صفحات الشعر

حوار مع مرآة في حلم

null
نوح ابراهيم

لوحة لماغريت.
–1

بعد الأزل بقليل
عرف جدّي كل الأسماء،
ثم حين قاده الضجر
إلى حيث خُدع،
لمس عريه فَنُفي.
العري هو صورتي الأصل إذاً
وعدوّي هو المعرفة.

إذا أردنا العودة إلى ما نُوعد،
يجب أن نعامل القتيل كالقاتل،
ينبغي تجاهل الخير والشر.

–2
خاض الضيف في شؤون شتى؛
بادئاً بمذابح الأرمن
معرّجاً على الخلق
منتهياً شأن أقرانه إلى جفاء الغيم.
يخوض الكل هنا في كل شيء،
تلك جناية البطالة
أو جنحة المقاهي.
فضيلة ضيفي أنه أكثر الكذب
وذنبه أنه لم يتقنه.
لا تورث مخالطة الآخرين فيَّ أثراً
عدا حرصاً عصابياً على الاغتسال.
أستحضر حياتهم
فاجراً
تحت دفء المياه.
–3
تخليتُ مُذ بلغتُ
عن الشعور بالاهانة؛
ذاك أدعى إلى الطمأنينة.
البلادة الأصيلة
تنشأ في الصبا،
على التراب ذاته حيث لعبت
تلقيتُها كتقريع سموي
على خروج عن السواد،
هدهدةً أليفةً تعيد الضالَّ
إلى منزله.
ما تغيرت الحال إثرها،
لولا ما قالته فتاة الهاتف
مبررة تعلقاً لا فكاك منه:
لأنك إنسان؛
من يصبر على اهانة كهذه؟

–4

لا يحتمي الأرق من فتنة الخوف.
ها لليالٍ عديداتٍ أسمع
شخير نائمٍ غير مرئيٍّ بجواري،
أظنّه هدَّه الشاقُّ
أو غلبته شيخوخته،
كيف لي أن أعرف
عمر اللامرئي؟
وأحياناً حين يتعاظم نَفَسه،
سقوطاً من عَلٍ
أو غرقاً في أمواه،
أناديه باسمي علّه يفيق.

لِمَ يلوذ اللامرئي بغرفتي؟
ولِمَ يبدو ضعيفاً هكذا؟
–5

أرتج الباب مدَّعياً نوماً،
فقد يحلو لعزيزٍ أن يُفرغ وساوسه
في رصانة هواجسي,
علَّنا معاً نرقَّع الحياة.
صدَّقتُ يوماً
أن الكلمات قد تنقذ مرضاي،
ومن ثَمَّ، بُعيد موتٍ أول،
آثرت الغضَّ عن الأمل.
لا فائدة تُرجى من وحدتي،
فمرضاي بي متربصون
أكاد لا أخفيهم،
أتحرّى أصواتَهم الكليلة
على أسرَّة موتهم،
نادباً هارباً
فأنا
لا أريد لروحي أن تهلك
آثمة بالرحمة.

–6

هل ستعرف السويد يوماً
ما فعلته بي؟
ألن يتقوّض بنيان أمة
يحلم رجل أن تبيد؟
منكبّاً على حسرة
أتأمل صور حرب كونية
طمرت العجوزَ البيضاء
جذلانَ بخراب النفوس وركام الأبنية.
فلتقرَّ عين السويد
نائمةً في ملكوت سلامها
فقد استبعدتْ
شروري وفوضاي.
لا انتقام لمثلي
سوى شهوة عارمة
لذوبان الجليد!

–7
“أنا شخصٌ محافظ”،
قال الصحافي الشاب
في حيثيات زواجه.
أشار أيضاً إلى حرصه
على خلق ما يخلفه
عسى لا يفنى.
قشعريرة بسبب البرد أو البيرة
أو صورة الخلود الأكمل
سرت في تهدجه؛ خمنت.
يا للأسى؛ لا يعرف صديقي
أني في ليلة خريفية شبيهة بهذه
تحت النجوم ذاتها، الواضحة الفاسقة،
بزجاجة بيرة مكسورة،
سأبقر بطن وحيده،
متمادياً في ضغينة لا كنه لها.

–8

لكم أبتغي أن تتسلل
وداعة اليومي الرخيص
إلى شقاء ليلي،
أن يتوعّدني الدائنون بخناجرهم
ويطردني الجزار عن معيّ الذبيحة.
وأين هذه من وطء
حوافر وحوش الليل تنهش،
كلما توحدتُ، صدرَ رضيعي.
لا باب يمنع الغازين
ولا جسارة تدفع الأب
أن يذود عن كبده.
فقط حين يخفق
جناح الفجر
يُترك الرفات
لليلة أخرى.

