صفحات ثقافية

الشاعر المكسيكي خوسيه اميليو باتشيكو الفائز بجائزة ثرفانتس: العالم برمته محجوز في نقطة مياه

null
قبل نحو أسبوعين على نيله جائزة ثرفانتس، اقرّ الشاعر المكسيكي خوسيه اميليو باتشيكو لمجلة “ايل كولتورال” الإسبانية الأدبية انه لاقى ولحسن الحظ ومنذ اعوام عدة أفضل سخاء من جانب زملائه الإسبان، ليردف ان ليس ذنبهم ان يجهله جمهور القراء في اسبانيا وليسأل: “كيف يعرفونني فيما نحن دول ودول تنطق اللغة عينها؟”.
اراد التساؤل لنفسه ان يكون ودودا ودمثا ولائقاً، فيما تستّر على عتب وانزعاج وأسى، بيد ان تلك المشاعر ستتبدّد لا محال، مع نيل باتشيكو جائزة أدبية يهجس بها الكتّاب بالقشتالية على مرّ ايامهم: عين على المكوث الى جانب بورخيس وآخرين، وعين على اجتياز عتبة المحلية الاسبانوية صوب مكان ارحب. في عرف عشّاق الشعر الأميركي اللاتيني في القرن العشرين، فإن خوسيه اميليو باتشيكو كاتب مرجعي، شخص سقم من مئة الف التزام، لم يكف عن مباغتة الجميع بتشكيكه الترفيهي. خمسون عاما أمضاها باتشيكو في كتابة نصوص مكثّفة، مارس فيها مروحة من الأنواع الأدبية الممكنة بحرفة وفطنة وخبرة، ليصير رائياً يريد استقدام العدالة للمظلومين والرأفة للناس.
انكشف معظم الشعراء المعاصرين في مقارعة القراء في مسائل ترتبط بالأصول الأدبية. في القرن العشرين انتقل الشعر تدريجا من قصائد التركيز على الإلهام الخارجي الى اخرى ترى اللغة في عينها مصدرا وحيدا، كاملاً ووافياً لكل تجلّ. ركّز هذا التبدّل على تطور دور الشاعر ايضا. خلع عنه جبّة رجل الدين ليصبح “إلها صغيرا” وبعدذاك شاهدا علمانيا او جامعا لنصوص متداخلة. والحال ان قصائد خوسيه اميليو باتشيكو التي تميّزت بعمق نقدي، ساهمت في إعادة تعريف الكاتب بلا ريب. ذلك انها امتحنت حدود الترجمة واستخدمت مهارات تكاد تكون يدوية، اعادت طرح مسألة الفرادة. فيما يتناول شعر باتشيكو آثار الوقت التدميرية، فقد هجس أيضاً بلغز اصول الشعر، وتلك مشكلة وافت الشعراء والقراء على السواء دوما وستوافيهم دوما. والحال ان الاصول تسحرنا لأنها تأويلات نختارها لتخبرنا عن ذواتنا كما لتقصّ علينا طبيعة الفنون.
عندما يطالب باتشيكو بتقديم بورتريه ذاتي عن نفسه، يتحدث عن استحالة الامر من دون استخدام تقنية “فوتو شوب” كلاميّة. ذلك ان هذا الصنف من التعريفات الشخصيّة يمكن ايجاده في الشعر حصرا، حيث يتراءى على اكبر قدر من الحقيقة لأنه غير ارادي. يقول في الحوارات ان “القصائد لا تكذب، اما انا فبلى”. في حين يزيد في هذا السياق في قصيدة “لمن يهمه الامر” قائلاً: “لينظم الآخرون القصيدة العظيمة/ الكتب التوحيدية/ الاعمال المؤكدة/ التي تصير مرايا الاتساق/ تهمّني شهادة اللحظة الهاربة فحسب/ تملي في فرارها/ الوقت في طيرانه/ يشابه الشعر الذي ابحث عنه/ اليوميات/ حيث ليس من وجود لمشروع او لوسيلة”.
