رواية “إيبولا” لمحمد دالاتي: تدوين متعجّل للأسرار والوقائع القاتلة
عارف حمزة
يخرج الكاتب السوري محمد دالاتي في روايته الأولى “إيبولا” عن طريقة الكتابة العامة لدى الروائيين السوريين الجدد إن جاز التعبير. فهذه الرواية لم تكتب بتلك البساطة والخفة السردية وخفة الأحداث والمصائر والحكايات. ولا تذهب لليومي والعادي ولا إلى الهواجس الجسدية والحسية. ولا تبدو، لذلك، بأنها ابنة زمنها الآن.. بل تذهب إلى الأفكار الكبرى في الفلسفة والسلطة والحروب والدمار والأوربة والأمركة… وفي طريقها للتحدث عن هذه المصطلحات والمآسي تفضح الفساد وحوادث القتل والاغتصاب، بمختلف مرتكبيها، والاعتقال والفقر. تتحدث عن الجنون الذي تصنعه السجون. عن قسوة لقمة العيش… ولكن بطريقة كتابة أقرب إلى المونولوج الطويل والملحمي الذي تخلى عنها حتى المكرسون في كتابة الرواية السورية. كأن هذه الرواية هي الرواية الأولى والأخيرة لكثرة ما فيها من أحداث وشخصيات. أو كأنها رواية أثقلت، بكل تلك المصطلحات والأزمنة والأمكنة والبشر والأحلام. صدر دالاتي لزمن ٍ ثقيل أراد التخلص منها بطريقة أقرب إلى الشعر الملحمي منه إلى الرواية الجديدة التي تكتب الآن.
مبرر الكتابة بهذا الشكل ربما يأتي كإحدى الطرق الخفية في الهروب من رقابة السلطات، أي سلطة كانت، التي يعج بها أي مجتمع عربي. فالرواية تأتي كتصفية حساب طويل وباهظ للذات الفردية في خصامها النفسي مع المجموع، السلطوي والشعبي، الذي لا يلتفت لمعاني وتفصيلات الحب والخير والسلام. بهذا المعنى تسرد الرواية ليس ماضي الشخصيات أو صفاتها وعذابها الفردي، في توافر الآلام وخرافيتها وصعوبة تحقيق الآمال مهما كانت عادية، بل تشرح المكان وتفككه وتزيل عنه آثار الدماء والنسيان كي يعثر على شخصياته وحكاياتها المدفونة. كمكان ٍ تناوبت عليه أسلحة الشر والحروب وانتهاكات الحقوق والشرف والبراءة.
من جديد تكون مدينة حلب مسرحاً لرواية سورية جديدة. فسابقاً جاءت كمكان وفضاء عام لأحداث روايات، تفاوتت في أهميتها ومعالجتها، كتبها كتاب مثل وليد إخلاصي وفيصل خرتش ونيروز مالك وعمر قدور وخالد خليفة.. وآخرون. لكنها هنا تبدو مسحوقة منذ البداية وتتم إعادة بنائها بقص وتفتيت قصص العويل والقتل والرعب والفقر بالاعتماد على أوراق الصوفية والتراث وتدوين قصص ومعاناة الغرباء في هروبهم ولجوئهم إلى “حي السيوف” بعد حرب الخليج. الرواية تتجول في البيوت والشوارع والحوانيت لتصل إلى القلعة والمقاهي والجوامع والسجون.. لتحكي حكايات المعذبين فيها. وتتجول في الزمن كذلك. فالزمن فيها يمتد منذ إنشاء قلعة حلب ولحد الآن. لذلك تبدو الحكايات كأنها تبني المكان وتقوله وليس العكس. المدينة ليست فضاء هنا لحركة الشخصيات والأحداث، وليست مكانا ً افتراضيا ً لتأليف الشخصيات والحكايات. بل هي شخصية أساسية وحقيقية يتم تفكيكها وبناؤها وتفكيكها.. إلى ما لا نهاية.
شخصيات الرواية، لشدة ضعفها وقلة حيلتها تجاه المصائر العنيفة التي تذهب إليها راضية، تليق بهذا المكان المسحوق تحت رائحة الدم ورائحة المصير الغريب والدموي. لذلك يبقى الشغل الشاغل، في كتابة الرواية، هو تشييد هذا المكان كي يبدو مثل مقبرة كبيرة وقديمة، وكي تبدو الشخصيات مثل أموات يقوم دالاتي بإنعاشها طوال وقت كتابة الرواية، وطوال وقت قراءتها.
ليس إيبولا (أو شادي العربي) هو وحده حامل الرواية التي تحاول السلطة الوصول إليه وإليها من أجل إتلافها. وبالتالي محوها من ذاكرة المكان والشخصيات سواء المحلية المقيمة أو الطارئة. بل يكتبها ويحملها كل شخص عاش أحداث المدينة الحقيقية والمتخيلة. أولئك الأشخاص الذين يكتب كل واحد منها ظل الرواية… لذلك يبدو دالاتي كإحدى الشخصيات التي استطاعت أن تنجو من الخراب ليقوم بنشرها ضد النسيان وضد مَن كان سبباً في ذلك الخراب.
ليس هذا فحسب. الأرواح أيضاً تتلو حكاياتها. الأرواح التي تسكن البيوت وتغلق على نفسها الباب خوفاً مما يحدث في الخارج. الأرواح التي تزور الأحياء كي تربت على أكتاف ساكنيها وتعدهم بالأمل الغامض. ولكن طوال الوقت تذهب كي تطمئن عليهم وتشحذ همتهم بالمغادرة إلى العالم الآخر”. ما زالت السماء كما هي مليئة بالنجوم التي تمنحنا الرحمة، وما زال ثمة متسع من الوقت كي (..) نعيد المعنى للحروف التي فقدت معناها في أرواحنا المتعبة”.
[ الكتاب : إيبولا ـ رواية
[الكاتب : محمد دالاتي
[الناشر : دار الينابيع ـ دمشق 2009