حبّ في الغسّالة
يحيى جابر
مستشفى بعبدا الحكومي
خلف الحقل
بحر
خلف البحر،
صحراء
خلف الصحراء، أبي هناك.
لم تصلنا حوالته المصرفية.
ولم تقترض أمي من أحد.
لأجلها،
سرقتُ شجرة لوز الجيران.
فرفطُتها وبعتها للسيارات العابرة.
كمشْتني أمي من أذني الطرية: “هذا مال حرام”
ربطتني الى الشجرة نفسها،
تصفعني وتبكي: “لستَ ابني… وجدناك قرب الغدير
اشتريناك من الغجر”
…
لم أنم
“أنا ابن مَن؟” وأجهش الليل معي.
سمعْتني، حضنتْني
“كذبتُ عليك، صدّقني أنت ابني، توحمتُ وتوجعتُ
بك…
وولدتك في مستشفى “بعبدا الحكومي”
هناك هتف والدك “الله أكبر” وسط دهشة الراهبات.
نمت ولم أصدّق.
في الصباح لم يدقَّ ساعي البريد بابنا.
لم تصلنا الحوالة المصرفية.
ورجعتُ أتفرج على شجرة اللوز.
أمسيات غير شعرية
-1-
ذات مساء
عند مصطبة
تشاور أوادم الضيعة:
“القرية بلا مئذنة… بلا شيخ.
لنرسل هذا الطفل الذكي الى النجف”.
الخالات نفضنني من التبن.
لفلفني الأعمام في عباءة،
هرولتُ بها كالحجل عبر الوادي
وتجاوزتُ علياً
سبقتُه الى حضن فاطمة بنت الراعي
فلشتُ عباءتي
قرب غدير من مستحمّات البارحة.
طفلان يتباوسان على عشب
من وحل ماعز وبقايا ريش.
وأرى علياً يبكي من بعيد.
-2-
ذات مساء،
داخل بار،
أفرط قرنفلة بين حبّات الفستق،
أرى فاطمة ابنة الراعي،
تشدّ جواربها السوداء
حتى الحوض
ولا ثغاء حولها سواي.
انحنت على صندوق الموسيقى،
أقفلت سحّابها
على عصفور يزقزق لي.
* ماذا تفعل هنا؟
– أريدكِ.
* أنت ابن قريتي… لن أضاجعك.
-3-
ذات مساء،
في مقهى،
أخبروني أن فاطمة رشّت الكاز على رأسها،
أشعلت عود كبريت أمام زوجها
وتكومت برمادها في منفضة الصالون.
أخبروني…
لم يمشِ أحد في جنازتها…
وأن الشيخ علياً الذي غادر الى النجف بعباءتي، لم يصلِّ عليها.
وكان يبكي في الوادي.
الحراسة مملة بلا سجائر
-1-
العين بالعين ونراك يا إبرهيم
يا رفيقنا المدروز بالكواتم
على أيدي المؤمنين الجدد
مرمياً كعجل في ساحة القرية
قرب سطل دم من ذبيحة البارحة.
السِنُّ بالسن
لأجلك نكزّ ونزأر بجيبّاتنا العسكرية
حاصرنا القرية
كمّمنا فم أشجارها
عصّبنا ينابيعها.
المعصم بالمعصم
لأجلك نلفّ إسوارة ت. إن. ت.
زنّرنا أول بيتين عند المنعطف.
أين هم الملثمون بالآيات
الذين لم يُبَسْمِلوا لحظة اغتيال مسؤولنا الحزبي
مع كومة من شجرة عائلته؟
أين هم الهاربون بلحاهم
وتعاويذهم
وأدعيتهم وحُصَرِهم؟
لأجلك رفعنا العلم الأحمر فوق المئذنة
وتعطّرنا بالوحل.
زغردنا بسلاحنا الأبيض
ودبكنا بالثأر
وسط شراويل فلاحين يبحلقون
بمناجلنا ومطارقنا
“يا حاجّة… اتركي سجادة الصلاة
واصغي لنا.
… من قتل الرفيق إبرهيم؟”.
الفم بالفم
وبصقنا قنبلتين في البئر
وأخرجنا بقرة لنفرم السودة النية
على كأس عرق في الساحة…
… “كأسك يا رفيقة سمر، هل ارتويت من الدمع للوالد”.
الأنف بالأنف
ونصلم جبلاً من أذنه
نشمّ حريقاً من ورد السكوكع وذيل الحصان…
وشراشف ممزقة من الأقحوان
وننشد:
“قسماً بالزهر والسنابل
سنقاتل لفجر جديد”.
… فجّمنا المعصرة والمطحنة
وخلفنا بيوت تترقرق
بحليبها.
الإبهام بالإبهام
ونبصم بعبواتنا
الناسفة بين الزواريب الكلسية
ونرشّ بالطّساسات على باب الحسينية
“لتسقط قوى الظلام
والمجد لشهداء الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية”.
-2-
“يا ابنة الشهيد
يا رفيقة سمر،
يا زائغة العينين
الحراسة مملة بلا سجائر.
يا ابنة شهيدنا إبرهيم
ساحرٌ هذا الكاكي عليكِ
… الظلام يهيّج الحجر
والحراسة مملة بلا سجائر”.
أنا وابنة الشهيد وسط المقبرة
كبندقيتين نتأهب قرب ضريح.
وأجسادنا على الزناد. نحرس مزهرية ورد اصطناعي
وبقايا أكاليل
من الأمين العام
وقائد الثورة…
والظلام يهيّج الحجر.
-3-
أنا وسمر
العين بالعين
والفم بالفم
الحضن بالحضن
نتخاشن بالشفاه.
عضة في الرقبة
ويسقط الكلاشنيكوف
على قبر رضيع مجاور…
…
حتى من لساننا
نتعرى نتمدد فوق رخام قبر الشهيد.
السروة هزّت رأسها
وفحّت الزيزان.
ركبتان تهتزان قرب بروازه الزجاجي.
تصطك حتى أسنان العتمة
ويكرج زر غيفارا…
اللهاث الفوار من فمها
خليط دمع ودم وثأر.
وتتفتح الارض من تحتي
كرغيف خبز…
أتحطب بين يديها
بين أسنانها.
-4-
سمر المغزولة
من فرو حيوانات ليلية… تتمدد على رخام الضريح كقطة عارية.
ومن البرواز الزجاجي
أقرأ عينيه تحملقان بي
“أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية”
أرتجف بلا شهوة
أتشنج بلا نشوة مذعوراً.
هل فقدت ذكورتي؟
لم تتفتح زهرتي؟
لم أشرق…؟
على مشارف بكاء ولم أذرف
أستعين بفيلم “إيمانويل”
ولا تنجدني امرأة
من منام سابق.
تحجّرت…
وسط مقبرة كحقل ثلج
رفعت لها
جسدي راية بيضاء
وانكسرت كالمزهرية على رخام الضريح.
…
…
قالت سمر:
“هل أنت عاجز جنسياً أيها الرفيق؟
أنصحك بطبيب الحزب”.
غادرتني بابتسامة كاكية
تاركةً مقاتلاً عارياً
قرب مزهرية ريحان…
أرتجف
وأتدفأ بسيجارتي
وخدودي اكثر احمراراً
من عَلم الحزب
المرفرف فوق مئذنة المسجد.
توأمة مع ڤان غوغ
-1-
اصفراري ليس خريفاً.
يا ڤان غوغ
أحور
أدور
أميل اليك كدوار شمس
أرسم قدماً
ولا ينقصني سوى
الطريق
الى حذائك.
-2-
عالم اصمّ
لا أحادثه ولا يحادثني.
مليون صرخة قتيل في معركة
تحت الشمس
لا تضاهي وجع أذنك
الملفوفة
في المحرمة.
-3-
حذاؤك أنعم خداً
لو أتنفس غبرته.
وحْلُك أشهى عطور الدنيا.
لو أقبّل فم مسدسك
الأشهى
من كل شفاه النساء.
-4-
هذا المساء الكحلي
تسلل ڤان غوغ الى البرواز
انتعل حذاءه ومشى صوبي
يداي أوسع من سهل قمح…
في استقباله.
وخلفي الدولارات تنمو كالعشب
لأفراس نهر.
المزعج
المولود من جذعي.
هو ابني المثمر بالأسئلة
يزعجني بعلامات
استفهامه
“يا بابا
إذا كانت الشجرة أنثى
كيف تبول وهي واقفة!؟”.
صحوة
كلما استيقظ المجتمع
أختبىء تحت السرير
كم أحبُّ الجماهير
أثناء نومها.
عربية. شرقية. إسلامية. يسارية. مسيحية… متوسطية
كل الصحوات…
كوابيس!
لعب
في المباراة الأخيرة
كان اللاعبون على المدرجات…
يشجعون الجمهور في الملعب!
شعب الحطب
الغابة تمشي يا مكبث
الغابة تفتش عن عود ثقاب
شعب الحطب من روابي لبنان حتى جبال أفغانستان
ينتظر عود كبريت.
شعب يائس
يرمي نفسه
في
النار
ولن يصل الى الجنة!
أيها اللبنانيون
لن أكفَّ عن العواء
في ظلامكم
سأبقى كلباً،
كلباً ينبح خلف قافلة تسير
نحو
الهاوية.
* من مجموعة شعرية تصدر قريباً لدى “دار رياض الريس للنشر”.