ولأن التعريف لا يحيد عن لعنة المسقط ايضا، نجده في صورة من المحفوظات الادبية الوطنية تكاد تكمل عامها الخمسين الى جوار سيرخيو بيتول وكارلوس مونسيفاييس في مكسيكو: ثلاثة كتّاب مكسيكيين يفترشون الأرض وينصرفون الى حوار ساخن. هؤلاء فرسان وناجون ثلاثة من حقبة لم يبق منها سوى الذاكرة. لم ينسَ باتشيكو مذاق حلاوة العيش في مكسيكو قبل اللاإستقرار، يوم كانت قبلة يلوذ بها غارثيا ماركيز والمزيد من الكتّاب. آنذاك كانت الإقامة في وسط الشارع احد الإمكانات، وكانت مكسيكو مطرحا يستحق الإقامة في الذاكرة. يتحسّر باتشيكو على مكسيكو المفقودة في مجموعة “زمن الظلمات” التي اصدرها هذا هذه السنة لدى دار “فيزور” الاسبانية، وتحديدا في قفص قصيدة نثريّة عنوانها “مهداة الى الغريبة”. ينوح معلنا: “توجعكم مدينة جعلتموها مدينتكم ومن المؤسف رؤية كيف دمّرناها ولا نزال نبدّدها. لا افهم اسباب شغفكم بمكان باعث لليأس ومفرغ من الأمل. ربما ثمة امل لأنكم تلتقون ها هنا مرّة اضافية وتملأون الزمن القاتم ضوءا”. يواصل الكتابة عن وجع الهوية المدينيّة: “رأيت النور في مكان يحمل هذا الإسم عينه وملأ الحيّز الجغرافي نفسه. انا اليوم غريب في مسقطي، في تلك الأرض غير الإمتثالية. لم اعد اعرف احدا الآن ولم اعد اتعرّف الى احد. اما انتم فلستم غرباء في اي مكان. انتم في شتى الأمكنة كمثل الموسيقى. ارجوكم أن لا تذهبوا. لا تأخذوا معكم، بسبب الغباء والشره، جزءا من الضوء الضائع بين الصحراء القاتمة والوحشية التي انبتناها”.
الصوت المتحدّث هنا قادر على تحريك الجموع، على التأثير في اجيال مكسيكية شابة في اللحظات المفصلية. على هذا النحو، فإن استهداف الاف الطلاب المتظاهرين بدبابات العسكر في الثاني من تشرين الاول 1968 في ساحة تلاتيلولكو، ساحة الثقافات الثلاث في مكسيكو، أرخى بظلاله على شعر باتشيكو، فكانت ليلة تلاتيلولكو الآثمة بركان الرفض والاستهجان القادرة على ذرّ الانفعال في مواطنيه وجعل نبرته اكثر قتامة وسوداوية. لكأنه استشرف قبل عام في “خيانة عظمى” مآل بلاده الملتبسة: “لا أحب بلادي/ وهجها العبثي/ اللامادي/ غير اني وإن تبدّى الأمر غير مناسب/ سأهب حياتي/ في مقابل عشرة اماكن من اماكنها/ في مقابل بعض الناس والموانئ وغابات الصنوبر والقلاع/ ومدينة متكسّرة رمادية ورهيبة/ ومجموعة من وجوه التاريخ/ والجبال/ وثلاثة او اربعة انهر”.
تلك الصرخات اللحظوية لم تجعل باتشيكو يؤمن بحيّز الواجب في العلاقة بين الشعر والواقع من جهة، وبين الحدث الآني من جهة ثانية. اكتفى باللعب بالنتائج فحسب. لم يجنح تاليا صوب القصائد السياسية البحتة او الإجتماعية او الغنائية التجريدية. ركّز اهتمامه على الماهيّة المكسيكية وعمق كينونتها، في موازاة تطوره شاعرا مدينيا يستوطن بلادا ليست سوى بلاده، وإن جعلتنا قصيدة باتشيكو نكتشف أخطار الاساطير البدائية المكسيكية ايضا. يُظهر عمل باتشيكو تأنيا عميقا في مضمار اللغة واحتراما للتقليد وثقافوية هي ثمرة معرفة كبيرة بالكوني.
صادق باتشيكو اوكتافيو باث ولم يرغب في التعرف الى نيرودا بدافع من الخجل. واظب على قربه من مواطنه باث خلال اربعة عقود وجعل هذه العلاقة محطة لا بد منها. جمعتهما صلة، على صعوبة كبيرة احيانا، وعلى ودّ لافت في احيان اخرى، تجلّى في “صخرة الشمس”. تعامل باتشيكو مع لويس ثيرنودا وتبادل الرسائل مع ابن جيل 27 فيسينتي اليكساندري، غير انه بيّن ازاء الاثنين عن خفر عميق، يشابه الهروب.
في عمل خوسيه اميليو باتشيكو حلقة وحدويّة مرجعيّة تحمل سمات “ماندالا”، ارثاً من أوكتافيو باث من دون شك، وتأثّراً بالشرق والأشكال الشعرية الهللينستية، غير ان ثيماته الأساسية بقيت ثيمات شعر راهن يصل ذروته في العشقي والحسّي. قصيدته مكان للترددات حيث تقاطع ايضا مع  مجموعة من الأخطار الداهمة في التسويق الأدبي الاسباني المعاصر. هناك لقاء مع السرديّة واستخدام للغة اليومية شبه الشفوية والهادفة في نصوص متشائمة وراديكالية، تنتقل كالعدوى الى الآخرين. من الجميل في هذا الصدد ان نقرأه في “زمن الظلمات” يكتب انه رأى “الابيات تتشكل يتامى وتخرج للقاء احدهم يدافع عنها. تدير معظمها ظهرها. عندما تقترب يشيح الشخوص أنظارهم لكأن الأبيات غير موجودة”. ثمة قصيدة بعنوان “النقطة” حيث يتم تبسيط هندسة المستويات اللغوية التي ينصرف اليها عدد كبير من الشعراء. يكتب: “النقطة شكل من الاختزال/ العالم برمته/ محجوز في نقطة مياه”. انها صورة من صور خيال خصب يفرغ اللانهائي في الصغير المتناهي، وقد تبلور رويداً وارتاح الى لقيته.
مجموعات باتشيكو الست الاولى، من بينها “عناصر الليل” و”لا تسألني كيف يمر الوقت” و”مذاك”، رصدت الستينات من القرن الماضي. الشاعر في مطلع العشرينات وصولا الى بداية الثمانينات من القرن المنصرم، يختبر متوسط العمر. لكأن باتشيكو حاول في عناوين مجموعاته الأولى ان يجبر نفسه مبكرا وقبل سن الأربعين، ان يواجه نفسه بما سيكتبه لاحقا.
يصنّف باتشيكو مساره الابتكاري مؤكداً “ان ما ليس استثنائيا في الشعر هو من دون قيمة”، في تحوير شخصي لقول بورخيس إن الشعر لا يحتمل سوى الاستثناء. باتشيكو المولود في مكسيكو في نهاية الثلاثينات من القرن العشرين، بدأ يُعرَف في عام 1959 من طريق كتاب قصص “دم قنديل البحر” وبعدذاك “الريح البعيدة وقصص اخرى” و”مبدأ السعادة” كما الرواية الوجيزة “ستموتين لاحقا”، وتلك فصول تتولّى طرح دور الناقد في تبويب الأنواع الأدبية. غير ان اثره الشعري الذي تكرس منذ “عناصر الليل” 1963 هو المسؤول عن جعله غير قابل للرحيل النهائي. قبل الكتابة جاءت القراءة، وبورخيس تحديدا الذي نهله، كما فعلت قلة قليلة، ليتشرب منه حرفة سيُمِرّها الى طلابه في جامعات اميركية عدة. ورث من بورخيس على الأرجح السلالة الفلسفية ولذة ألعاب المتقابلات، وتغيّرات السلم النصي وحسّ المرح الذي تم تخييطه من متناقضات الأساطير وتفكيكها.
شكل تحدّي العثور على الفرادة لازمةً في شعر باتشيكو كما في سرده. ثمة صعوبة قصوى في تحديد مصادر هذه النصوص على نحو واضح. بانت المعلومات التي تضمنتها ذاتية وكان على القارىء أن يفهم وحده الانعطافات والالماحات من دون مساعدة. وفيما بدا رواة باتشيكو متأنقين وناطقين شعريين باسمه، فهم كانوا يمحون بتعمّد الحدودَ بين الشعر والندرة، وبين التخييل والوثائقي والاقتباس.
باتشيكو شاعر الرؤية المنقّاة من الزغل في خصوص حقيقة الأشياء الصغيرة المخفيّة. عرف ألماً وإرهاقا رهيبا تعلّق بالمحافظة على شدّ معين في بحيرة هادئة ونقيّة في آن واحد. يقترب شعره من السكون غير انه يختلف عنه ايضا. ذلك انه من صنف كريستال ثلجي. في بنية القصيدة انعكاس للغرض المادي في وحدته، غير انها تدين ايضا الى التجريد، فتتوزع بين الزمن والمذهل والغامض وكثافة الكون في المادة الفيزيائية الأكثر تواضعا. انه دور الشعر، كفعل يمكن رؤيته مسبقا، ويضيع بعدئذ ما إن يحضر. على هذا النحو يبدو من البديهي ان يكتب في “مرثية مضادة”: “احب هذا التغيير الدائم/ هذا التبدل ثانية تلو الثانية/ ذلك ان ما نسمّيه حياة يصير بدونه، من حجر”.
نال باتشيكو قبل حين جائزة الملكة صوفيا للشعر وميدالية الفنون الجميلة الذهبية في المكسيك، وفي تموز المنصرم افتتح معرضا ضمّ ما يفوق خمسين مؤلفا وصورة فوتوغرافية ومخطوطا اختصرت سبعة عقود من الحياة وخمسة عقود من مسار كتابي. على الرغم من مواكبة باتشيكو لسمات كتابية تجاري أدبا ما بعد حداثي، لم تجلب لباتشيكو الاهتمام النقدي كما جرى مع كتّاب اساسيين آخرين، من مثل باث او بورخيس. قيل في باتشيكو انه شاعر من شأنه ان يصير موضع مقالات نقدية او مراجعات على الأكثر عوضا من ان يصير اهلاً للكتب الاكاديمية. النظرة تغيّرت اليوم بلا شك. على ما يتراءى وفي اعقاب نيله جائزة ثرفانتس، سيصعب عليه ادعاء الانهاك. صار شعر باتشيكو باعتراف الجميع دمغة الوفاء للتقليد والانقلاب على التلوث النوعي.

“مقتطف من “الملكة” من مجموعة “الريح البعيدة”
سحبت اديلينا فرشاة الرموش وراحت تضع الماسكارا. لطّخ خطٌّ من العرق جبهتها. جفّفته مستخدمةً المنديل وعادت لتكمل ماكياجها. كانت العاشرة صباحا. كل شيء حولها مشبع بالحرّ، في حين كان احدهم منهمكا يعزف لحن “سوبري لاس اولاس” (فوق الموج). اسكته صخب حيث تداخلت اصوات عدة كان يصعب تمييزها. ابتعدت اديلينا عن طاولة الزينة في غرفة النوم، وفتحت الخزانة واختارت فستانا طبع بالزهور. شكّل هذا النمط من الازياء افضل حل بغية ستر شوائب جسدها.
راحت تتأمل نفسها في المرآة على نحو متسامح. اجتازت الباحة الداخلية بين اواني الزهور وعصا البايسبول والقفازات والقبعات التي تركها اوسكار وكأنها معوقات في طريقها. دخلت الحمّام وسحبت الميزان، وما ان تسمرت في مكانها حتى استبد بها احساس بالصدمة. خلعت حذاءها. داست مجددا الغطاء المطاطي. خلعت ملابسها وحاولت للمرة الثالثة. دلّ الميزان ان وزنها ثمانون كيلوغراما. الجهاز معطل بلا ريب. كيف يعقل ان تقرأ الارقام عينها وقد بدأت باتّباع نظام غذائي قبل اسبوع وممارسة التمارين الرياضية؟
عادت ادراجها ومرّت بالباحة مجددا وقد بانت اشبه بمنبع من الضوء حيث ارتفعت ألواح زجاجية نصف شفافة. في احد الايام، على ما توقع اوسكار، سينهار الطابق إذا لم تفقد بعض الوزن. تصوّرت نفسها وهي تهوي الى حين تصل الى محل بيع الملابس. سيكرهها عندئذ المستأجرون من دون شك. سينصرف ازيادي ونادير الى الضحك وهما يريانها تُطمَر تحت امتار وامتار من قماش البوبلين.
دخلت غرفة الطعام وراحت تنظر الى الصور العائلية المتوانية لكأنها تراها للمرة الأولى. ها هي اديلينا تفوز وهي في شهرها السادس بمسابقة “اسمن طفلة في فيراكروث”. وها هي في التاسعة في مسرح كلافيخيرو تلقي قصيدة “امي او ماما” للشاعر المكسيكي خوان دي ديوس بيزا. في زاوية اخرى كان يمكنها ان تتأمل اوسكار طفلا حديث الولادة ينام في قفّة هائلة للرضّع، ورثها عن شقيقته. الى جانب هذه الصورة كان هناك اخرى لأوسكار العام المنصرم وهو يشارك في احدى المباريات ضمن فريق الاحداث للغولف. هناك وقف غييرمو في مقدمة سفينة “دورانغو” وهو يضع شارات القبطان. غييرمو مرةً اخرى، مصافحاً السيد الرئيس خلال مناورات جرت بين قصر سان خوان دي الووا وجزيرة التضحية. في الخلف وقفت اورتينسيا حاملة المظلة، فخورة بشريكها في الحياة ومتأثرة بمحاذاة زوجة الحاكم. في زاوية أخرى راقصت اديلينا والدها على ايقاع فالس “فاسيناسيون”، اي الافتتان، في حفل عيد ميلادها الخامس عشر. يا لهذا اليوم. تفضل ان لا تستعيده.
رجعت الى الحمّام. عوض فرك اسنانها، راحت تغرغر بسائل “ليستيرين” وفركت القواطع بالمنشفة. دخلت حجرتها ورنّ الهاتف.
– ايتها السمينة…
– ماذا تريد ايها القزم الوضيع الملعون؟
– اهدئي ايتها السمينة، انفّذ مهمة اوكلني بها والدنا (قالها بالانكليزية). لماذا تغضبين على هذا النحو اديلينا؟ هل زدت مئة كيلوغرام اضافي؟
– ما همّك ايها الاحمق. قل لي ما ترغب في قوله. انا على عجلة من امري.
– على عجلة؟ اجل طبعا، ستحلّين مكان ليتيسيا في العرض كملكة للكرنفال، أليس كذلك؟
– اسمع ايها الغبي، ليست هذه السوداء المتخلفة عقليا ملكة اي شيء. عائلتها دفعت رشى لجميع افراد اللجنة.
– في الواقع ايتها السمينة تتأكلك الغيرة، اراهن انك تتهيئين للعرض وكأنك مكان ليتيسيا.
– العرض؟ ها ها، لا يهمّني العرض البتة. انت وليتيسيا والكرنفال برمته، فلتذهبوا الى الجحيم.
– يا لهذه التعابير. اين تعلمتها. اتمنى ان يسمعك والدي.
– اذهب الى الجحيم، قلت.
– اهدئي ايتها السمينة، ما الذي ينتابك؟ اسمعيني، يقول والدي اننا سنتناول الطعام هنا في “بوكا ديل ريو” برفقة الاميرال، سألني ان اذهب بحثا عنك.
– شكرا، لا ارغب في ذلك. قل له اني مضطرة الى انهاء دروسي. فضلا عن ان هذا الاميرال الغبي العجوز يصيبني بالانزعاج وهو يكثر من نكاته الغبية، فيما ينبغي لوالدي ان يحتفي به.
– افعلي ما يروق لك، لكن اتمنى عليك ان توفري العذاب الآن بما ان احدا لن يراك.
– اقفل فمك.
– سأقفل الخط ايتها السمينة اللعينة. ستتذكرينني، ايتها الكرة الدهنية.
وضعت اديلينا السماعة وهي مستاءة. جلست والدموع تكاد تطفر من عينيها. فتحت الخزانة الصغيرة التي تعود الى طفولتها والمزيّنة برسوم “والت ديزني”. سحبت قلما ودفترا مخططا ووضعته امامها على الطاولة وراحت تكتب:
عزيزي البرتو:
للمرة الالف اكتب اليك في هذا الدفتر رسالة لن ابعث بها ابدا وحيث أقول الامور عينها. انهى شقيقي للتو طقس اهانتي ولم يتركني اقصد “بوكا ديل ريو”. حسناً رغب غييرمو بالطبع في دعوتي، غير ان اورتينسيا تسيطر عليه، تكرهني بدافع من الغيرة، لأنها تدرك الى ايّ حد يعشقني والدي والى ايّ حد يهتم بي. لو احببتني كما ظننت لأرسلتني الى اسبانيا والى كندا وانكلترا واماكن اخرى اجهلها، بعيدا من هذه الجحيم التي لا تقوى روحي من دونك على تحملها.
توقفت بعدذاك. لتمحو “لا تستطيع روحي من دونك ان تتحملها”.
عزيزي البرتو. سأغادر بعد لحظات. أراك مرة اخرى، في حين انك لا تراني، عندما تمر في عربة ليتيسيا المجازية. اقول لك وبصراحة، انها لا تستحقك. تثير اهتمامها وانت ترتدي البزة العسكرية، بزة الطالب في البحرية. لم يعرف التاريخ طالبا مثلك. وليست ليتيسيا جميلة كما تظن. حسناً، ربما كانت جذابة، لا انكر ذلك، صارت ملكة الكرنفال لسبب ما. غير انها من صنف، كيف اصفه؟ انه صنف رديء جدا. شعبي جدا. ألا تلاحظ ذلك؟
انها فتاة مغناج ايضا. مدعية. اعرفها مذ كنا اطفالا. صارت راهنا من اعز اصدقاء الفتيات اوساريو، فيما كانت تتحدث بالسوء عنهن قبل حين. كن يلتئمن للسخرية مني، ذلك اني اكثر ذكاء منهن وحصّلتُ علامات افضل. طبعا ليس من الضروري ان اخبرك هذا غير اني لا ارتاد الحفلات او المناسبات، ولا اتنزه ايضا ايام الاحاد واخرج على الدوام برفقة الشبان. لا افكر سوى فيك، يا حبي، في اللحظة حيث ستراني عيناك اخيرا.
ولكن انت يا البرتو هل تذكرني؟ هل نسيت اننا التقينا منذ عامين، كنت دخلت للتو البحرية وانا كنت يومذاك برفقة والدي وانطون ليزاردو؟ كنت في انتظارهما في الشاحنة الصغيرة. اما انت فكنت تشعل السيجارة، ثم اقتربت. لا اذكر سوى هذا اليوم الجميل حيث تقاطعت حياتانا على الا نفترق بعدذاك.