–9

تثاءب صاحبا سجني
حين كان المغني يفرد خلاصة روحه غناءً؛
ما اكترثا لأمره
أو لأيِّ أمرٍ آخر, لأنهما نائمين كانا.
لا أندهش
فهذه حالنا جميعاً.
لا يذكر أحدٌ
متى بدأنا نسير في نومنا،
متى صار ما يقوله الآخرون
مجرَّد حوارٍ مع مرآة في حلم،
وما نسمعه صدىً
لما قلناه نحن في حلمنا للمرآة.

صوتكَ يأتي من جوفي؛
لِمَ لا صوت لك؟
قال الذي ظننت أنه ناجٍ منهما ¶

ندمي هو أني تأخّرت
[ 1
لم تشهد الساحة بَهجةً كهذه؛
بشراً من كل الأعمار
يحتفلون بما لا يدرُون،
عاهراتٍ بديناتٍ لا يطلبن سوى المتعة،
عجائزَ يتمرَّنون بحماس
على دروس الكاماسوترا،
شعراءَ تنتابُهم المسرَّة
لأنْ لا أحد يصغي إليهم،
أطفالاً نسوا صفعات الأمس
وخِرق اليوم.
الحيوانات أيضاً تؤدي ما تعرف من غناء
محتفلة بوفرة العشب.
يَظهر تشايكوفسكي ديمومةً،
مطارداً أرانب بيضاءَ هاربة،
ممتطياً كماناً مكسوراً.
[ 2
رأى كوكتو
أنَّ بوسعه تمثيلَ
كلِّ أصواتِ العالم
في صوت آنا مانياني.
لا عَجبَ إذاً
في انتظار صوتٍ
يعبر الليالي ليصل إليَّ؛
صوتٍ صادرٍ عن كينونةٍ أخرى
لمْ نألفها نحن العراة الصامتون.
لكن الرهبة تَسكننا،
معلِّلي النفس بالغامض المخلِّص،
مما سننتظر بَعدها.
فليكن الصمتُ إذاً
صمتاً نقياً كانتظارِ العانسِ
أو دمِ المكان.
[ 3
ما عادت أصوات المؤذِّنين خاشعةً،
بل اشتدَّ عُودها وغَلُظَت
وأضحت أقرب إلى النداء.
ربما اختلفت سُبُل الإيمان الآن
فشَقَّ إلى الصرخة طريقَه
أو أوى إلى بيت قسوته.
لكنّ الحيرةَ مهنتي
وبَدل الرُّكونِ إلى إدراكٍ
أُشْكِلُ الأمرَ عليّ؛
ربما خطاياي تستغل هشاشتي؟
أو ربما هو أثر الكحول ورامبو؟
[ 4
ضلالٌ ما نسميه أوطاناً.
ما الوطن سوى منفىً إضافي
أو تشتتُ ذات؟
نقتطع أعماراً نؤمن به
ثم نتحقق من استحالته.
ما الوطن في قيظِ ظهيرةٍ
سوى ارتياح إلى غيابه؟
أحسد الروسي الميت
الذي قضى أربعين عاماً
في قبوٍ سريٍّ ببيته؛
ذاك وطن يستحق المحاولة.

[ 5

تَراكم غبارٌ سخيٌّ
على أثاث غرفتي،
اندسَّت عناكب في شقوق الطين
ونَبَتَ فطرٌ تحت الحنفيةِ الدالفة.
أعرف أني قليل الحركة
لكني لستُ عديمها بعد؛
ألستُ هكذا أُنسى؟
على الطريق إليَّ
أسقطتَ كل متاع ذاكرتك
فاندهشتَ حين فتحتُ الباب لك.
مرت سنينٌ غزيرةٌ
مذ قبضتَ روحي أول مرة.
[ 6
تدهشني فكرة التعايش السلمي.
والحق أن لا غرابة في التعايش؛
تربض الطرافة في السِّلْم.
ألا تستدعي مفاهيم كهذه
أحقاداً إضافية؟
آخذ نفسي مثالاً:
ذبحت كل إخوتي
فاختلفت الكوابيس؛
تجسدت الكواكب الإحدى عشر
ذئاباً صديقة تحمل ندبات الطعن؛
كان الأفضل خَنْقُهُم.
ندمي هو أني تأخرت.
[ 7
من بين كل الوصايا
يبدو النَّهمُ جديراً.
أرثي مرتكبيه المسوخَ
وأشتهي بَلادتَهم.
إذاً؟ لِم أرى البدانةَ جمالاً
والنحولَ علامةَ خوف؟
ربما لأن الرشاقة جمالٌ لديكم؛
وأين الثورة إن لم يكن أُسُّها
في دَكِّ الجمال؟
[ 8
تنبح القصائد خلف الجدار، أنصتْ؟
لحمٌ ما تريده، حياً يترف.
لن أخرج ولكني
سأرميكَ إليها فأنا عبدَها لا زلْت.
عبداً كنت في حلمي أيضاً
مكبلاً بالسلاسل، زنجياً
وراء قضبان باب حديدي
صحبة آلاف العبيد.
كلماتٌ ما ستزوِّدني به،
كلماتٌ حيةٌ تترف
آملُ موتَها في هذا البياض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى