الثوابـت والمتغيـرات فـي الأمبراطوريـة الأميركيـة
سمير كرم
تتوقف امور كثيرة ـ بعضها على درجة قصوى من الاهمية لحياتنا ومستقبلنا ومستقبل أجيالنا التالية ولطريقة حياتنا ومصالحنا ـ على مدى فهمنا للولايات المتحدة وعقلها السياسي والاقتصادي والاستراتيجي …
ولسنا وحدنا في هذه المعادلة. شعوب وأمم كثيرة في عالم اليوم ينطبق عليها الواقع الذي تعبر عنه هذه القاعدة. لكن ما اوسع الخلاف في سبل مواجهة الشعوب لهذا الواقع والتعامل مع أخطاره ومزاياه، اذا وجدت له مزايا. بعضها يحارب بما يملك من وسائل بناء على فهم واضح ودقيق لغايات الولايات المتحدة وسياساتها، مثل أفغانستان، وبعضها يقاوم بوسائل اخرى لأن الولايات المتحدة لا تفرض عليه تحدياً عسكرياً، مثل دول اميركا اللاتينية التي اختارت طريق التحرر من الهيمنة الاقتصادية الاميركية… ولكنها على اي الاحوال مستعدة لمواجهة التحدي العسكري الاميركي اذا ما لاح قريباً من اراضيها.
غير ان من الممكن الزعم ـ بقدر كاف من الموضوعية والإخلاص في التعامل مع الولايات المتحدة ـ ان حظنا من فهمها وفهم حدود قوتها واستراتيجيتها هو حظ قليل … ولعل الاحرى ان نقول إن حظنا من عدم فهم العقل الاميركي، طريقة التفكير الاميركية في التعامل مع العالم الخارجي بتنوع اشكالياته، كبير في اغلب الاحيان وأغلب الحالات. ذلك اننا نحن العرب نتعامل مع العالم الخارجي وقضايانا معه وقضاياه المنفصلة عنا بطرق شتى… ربما بعدد اقطارنا الممتدة من دون انقطاع من المحيط الى الخليج.
ونحن نعاني من هذا الوضع المرتبك، الناشئ عن فهم قاصر للولايات المتحدة كدولة كبرى، على الرغم من حقيقة ثابتة لا تحتاج الى تردد كي ندركها بالعين المجردة من دون حاجة الى مناظير فلكية او ميكروسكوبات دقيقة … وهي ان ثوابت السياسات الخارجية الاميركية ـ تماما مثل ثوابت سياساتها ونظمها الداخلية ـ اكثر بكثير من متغيراتها. ونظرة سريعة على استراتيجيات اميركا منذ الحرب العالمية الثانية الى الآن تؤكد انه ـ على الرغم من التغيرات التي طرأت على اوضاع العالم وأحداثه والقوى المحركة لها والمتحركة بفعلها ـ لم تطرأ متغيرات على العقل الاميركي في جوانب تفكيره الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية.
وتزداد هذه الصورة وضوحا اذا اقتصرنا على النظر الى الحقبة الممتدة من حرب اميركا على فيتنام الى الحقبة الراهنة، حقبة حرب اميركا على العراق وأفغانستان… والآن باكستان.
وعلى سبيل المثال، فإن الولايات المتحدة لم تستطع ان تتخذ قرارا بأهمية القرار الذي اتخذه الرئيس الجمهوري نيكسون عام 1972 بالاعتراف بالصين الشعبية بعد امتناع بتبريرات عرجاء تثير السخرية منذ قيام الصين الشعبية الجديدة عام 1949. كان قراراً مس ثوابت السياسة الخارجية الاميركية… ومع ذلك فإن العقل الاستراتيجي الاميركي لا يزال يتعامل مع الصين بعقلية الثوابت التي ترى في الصين خطراً على التفوق الاميركي، خطراً على مركز الدولة الاعظم الوحيدة.
وعلى سبيل المثال ايضاً فإن تفكك النظام السوفياتي وتوابعه مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن كان حدثاً عالمياً تناول ثوابت الوضع الدولي وغير مركز اميركا من واحدة من الدولتين الاعظم الى دولة اعظم وحيدة… مع ذلك فإن هذا التغيير لم يستطع ان يغير ثابتاً من ثوابت العقل الاستراتيجي الاميركي هو الحرب الباردة. تغيرت امور كثيرة من متغيرات السياسة الخارجية الاميركية منذ ذلك الحين ولكن ظلت ثوابت الحرب الباردة في التعامل مع روسيا «بعد السوفياتية» قائمة توجه الصواريخ الاستراتيجية الاميركية وتوجه اهداف الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية والثقافية في العلاقات مع روسيا.