ثم محت “على الا نفترق بعدذاك.”
تحاورنا لوقت طويل. اردت ان اترك لك جهاز الراديو كتذكار. غير انك رفضت. اعتدنا اللقاء ايام الاحاد للتنزه ولتناول المثلجات عند “يوكاتان”.
انتظرت اليوم كله وانا قلقة. بكيت كثيرا في ذاك المساء. غير اني ادركت لاحقا انك عدلت عن القدوم لكي لا يقولوا انك اهتممت لي لمجرد اني ابنة شخص مرموق في القوى المسلحة. في حين اني، واخبرك ذلك بصراحة تامة، لم افهم يوما لماذا رقصت في تلك الليلة، اخر ليلة من العام، في “الكازينو الاسباني” مع ليتيسيا، وعندما دنوت منها وعرّفتني بك، قلتَ “تشرفت”.
البرتو تأخر الوقت، سأخرج الى لقياك. سأضيف كلمات عدة قبل ان اودعك. اقسم اني هذه المرة وفي حال فقدت بعض الوزن فسأصير “الملكة في الكرنفال المقبل”. تعلم ان وجهي ليس قبيحا، يردد الجميع ذلك. هل ستصطحبني للسباحة في موكامبو، حيث شاهدتك مرة مع ليتيسيا؟ (لحسن الظن لم يروني كنت ارتدي ثوب السباحة، وركضت للاختباء خلف الشجر ما ان لمحتهما). غير اني اعدك ان جسدي سيصير رشيقا، واجمل من جسدها، في العام المقبل. سيحسدك الجميع لأني برفقتك. الى اللقاء، يا حبي. أراك قريبا. انا اليوم كما دوما لك.
اديلينا
عادت الى حجرتها. نظرت الى المنبه الذي يحمل صورة “باغز باني” ثم تركت الدفتر حيث كانت تكتب للتو يرتاح على الطاولة، صححت الماكياج ثانية وهي تواجه المرآة، ثم غادرت بسرعة السلالم الخزفية. قبل ان تفتح باب الباحة، استطاعت ان تتنشق رائحة الاوكسيد والرطوبة. مرت امام محل الحرير الذي يملكه الاتراك، غير ان ازيادي ونادير لم يكونا في المكان، وكان والداهما على وشك غلق المتجر.
في الزقاق التقت زميلين لشقيقها في الفريق الرياضي. ألم يرافقاه الى “بوكا ديل ريو”؟ لاحظا الماكياج وسألاها إن كانت تنوي المشاركة في المسابقة التنكرية او ما اذا كانت ستشارك في مسابقة “الملكة القبيحة”.
نظرت اليهما بحنق وازدراء. ابتعدت وهي تهيم في رائحة دخان خلّفته الأسهم النارية التي اشعلوها للتو. لم يكن ثمة زحمة. كان الناس يسيرون في الشوارع المغطاة بقناني الجعة والاوراق الصغيرة. فرسان وقرويون وجنود رومان وراقصات باليه ومحاربون مناصرون لزاباتا واشخاص من دون زي تنكري، كانوا جميعا يتقدمون صوب الشارع الرئيسي.
سرّعت اديلينا خطاها. لاحظت أربع فتيات يستدرن، لاحظنها ولكنهن لم يحركن ساكنا، تركنها هنا. استمعت الى ضحكتهن المشتركة وفكرت انهن كن يهزأن بها كما جرى مع اصدقاء اوسكار.
لم تر احدا تعرفه غير انها تنبهت الى ان بعض السيدات رحن يتأملنها على نحو موارب. فكرت في سحب المرآة الصغيرة من حقيبتها بغية التأكد من انها لم تفرط في استخدام المساحيق من دون انتباه. انها المرة الاولى تستخدم مساحيق والدتها. فكرت اين يسعها الاختباء لرؤية نفسها؟
رلى راشد
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى