الكتاب لا عاصمة له!
رياض نجيب الريس *
في بداية كل معرض كتاب، كنت وما زلت أسأل عن حال الكتب والكتّاب. وظل جوابي دائماً أنه بخير حتى لا أعيد مقولة شهيرة سئمت من تردادها: «تسألونني عن سقم الكتاب، صحته هي العجب»! ذلك لأننا نحن الورّاقين جمعٌ من المتفائلين، همّنا أن نصنع للناس الذين لا يقرأون ولا يهمّهم أن يقرأوا ولا يعرفون كيف يقرأون، مصنّفات بأشكال وألوان غريبة نبيع لهم فيها أحلاماً في السياسة والأدب والفن والرواية والشعر، بأسعار زهيدة بكل المقاييس. أحلام لم يفكروا فيها وربما لا يريدونها، وبعض منهم يعارضها ويقاومها. وعلى معشر الورّاقين، بمختلف مشاربهم، أن يثبتوا جدارتهم في كل معرض كتاب في وجه جحافل الجهل واللامبالاة والأمية. في هذا النطاق، القارئ ليس الضحية، بل هو القاتل، بينما القتيل/ الضحية هو الكاتب. أما الناشرون، فيصبح دورهم دور مؤسسات دفن الموتى.
معرض الكتاب ما هو إلا مناسبة لإعادة النظر في الكارثة الثقافية التي نتخبط بها
كل هذا «التفاؤل» يدفعني إلى التساؤل: مَنْ قال إن للكتاب عاصمة؟ ومن قال إن بيروت عاصمة عالمية للكتاب، لهذا العام 2009، أو لأي عام سابق أو لاحق؟ هذه المقولة «الاستعراضية» التي سئم اللبنانيون والعرب سماعها طوال الأشهر الماضية، والتي كانت مهمتها الأساسية إرضاء غرور اللبنانيين «وشوفينيّتهم» الزائدة هذه الأيام، ترافق معرض الكتاب العربي الدولي الثالث والخمسين الذي يقيمه النادي الثقافي العربي، والذي يبدو أن مهمته الثقافية الوحيدة منذ سنوات عدة، هي إقامة هذا المعرض. وهذا مما يذكرني بمقولة الحبيب الذي لا يعرف عن الحب إلا كلمة «وحشتيني». والنادي لا يعرف من الأنشطة الثقافية إلا معرض الكتاب.
أما بيروت التي أُوهم اللبنانيون طوال سنة كاملة بأنها عاصمة عالمية للكتاب، فذكّرتني بما تعلمناه في المدرسة في حصة التاريخ عن «الإمبراطورية الرومانية المقدسة» التي كانت قائمة شكلاً في مطلع القرن العشرين قبالة الحرب العالمية الأولى، والمؤلفة من النمسا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا وسواها من دول أوروبا الوسطى. كان مدرّس التاريخ يقول لنا، وهو يهمّ بشرح هذه الظاهرة، إنها ليست إمبراطورية ولا رومانية ولا مقدسة. وهذا ينطبق تماماً على بيروت، حيث لا هي عاصمة عالمية ولا الكتاب فيها عالمي. مَنْ سمع أو رأى أو لمس أي نشاط «عالمي» في بيروت خلال هذه السنة عدا المقولة الإذاعية المكررة في الراديوات: بيروت عاصمة عالمية للكتاب؟ أي معْلم ثقافي تم رفع الستار عنه، وأي مهرجان ثقافي أمّه الأدباء والشعراء والمثقفون، ومن أي حدب وأي صوب قصدوا بيروت من أجله ليكون علامة فارقة في معالم بيروت الثقافية؟ أم معرض الفرنكوفونية… للكتاب هو الجانب العالمي من السنة؟ أم «المقاولون الثقافيون»، كمتعهّدي أبنية الباطون، هم الذين حوّلوا أنشطة هامشية قروية محلية بسيطة، صرفت موازنات طائلة عليها، إلى أنشطة «عالمية» طنطنّا فيها طوال عام كامل.
إن معرض الكتاب ما هو إلا مناسبة لإعادة النظر في الكارثة الثقافية التي نتخبط بها، في لبنان والعالم العربي، فلا يبقى المعرض مجرد مكان لرفوف كتب، بل يصبح موقعاً يتنادى فيه أهل الثقافة إلى إنقاذ ما بقي من سمعة بيروت، لا كعاصمة «عالمية» بل كمهد لتأصيل ثقافة عربية حضارية غير ملوثة، وليعيد لبنان أمّ دنيا الثقافة العربية، من دون غرور ولا تبجّح ولا ادّعاء.
وللكلام بقيّة.
* كاتب وناشر