لهذا فإن حسابات واشنطن بشأن دولة ذات وزن إقليمي في الشرق الاوسط ـ نعني إيران ـ تبدو على درجة قصوى من الغرابة. اذ تقول حسابات المنطق الاساسية انه اسهل على واشنطن ان تتصالح مع ايران مما حدث عندما «تصالحت» مع الصين عام 1972، وكان الرئيس الذي اتخذ القرار آنذاك من فئة اليمين الجمهوري، ويفترض ان يكون التصالح مع إيران أيسر على رئيس ديموقراطي يوصف بالتقدمية من انصاره الذين كانوا والذين لا يزالون. مع ذلك يبدو القرار هذا بالغ الصعوبة لأن من ثوابت السياسة الخارجية الاميركية بالنسبة لمنطقة الشرق الاوسط بالذات ان لا يسمح لبلد في المنطقة بأن يكون مناوئاً للنفوذ الامبراطوري (الامبريالي) الاميركي، فالمنطقة هي مرادف للبترول، والبترول مرادف للاستراتيجية الصناعية والعسكرية الاميركية معاً.
كذلك فإن قرار الرئيس باراك اوباما الاخير ـ الذي احزن كل صاحب رؤية تقدمية في اميركا والعالم، بمن فيهم اولئك الذين منحوا اصواتهم الانتخابية لأوباما ليخلص اميركا من حربي العراق وأفغانستان ـ هو قرار فرضته وتفرضه ثوابت الاستراتيجية الاميركية نفسها التي ابقت اميركا في حربها على فيتنام لأكثر من 13 عاماً كانت في نهاياتها قد بدت كل الشواهد على ان لا امل في تحقيق نصر فيها.
فلماذا يا ترى تصورنا ـ او تصور كثيرون منا، خاصة بعد خطاب اوباما الجميل البليغ في جامعة القاهرة في حزيران الماضي ـ ان الولايات المتحدة ستغير استراتيجيتها او سياستها تجاه اسرائيل لتتحول نحو الضغط عليها بدلا من مسايرتها على طول الخط فيما يتعلق بجزئية تجميد الاستيطان الاسرائيلي في الاراضي الفلسطينية المحتلة؟
الأحرى ان نتساءل هل كان لدينا اي مبرر لنتصور ان سياسة التحالف الاميركي مع اسرائيل هي من المتغيرات وليست من الثوابت؟
إن استراتيجية عسكرية وسياسية وأمنية تنتهجها الولايات المتحدة، في تحالف وثيق وقوي مع اسرائيل على مدى السنوات منذ اوائل الستينيات من القرن الماضي، ما كان يمكن ان تتغير لأن مجموعة كبيرة ـ تشكل اغلبية النظم الحاكمة العربية ـ ارتأت ان تتقدم نحو الولايات المتحدة وإسرائيل بعدد هائل من التنازلات التي زعزعت ثوابت السياسة القومية العربية تجاه قضية فلسطين. لقد تصور هذا العديد من الحكام العرب ان التراجع الى مواقف هادمة للثوابت العربية من شأنه ان يكفي للحصول من اميركا على تغيير في واحد من اكثر ثوابتها رسوخاً. كانت حرب تشرين الاول توشك على ان تحقق تحولا في هذا الثابت في الاستراتيجية الاميركية عندما تم تحويل نتائجها السياسية ـ ببراعة الوزير كيسنجر ـ الى عامل إضافي في تعميق ثبات العلاقات الاميركية الاسرائيلية. من وقتها والعلاقات الاميركية ـ الاسرائيلية تزداد ثباتاً وتواجَه بمزيد من التنازلات العربية لأن منظومة عربية بأكملها اخذت تقع تحت مظلة الحماية الامنية الاميركية اكثر وأكثر. والامر المؤكد ان التنازلات العربية، التي شملت اتخاذ مواقف عدائية تجاه ايران بلا مبررات موضوعية لمجرد ان الولايات المتحدة واسرائيل تتخذان مواقف عدائية، تنطوي على اخطار جسيمة تجاه ايران، قد عززت تقدير المخططين السياسيين الاميركيين والاسرائيليين على السواء بصوابية السياسة المشتركة التي ينتهجانها في المنطقة، بما في ذلك سياسة اسرائيل العدوانية والفظة تجاه الفلسطينيين والعرب من ناحية، وتجاه ايران من ناحية اخرى.
بعد قرار اوباما بشأن افغانستان اصبح من الضروري ان نعي ان عجزه الواضح عن الاقتراب من التغيير ـ تجاه اسرائيل كما تجاه افغانستان ـ هو عجز عن المساس بالثوابت الاستراتيجية والسياسية الاميريكة اكثر مما هو خشية من إغضاب هذه القوى او تلك، هذا اللوبي او ذاك… وإن كان اي قرار منه بالسير في طريق الثوابت وعدم الاستجابة للمتغيرات التي يطالب بها الذين انتخبوه في تشرين الثاني 2008 ـ منبهرين بشعار التغيير الذي رفعه وارتفع به، يلبي احتياجه الى ضمان التأييد من المجموعات الانتخابية التي تلعب الدور الفاصل بين من يسقط ومن يكسب في الانتخابات.
ان الاقتراب من ثوابت السياسة الاميركية نوع من «التابو» ـ نوع من المحرّمات ـ يفرضه اولئك الذين يملكون صنع القرار دائماً في واشنطن. وهذه المحرمات محرّمة على الرئيس الاميريكي وعلى الكونغرس. وتعتبر القوات المسلحة الاميركية نفسها ـ وهي احد ثوابت القوى صانعة القرار ـ الحارسة على هذه الثوابت ومفهوم بكل وضوح الدور الذي لعبته في فرض قرار زيادة القوات المحاربة في أفغانستان. ويبقى ان تحل ألغاز التعاون الاستراتيجي العسكري بينها وبين اسرائيل. واجه اوباما الموقف نفسه الذي واجهه ليندون جونسون في ستينيات القرن الماضي وهو يتخذ ـ تحت ضغط القادة العسكريين ـ قرارا وراء آخر، بإرسال مزيد من القوات الاميركية لمواصلة الحرب على فيتنام، بينما كان القادة العسكريون الاميركيون يؤكدون في كل مرة ان النصر قريب وان اميركا لا يمكن ان تهزم في فيتنام.
وعندما اطبقت الهزيمة العسكرية على فيتنام واضطرت لتوقيع اتفاقية باريس عام 1973 سادت فترة تراوحت فيها السياسة الاميركية بين إنكار حقيقة انها خرجت مهزومة من فيتنام، وبين إعلان ضرورة ان تتجنب اميركا التورط في فيتنام اخرى.
لكن اميركا لم تلبث ان وجدت نفسها تبحث عن حرب ولكن صغيرة… مرة في غرانادا ومرة في لبنان وثالثة في الصومال… الى ان حدث التورط الاكبر في افغانستان ثم العراق.
عادت ثوابت الاستراتيجية الاميركية تؤكد وجودها وأولويتها.
هل يمكن ان نتوقع في ضوء هذا التوسع العسكري الذي يكاد يشمل كل ارجاء العالم ان تبادر الولايات المتحدة الى تغيير في العلاقات الاستراتيجية مع اسرائيل؟ هل يمكن وثوابت الاستراتيجية الاميركية تتأكد وتزيح من طريقها احتمالات التغيير ـ حتى التكتيكي، على مستوى ضيق ومحدود ـ ان تقدم الولايات المتحدة على الاخذ بتغييرات تفقدها التحالف مع اسرائيل او تضعف هذا التحالف؟
ان الشواهد كثيرة على ان اسرائيل هي احد الثوابت الاستراتيجية الاميركية، بالتالي فإن الحديث عن تغيير اميركي ازاءها هو حديث في «التابو» في احد محرمات الاستراتيجية الاميركية. ان اتساع نطاق المناورات العسكرية الاميركية المشتركة مع اسرائيل يدل على ان واشنطن بصدد تثبيت السيطرة الاسرائيلية حيث هي. وليس من قبيل الصدفة أن كان آخر هذه المناورات بهدف التدريب المشترك للقوات الاميركية والاسرائيلية على مواجهة هجمات صاروخية تشن على تل ابيب ـ تل ابيب من دون غيرها ـ من ايران وسوريا ولبنان، والمقصود بلبنان هنا هو حزب الله، هو المقاومة اللبنانية، وكذلك من غزة، اي المقاومة الفلسطينية.
معنى هذا ان الولايات المتحدة ـ وطبعا اسرائيل ـ تفضل مواجهة عسكرية اميركية ـ اسرائيلية مشتركة مع هذه القوى الاقليمية على رؤية دبلوماسية ترضي فيها اسرائيل ـ وطبعاً الولايات المتحدة ـ بالانسحاب الى حدود ما قبل حرب حزيران 1967 وتقام الى جانبها دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة قادرة على العيش جنباً الى جنب مع اسرائيل، وتقبل اسرائيل عودة الفلسطينيين الى ديارهم، والانسحاب الكامل من الجولان السورية المحتلة… وهي آخر وكل الشروط الممكنة لإنهاء حالة الحرب القائمة. وبناء على هذا التفضيل تؤدي الولايات المتحدة دورها وتؤدي اسرائيل دورها. واي تصور بخلاف هذا وهم لا يرى الثوابت ويظل يتمنى التغيرات التي لا تأتي ابداً.
فأين الثوابت العربية؟
السفير