكتشف السكان تلك الهبة العظيمة فيهم: كائنات برمائية مزودة بجزمات ذات قصبات طويلة، تبحر في أقسى الظروف، تجتاز مستنقعات وأنهار ضَنَّتْ عليها الطبيعة بالجزر، الأكثر تطوراً في تلك الكائنات يستطيع التحول عند بلوغ مدخل البلدة، يخلع جزمته ويضعها عند دكان ويرتدي حذاءه وينتهي التحول بانتظار العودة، والتحول من جديد.
وإذا كان المطر لعنة دورية من السماء على غزال، لعنةُ قَدَرٍ، فإن هناك لعنات طارئة حلت بها: بنت الدولة فيها خزان ماء ومدت مياه الشرب إلى المنازل، وعند تجريب الشبكة، الجديدة طبعاً، انفجرت في مواضع لا تحصى، وتدفقت الأرض بالينابيع، كأن إله الفقر السنغالي قلب السماء أرضاً والأرض سماءً، كأن مشيئته فوق مشيئة الدولة، كأنه حليف صدوق للمتعهد ومن لف لفه يسارع إلى هواهم، باختصار: يعيش دوامة متناقضاتنا، لكن بحدة أشد، وبقدرته الكلية على توحيدها… إنها معجزته.
لعنة طارئة أخرى، تكررت فيها المعجزة: شبكة الصرف الصحي. الفرق الوحيد هذه المرة أن المياه سوداء، وأن الناس آمنت بوجود من يسعى إلى سنغلة غزال، وما دامت روحهم تدجنت، فلا ضير أن تتأقلم أجسادهم وطبيعتهم، أرضهم وطرقهم وبيوتهم، وفي النهاية: إن التشابه للأَسْوَد، وتتوزع جيوب قليلة كثير الأبيض.
بالمناسبة، يقطن في غزال حوالي40 ألف كائن من الفقاريات وحدها، ربعهم من النَّوَر، والبقية، بحسب استمارة شملت عينة من خمسين أسرة، هم على النحو التالي: 34% من ريف حلب، و16% من ريف درعا، و14% من إدلب وريفها، و12% من دير الزور، و10% من دمشق، و4% لكل من القامشلي والقنيطرة واللاجئين الفلسطينيين، و2% من حمص.
هؤلاء جميعاً هاجروا من أنحاء سورية ليستقروا في السنغال الصغرى، ويشكلوا نسيجاً اجتماعياً جديداً لا يشبه نسيجهم السابق، لكنه في الوقت ذاته يحمل كل خصائصه.
من بين 49 رب أسرة، كان هناك 32% أميين، و40% دخلوا المرحلة الابتدائية أو درسوا جزءً منها أو كلها، و20% دخلوا الإعدادية أو حصلوا عليها، و6% فقط دخلوا المرحلة الثانوية، ولا يوجد أي منهم وصل إلى المرحلة الجامعية.
أما ربات المنازل، فمعظمهم أميات، واحدة فقط جامعية، وأخرى ثانوية (تحمل الجنسية الأردنية)، وما تبقى إعدادية وما دون.
وحتى لا يظن أحد أننا نتحدث عن عجائز أو كبار في السن، فإن الأسر التي زرناها كانت في معظمها شابة، عاش أفرادها جُلَّ حياتهم أو كلها في ظل الإنجازات العظيمة، فحوالي 36% من أرباب الأسر هم في سن 30-39 عاماً، و30% منهم في سن40-49، أي أنهم عاشوا في ظل مجانية التعليم وتعميمه وإلزاميته، ومع ذلك كانوا وما زالوا جزءً من نواة السنغال القادم إلينا مع الانفتاح واقتصاد السوق وخصخصة التعليم وازدياد تكاليفه.
المشكلة ليست في الآباء والأمهات، فهؤلاء عاشوا حياتهم وارتسم قدرهم ومستقبلهم ولم يعد بالإمكان تغييره، إنما المشكلة في الأبناء، في غدهم الذي قد يترحم على ماضي آبائهم، وللإيضاح أكثر، 64% من الأسر تتألف من 5-10 أفراد، و16% منها يزيد عدد أفرادها عن11 فرداً، ومن بين جميع الأسر المُؤَلِّفَة للعينة، صادفنا شهادة جامعية يتيمة وحوالي ثلاث ثانويات، والبقية إعدادية وما دون، وهذا يعني أن الفقراء يتكاثرون على صورتهم الأولية التي وُجِدُوا عليها، وحتى لو نجح بعضهم في تخطي أسوار الآلهة، فإنهم مجرد ملحدين، لا أكثر ولا أقل، يثبتون للمرة المليون أن الآلهة بحاجة إلى الشيطان لتؤكد ذاتها وسطوتها وسلطتها وقيمها.
ليس التعليم وتدني مستواه هو الصورة الوحيدة للفقر في غزال، الدخلُ أيضاً صورة أخرى أشد فتكاً، وإذا كان الاستبيان بَيَّنَ أن 36% من الأسر تعيش على مبلغ يتراوح بين 5-10 آلاف ليرة أي 100-200 دولار شهرياً، و8% تعيش على أقل من 100 دولار، و22% على 200-300 دولار، و22% على300-400 دولار، فإن المظهر الحسي لهذا الواقع يحتاج إلى الكثير من المخيلة لتصديقه.
في الحقيقة، لم أكتفي بالبيانات التي أدلى بها أصحاب الأسر، بل رحت أتفحص البرادات ومحتوياتها، إن وجدت، وعلى مدار أيام العيد، كانت النتيجة مذهلة: معظمها شبه فارغ، فيها نوع وحيد من الطعام، غالباً البرغل، وبالمناسبة، معظم الأجهزة الكهربائية مشتراة من سوق الأدوات المستعملة، وبعضها لا يعمل، والكثير من التلفازات ينتمي إلى عصر الأبيض والأسود، وعندما كنت أسأل عن كمية استهلاك اللحم شهرياً لكل أسرة، لم تفتني تلك النظرات الساخرة، وذات مرة قفز طفل شبه حافٍ، وسألني: “عن إيش إنت بتحكي، هذا نحنا منسمع عنو”.
في البداية، أجابني أحدهم أنه يأكل اللحم مرتين أسبوعياً، في كل مرة حوالي 4 كيلوغرام، ولما سألته عن قيمة اللحم المستهلك شهرياً، أجابني حوالي 200 ل. س، وبالطبع تطوع أحدهم ليشرح الأمر قائلاً: هنا يشترون رقاب الدجاج، الكيلو بـ 7-10 ل. س، أو القوانص الكيلو بحوالي 35 ل. س، وأردف ضاحكاً: لهذا يسمونني هنا أبو الريش، لكثرة أكل الرقاب، رقاب الدجاج وليس العباد.
اللافت في غزال هو وجود عدد من محلات الجزارين لا يتناسب مع وضع أهل المنطقة، لكن أحدهم فسر ذلك على النحو التالي: هذه المحلات ليست لبيع اللحم هنا في غزال، بل للتجار في باب سريجة، فهي تذبح النعاج (أنثى الخراف)، وتبيعها لمحلات الجزارة التي تبيعها ثانية هناك على أنها لحم خراف.
لكن كائنات غزال الفقيرة تلعب لعبة الدهاء، تصنع تناقضاتها المؤطرة مسبقاً، تعرف متى تقول الصدق ومتى تتجنبه، فإذا سألتهم كم تدفعون فاتورة الكهرباء في الدورة الواحدة؟ سيجيبك معظمهم وهم ينظرون إلى الأسلاك الممدودة من الشبكة: لا شيء، نحن نسرقها. وحتى أولئك الذين ركّبوا عدادات لا يتوانون عن البوح بالإجابة ذاتها، الحالة الوحيدة الشاذة التي صادفتها هي حالة وليد مصطفى السلطي، إذ تقدم منذ عامين ونصف للحصول على عداد كهرباء نظامي، ودفع ثمنه، وراح يراجع مؤسسة الريف، ولم يفلح في الحصول عليه مع أن موظفي الكهرباء جاؤوا لعنده ثلاث مرات، ولم يجد تفسيراً للأمر سوى أن عليه دفع رشوة.
“ولماذا لا تسرقها مثل البقية؟”، الإجابة كانت حادة وقاطعة: أنا لا أسرق، ولا أريد أن أسرق، نعم أنا فقير، لكن لا أريد للحرام أن يدخل منزلي.
صورة أخرى من صور دهاء كائنات غزال، صادفتُ رب أسرة في منزل جاره، ورحتُ أملأ الاستبيان، وعندما وصلت إلى كمية اللحم المستهلك في الشهر، أقسم لي أن هذه المادة لم تدخل منزله منذ أشهر، فطلبتُ منه رؤية براده، وتغلب إلحاحي على محاولات تهربه، ولما فتحتُ الثلاجة، وجدتُ فيها ما يقارب الـ 4 كيلو من اللحم الأحمر النادر في تلك المنازل… عندها بدأ إصراره على استبقائي للغداء، متجاهلاً أو حتى غير مكترث في أنه لم يدل بأي معلومة صادقة… خرجتُ من عنده ومزقتُ الاستمارة فور أن غبت عن نظره.
أبو خالد يشرح صورة الفقر بطريقة أخرى معتمداً على تجربته الشخصية، إذ افتتح دكاناً صغيراً لبيع الخضراوات، وما لبث أن خسر وأغلق، ويعزو السبب إلى فقر الناس المدقع، فالنساء يذهبن إلى سوق السبينة مشياً مسافة كيلومترات في عز المطر ليشتروا لمامته حتى لو كان فرق السعر ليرة واحدة في الكيلو، وثمة سبب آخر يتعلق بطبيبة قلبه، فهو لا يستطيع أن يرى جاراً محتاجاً ويمنع عنه حاجاته الغذائية، وهكذا تراكمت الديون في دفتره وصار من المستحيل تحصيلها، فخسر أرباحه وقسماً كبيراً من رأسماله.
وحتى لا يذهب بكم الظن بعيداً، فإن الديون في غزال ليست بالمبالغ التي تتصورونها، فمثلاً أقسم لي رجل عجوز بحرقة ولوعة أن مجموع ديونه بلغت حتى الآن ألف وخمسمائة ليرة سورية، وكان واضحاً من نبرته أن هذا أعلى مبلغ عرفه في حياته.
على أية حال، يعتقد أبو خالد وسط هذه البيئة الكارثية أن الأمر لا يتعلق دوماً بالفقر، بل بالبخل أحياناً، إذ يقدر دخل أحد جيرانه بحوالي 60- 70 ألف ليرة سورية شهرياً، ومع ذلك فهم نادراً ما يشترون اللحم ويكتفون بالقوانص والرقاب، وأشار لنا أيضاً إلى رجل عجوز على مدخل حارته، يتبدى البؤس في مظهره وكل حركة من حركاته، يمتلك على الأقل خمسين مليون ليرة سورية.
في اليوم التالي، زرت أبا محمد، المليونير الشهير لملء استمارة، وطيلة ساعة كاملة، ظل الرجل يرمقنا بدهشة وهو يحك شعره تارة ويقوس حاجبيه أخرى، منصتاً إلي أتحدث عن ملايينه الخمس والعقارات التي يملكها، وكان بين الفينة والأخرى ينهض ليشتري من الأطفال بعض ما جمعوه من القمامة، ثم يعود إلينا، ليستأنس بكلام الجن على الأرض. غادرته بعد أن تفحصت منزله الخالي حتى من الطينة والمرصوف أرضه بالتراب، ناهيك عن عدم وجود أي نوع من الأجهزة الكهربائية، لأتذكر بعد ذلك أنني أخطأت الرجل، كان المقصود أبا عماد وليس أبا محمد.
فياض علي علوش يعتبر نفسه ميسوراً مقارنة بغيره، أعلن منذ البداية أنه لا يخاف أحداً، ولما تلفظت بكلمة الفقر أمامه، سحبني من يدي وراح يجمع الأطفال في الطرقات، حوالي عشرين طفلاً، وقال لي انظر إلى أقدامهم، كم واحداً منهم يرتدي حذاءً ونحن الآن في فصل الشتاء… لا أحد. بعد ذلك أصابني نوع من الهوس بالأقدام، واكتشفت بعد انتهائي من تلك المنطقة أن لدي ألبوم صور طريف وعجيب لأقدام أطفالها.
لكن لماذا لا يخاف فياض؟ أغلب الظن أن لديه انتماءات مشبوهة، ولولا ذلك لما تطاول على إله الفقر السنغالي وأنصاره، ولو كان يعيش في زمن غير هذا الزمن، لدفع الثمن غالياً، ومن يدري، ربما لم يفت الأوان بعد.
يعتقد فياض أن البلدية والمخفر والحزب يشكلون شبكة موساد حقيقية، بل إن هذه الأخيرة أرحم بالنسبة لكائنات غزال، وأبعد من ذلك، يحلل فياض، على نحو فطري طبعاً، الوضعَ، ويستنتج أن لهم مصلحة في استمرار الحال على ما هو عليه، فمثلاً صهريج الماء بـ 500 ل. س، ويتحكم صاحب الجرار بالعباد كأنه شريك للإله، والمسافة لا تتجاوز 2كم، لذلك لا مصلحة لأحد بتشغيل شبكة المياه، بل إن أصحاب الجرارات رفعوا سعر البرميل من 10 إلى 20 ليرة سورية، فذهب هو وجيرانه إلى مخفر السبينة لتقديم شكوى، رد عليه رئيس المخفر: إذا أعجبك السكن هنا، أهلاً وسهلاً، وإذا لم يعجبك، فالله معك، واستطرد: أنا شخصياً أشتري صهريج الماء بـ 500 ل. س في جرمانا.
هنا تحركت حشرية فياض، أو ربما دفعه انتماءه المشبوه للحوار، فقال: أنت راتبك من الدولة ودخلك يسمحان لك بدفع هذا السعر، أما نحن ففقراء.
هنا، وقف رئيس المخفر، الناطق باسم دولة السنغال الصغرى، وصرخ فيهم: جئتم لتشتكوا من أجل خمس ليرات، انقلعوا من هنا.
لكل امرئ من اسمه نصيب، وكذلك فياض، إذ فاض علينا بسيل من الوقائع في بلدة الطوفانات، هل تريد التحدث عن التعليم، تعال يا ولد، في أي صف أنت، السادس، 9× 6 كم تساوي… ظل الطالب مشدوهاً يراقبنا بعينين جاحظتين، ويستطرد فياض: اسأل نصف طلاب غزال إن كانوا يعرفون جدول الضرب، المدرسات يتغندرن ويشربن الشاي والمدرّسون يستخدمون الأولاد لجلب حاجياتهم ولا أحد يحاسبهم، تدريسُ أبنائنا مهملٌ أما الاجتماعات الحزبية مقدسة…
تصور، خط الهاتف مقطوع منذ شهرين وقدمت 25 شكوى، معظم الخطوط هذه هي حالها، راجعت رئيس مركز الهاتف مراراً وتكراراً،ً وقلت له في النهاية: يا رجل، استحي مني واعتبرني نَوَري، اخلص مني وأصلح لي الخط، لكن لا حياة لمن تنادي. حاولت إعطاءهم 3000 ل. س عن 15 خط فاستصغروا المبلغ.
في نهاية ركام من القصص والحكايا، اختلجت بذرة خوف الفقراء في نفس فياض، فاستدرك: صحيح أنني لا أخاف أحداً، لكن مسؤولي غزال والسبينة يشكلون دولة مستقلة وأخاف منهم.
والحق يقال، إنني لم أصدق أياً من القصص المخيفة للجرائم والسرقات في غزال حتى زرت مدرسة البنين فيها، هنا انبرى الأساتذة وعلى رأسهم موجه المدرسة للحديث عن الأمن المفقود، لا يستطيع أي أستاذ أن يؤنب أي تلميذ مهما فعل، بل إن أحد التلاميذ صعد إلى سطح المدرسة وراح يتبول على زملائه، ولم يستطع أحد أن يفعل معه شيئاً وتكررت هذه الحالة مرات عدة، والسبب كما يقول الموجه يعود إلى سلسلة من التجارب المريرة، إذ سبق أن تعرضت مدرسة للضرب في قلب صفها لأنها أنبت تلميذاً، ولم يستطع أحد أن يفعل لها شيئاً، وأكثر من ذلك، أحرق بعض السكان شرطياً عندما كان يُبَلِّغُ أحدهم للالتحاق بخدمة العلم، وبطريقة أقل ما يقال فيه إنها وحشية، إذ رموه أرضاً وصاروا يتحزرون بماذا يحرقونه، بالمازوت أم البنزين، وطبعاً مازال الشرطي يتعالج حتى اليوم، ولم يفعل أحد شيئاً للجناة.
فجأة، اشتعلت الحماسة بالموجه، وصاح بزملائه المدرسين: البارحة… البارحة ألم تروا ما حدث؟ صَمَتَ الجميع، وأشار إلى خارج سور المدرسة قائلاً: هناك، وقعت حادثة يشيب لها شعر الرأس، لا يمكنني أن أرويها (بسبب وجود مدرسات) فبادرت إلى سؤاله: اغتصاب؟ أجابني: نعم.
عندما استفسرت من الأساتذة عن سبب عدم لجوئهم إلى الشرطة، أجابوني بأن قائد المنطقة يأتي كالغضنفر، لكنه سرعان ما يهدأ ويغدو في غاية الوداعة، كأن اقترابه من موقع الحادثة يُسَكِّنُ من غضبه ويشيع السلام في روحه، وهكذا تمضي الجرائم مرسخة وراءها قانوناً خاصاً للخوف.
المفارقة كانت مع مدير المدرسة، إذ أعلن منذ البدء أنه لا يستطيع إعطاء أية معلومة عن الطلاب دون موافقة مدير تربية الريف الخطية، مع أن المعلومات التي طلبناها تتلخص بسؤال التلاميذ إن كانوا يعملون خارج المدرسة، ومقدار دخلهم، وبدوره مدير التربية طلب موافقة الوزارة، ولما استفسرت عن سبب عدم طرح هذه المشاكل، أجاب الأساتذة: الجميع يعرف بها، لكن لا أحد لديه حل.
وجه المفارقة أن المدير يخاف من المديرية والوزارة ويستصعب الخروج عن توجيهاتهما في أمر بسيط جداً، وفي الوقت ذاته يستسهل أن يستبيحه طلابه هو وطاقم تدريسه، وتساءلت في سري: ماذا لو تبول ذلك الطالب عليه ذات يوم؟ هل سينتفض ليثبت أنه مدير كما ينبغي له أن يفعل؟ أم سيطلب تغيير اسم الوزارة ليغدو وزارة التعليم بدل التربية؟
في مدرسة غزال للبنات، المؤلفة من ثلاثة بيوت مُسْتَأْجَرَة، يحبسون الصف الأول في باحة صغيرة لا تتجاوز العشرين متراً مربعاً، وبقية الصفوف تقضي فرصتها فوق مزبلة قريبة من المدرسة. هناك صادفت الآنسة نور، خريجة الجامعة الأمريكية، وطلبت منها أن تسأل طالباتها في الصف الرابع الأسئلة ذاتها، فأكدت لي أنهن صغيرات ومن المستحيل أن يعملن، وبعد إلحاح وافقت على التجربة، وعادت إلي مصدومة لاكتشافها أن نصف الفتيات تقريباً يعملن، بعضهن في الكوي وأخريات في ورشات خياطة ومعامل جرابات وزجاج، الآنسة الأخرى في الصف، الثالث عادت بثلاثة أسماء فقط، وحذرت زميلتها أن ما تقوم به هو خرق للتعليمات قد يستوجب المسؤولية.
كان تفسير اختلاف النسبة بين الصفين سهلاً للغاية، فنور سألت طالباتها إن كن يعملن أو يعرفن أخرى تعمل، وبدأ سيل الوشايات بين التلميذات، أما المدرِّسة الأخرى فطرحت الأسئلة من باب رفع العتب.
على أية حال، روت لي نور عن طفلة في الصف السادس أقدمت على قتل والدها طعناً بالسكين، وأعادت على مسامعي أسطوانة تهديد المدرسات وتعرض إحداهن للضرب في صفها… مضيفة أنها لولا الطمع بالتثبيت لما جاءت إلى مثل هذه المنطقة.
الأمن المفقود في غزال يتجاوز بكثير ما ذكرناه سابقاً، ففي أول أيام العيد نشبت معركة بين النَّوَر، استخدمت فيها أسلحة رشّاشة ومسدسات حربية، وأكد أكثر من شاهد عيان أن من بينها رشاش بي كي سي، وأكثر من ذلك تعرضت أكثر من سبع بيوت للسرقة خلال العيد، وتحداني أستاذ مدرسة أن أمشي في غزال مساءً 500م إذا كان يوجد في جيبي خمسة آلاف ليرة، مضيفاً أنني في هذه الحالة سأجد موس كبّاس على رقبتي. وأمام أحاديثهم عن تعرض المدرسة للسرقة مرات وعن امكانية تعرضهم لجميع أنواع الإعتداءات في دولتهم المستقلة، الواقعة تحت الإنتداب السوري، شعرت أن من الطبيعي أن أتجاهل مسألة التعليم، ولو كنت مكانهم لما بقيت يوماً واحداً في تلك المدرسة.
رئيس المخفر شطر حديثه إلى قسمين، الأول شبه رسمي، فهو يقوم بواجبه على أكمل وجه، ولديه خلال العام أكثر من ثلاثة آلاف ضبط، لكن ماذا يفعل إذا كان هناك من لا يبلغ ولا يشتكي عندما يتعرض لاعتداء؟ ماذا يفعل لأولئك الذين يخشون الانتقام؟ وماذا يفعل أيضاً إذا كان يقبض على الجناة اليوم ويطلق القضاء سراحهم غداً ليصادفهم يتجولون في الشوارع كأن شيئاً لم يكن؟
الشقّ الثاني من حديثه، كان شبه ودي، فمن كثرة المشاكل، لا يستطيع أن يتبع الأساليب المتطورة في التحقيق، ويضطر غالباً إلى استخدام العنف لانتزاع الاعترافات من المشبوهين، وحتى لو لم يعترف المشبوه بالجريمة أو الجناية موضوع التحقيق، فيمكن أن يعترف بأخرى ارتكبها، وهكذا يمكن من ضربة واحدة أن يكتشف عدة سرقات، سبق أن حقق فيها وكشف من خلالها سرقات أخرى.
فجأة، سألته: وماذا لو اعترف بريء لا يستطيع تحمُّل الضرب والإهانة؟
انحرف الحديث نحو علم الأدلة الجنائية الذي لا يعرف عنه شيئاً، وأوغلنا بعيداً في الحديث عن ثقافة القانون التي ما زال البحث عنها مستمراً، وتَفَاصَحْتُ مستخدماً عبارة سلة مشكلات غزال المترابطة، بدءً من الخدمات وانتهاءً بالأمن والجريمة، ووجدت نفسي أخرج شيئاً فشيئاً إلى عالم آخر، مع شخص أَلِفَ العيش في عالمين.
فاتني هنا أن أذكر إجابته حول النزاع المسلح في أول أيام العيد، أخبرني أنه أَوْقَفَ ستة أشخاص وصودرت الأسلحة (عبارة عن بنادق صيد وفوارغ مسدس خلّبي) وحُجِزَتْ السيارة وأُحيل المتهمون إلى القضاء، وبالطبع لم أستطع حل التناقض في نوعية الأسلحة المذكورة في الضبط وتلك التي رآها الشهود، وعندما سألت أحد الأساتذة الذي يسكن قريباً من موقع المعركة عن ذلك، سكت واكتفى بهز رأسه.
رئيس بلدية سبينة استغرب أن يزوره ثلاثة صحفيين في أسبوع واحد، كأن مشكلات 40 ألف كائن فقاري يكفيها مدير منطقة ورئيس مخفر وبلدية نشيطة ومدير مدرسة كحد السيف، وفوقهم جميعاً إله الفقر السنغالي.
واستغرب أكثر عندما سألته عن عدد المنشآت غير المرخّصة في غزال، لاسيما مكابس البلوك، قائلاً هل هذه المنشآت هي المشكلة؟
لا، ليست هي المشكلة بالتحديد، لكن ماذا يوجد في غزال ليس مشكلة؟ أحدهم قال لي لو كنت رئيس بلدية لاستقلت، ولما تحملت وزر كل هذه المشكلات.
الناس في غزال هم القذرون، بحسب رئيس البلدية، لأنهم ليسوا مستقرين، رَاقِبْ جرار القمامة، عندما يمر لا أحد يلحظه، وبعد مروره الجميع يخرجون قمامتهم. ولهذا ترى تجمّعات القمامة على مسافات قصيرة من بعضها البعض، إضافة إلى أن هناك سيارات من خارج المنطقة تفرِّغ حمولتها هنا.
ولم يفت رئيس البلدية أن يُذَكِّر بأن المشاريع قبله كانت نائمة وهو من أيقظها لكن المشكلة في الناس، فعندما يُزَفِّت حارة يتدخلون، وكل واحد يريد أن يُسيّر المشروع على كيفه. والطريف هنا أنه لايوجد زفت في غزال، ولاحتى مشاريع تزفيت، ويبدو أن الناس يختلفون على افتراضات، كل واحد منهم يقول لجاره: إذا فكر رئيس البلدية بتزفيت الطريق، فعليه أولاً أن يفعل كذا وكذا…!!!
عندما سألته عن مشكلة المياه، أجابني ببرود: لماذا يشترون الماء من الجرارات؟ صحيح يا أهل غزال، لماذا تفعلون ذلك؟ البلدية بنت لكم خزّاناً ومدّت شبكة مياه إلى منازلكم، وأنتم تتحامقون وتشترون الماء من الجرارات؟! هل ذهب الفقر بعقولكم؟!
على مدى عشرين يوماً من التجوال في تلك المنطقة، كنت أفكر بأن التحولات التي نعيشها قدر لا مفرّ منه، ولم يكن موضوعي هو الفقر، بل عمل الأطفال الذي سأفرد له تحقيقاً خاصاً، لكن ما ليس بِقَدَرٍ، وما ليس محتوماً، هو أن تكون أسرتان فقط من أصل خمسين أسرة خاضعتين للضمان الصحي، هو أن يكون الطريق إلى معمل إسفنج العطّار معبّداً لمسافة 4كم، بينما مئات المنازل على امتداد ثلاثة كيلو مترات غير معبّدة، ولا يستطيع أطفالها الذهاب إلى المدرسة في الأيام الماطرة، هو أن يحضر المخفر والبلدية وغيرهما إذا أنزل أحدهم سيارة بلوك أمام منزله، في حين يغيبون عندما يحتاج الناس إليهم، ما ليس بقدر هو أن يصل أطفال ذلك الحي إلى الصف السادس وهم لايعرفون جدول الضرب، وما ليس بقدر هو أن يسيطر الخوف والرعب على أهالي منطقة يتفاخر مسؤولو دولتها بالأمن والاستقرار فيها.
لكن ما يمكن أن يكون قدراً هو أن يتحول أبو صياح، أحد حفظة القرآن في غزال، إلى سكِّير وعربيد، وما يمكن أن يغدو قدراً قادماً هو أن يتحول الحشاشون والمجرمون إلى دعاة تقوى، فإله الفقر السنغالي على كل شيء قدير.
هوامش :
في ظل لأمن المفقود:
سبع سرقات في أول أيام العيد ومعركة بالأسلحة الرشاشة
طفلة تقتل والدها وشرطي يُحْرَق ومُدَرِّسة تُضْرَب في الصف
تلميذ يتبول على زملائه مراراً في المدرسة والإدارة عاجزة
رئيس المخفر: 3000 ضبط خلال عام ولايمكن فعل شيء لمن لايشتكي
نقبض على السارق ونحيله إلى القضاء ونراه في اليوم التالي يتنزه
رئيس البلدية: المشكلة في الناس.. كل واحد يريد أن نعمل على كيفه
مجلة بورصات واسواق قبل عام من الآن