صفحات مختارة

الدولة أولاً، الديموقراطية ثانياً

ماجد كيالي
حول دراسة سمير المقدسي: تنمية من دون الديموقراطية
في مقاله “التنمية من دون الديموقراطية…ا(•)” قدم سمير المقدسي نصا أكاديميا متماسكا ومتميزا، حاول فيه شرح الأسباب الرئيسة التي تكمن وراء عجز الدمقرطة في العالم العربي، واستمرار الأنظمة غير الديموقراطية فيه.
مع ذلك فإن هذا النص، على أهمية الأفكار والاستخلاصات الواردة فيه، لم يستطع ملامسة الواقع المتعيّن (موضوع الدراسة) في مقارباته النظرية، في مسألة جوهرية وتأسيسية تتعلق بماهية الدولة في الواقع العربي الراهن؛ وهو أمر شائع في معظم الدراسات التي تصدت للمسائل المتعلقة بالإصلاح السياسي وترشيد نظام الحكم والدمقرطة في البلدان العربية.
المشكلة هنا أن من شأن عدم التمييز، بين الدولة والسلطة، أن يطمس السبب الرئيس وراء العجز عن التحول الديموقراطي، ألا وهو غياب الدولة (بمعناها ومبناها) في العالم العربي؛ في حين يتم إحالة الأمر إلى أسباب أخرى (اجتماعية وثقافية واقتصادية وخارجية).
معلوم أن الواقع العربي يعاني هيمنة السلطة على الدولة، وهي سلطة تعمل فوق الدولة (“الدولة ضد الأمة” بحسب برهان غليون)، أي فوق القانون والدستور والمجتمع (كما فوق الحكومة المعينة). وهي سلطة تعتبر نفسها مصدر الشرعية، والوصية على موارد البلد؛ البشرية والمادية!
ومما يؤسف له حقا أن معظم الكتابات السائدة، لم تبحث في واقع الدولة/السلطة العربية الراهنة (أو “الدولة التسلطية العربية” بحسب خلدون حسن النقيب)، ماهيتها، ومكانتها القانونية، ومصادر شرعيتها، وكيفية تجديدها لذاتها، وعلاقتها بمجتمعها، ومدى التمييز بين السلطات فيها، وكيفية تحكمها بالشأن العام وبالموارد العامة.
وكانت الدولة في البلدان العربية نشأت، في الغالب، إما على حامل المؤسسة العسكرية (الجيش)، وإما على حوامل قبلية /عشائرية، ما أدى إلى تكريس الحالة التسلطية في الدولة العربية، بحكم تآكل الدولة المفترضة (بما هي دولة مؤسسات وقانون) لمصلحة السلطة، وإلى تهميش المجتمع، وعرقلة تحديثه وتمدينه، كما أدت إلى التحكم بمصادر الثروة والقوة والتشريع. لذلك فنحن في الواقع العربي إزاء حالة سلطوية فريدة في نوعها، حيث ثمة “عائلات” (في الجمهوريات كما الملكيات)، تمسك بزمام السلطة، وتفتح في المجال، في بعض الأحيان، أمام حالة من الحراك السياسي المضبوط، الذي لا يمس بمكانتها، ولا يضعف من سلطتها. وهذه حال معظم البرلمانات العربية (حيث ثمة برلمانات)، والتي من المسموح لها مناقشة أداء الحكومة في بعض المجالات الخدمية والبلدية، فقط، ولكن من غير المسموح لها أن تناقش وضعية السلطة، أو تحديد السياسات. وهذا ينطبق على الحكومات التي تنحصر مهماتها في هذين المجالين، أما ما يتعلق بمصير البلد، وإدارة موارده، وعلاقاته الخارجية فهذا شأن السلطة وحدها.
وبديهي أن وضعا كهذا يخرج عملية المشاركة السياسية، كما مجمل العمليات الديموقراطية من مجالها. ففي هذا الوضع ليس ثمة مجال البتة لتداول السلطة، ولا لمشاركة سياسية، ولو بالحد الأدنى، في تقرير شؤون البلاد والعباد، وحتى ليس ثمة مجال لمساواة أمام القانون، أو أمام الشخصية الاعتبارية للدولة، في كل مجالات الحياة الاجتماعية (في السياسة كما الاقتصاد).
فوق كل ذلك، أو استتباعا له، فإن الباحث (وبالاستناد إلى دراسة بحثية) يصل إلى خلاصة مفادها أن “السيطرة الكبيرة للنفط في اقتصادات المنطقة العربية ومجتمعاتها، واستمرار النزاعات الإقليمية (وفي شكل خاص النزاع العربي/ الإسرائيلي) هما على ما يبدو العاملان الأساسيان اللذان يفسّران العجز الديموقراطي المستمر في المنطقة”.
وإذا كان العامل الأول مفهوما في الدول النفطية (حيث المقايضة بين الرفاه الاقتصادي والحقوق أو المشاركة السياسية)، فإن هذا التفسير الاقتصادَوي لايكفي لشرح الأمر. ومن الواضح هنا أن المشكلة تكمن في الجانب السياسي، أي أن تعثر عملية الديموقراطية في تلك الدول تنبع، أيضا، من تعثر إقامة الدولة، بمعناها الحقيقي، أي دولة الدستور والقانون والمؤسسات وفصل السلطات، والتي تعتبر نفسها دولة المواطنين. ولاحظ أننا هنا لانتحدث عن الديموقراطية وتداول السلطة والتمثيل والانتخابات، فهذه كلها عمليات تنشأ في دول، أو تأتي لاحقة على قيام الدول.
ومن دون التقليل من أهمية عاملي الدولة الريعية، والصراعات الأهلية والخارجية، فإن المشكلة الأساسية كما تقدمنا تكمن في الدولة، وهي تكمن هنا في تخلي الدولة عن دورها في تعزيز آليات الاندماج الاجتماعي، وفي بلورة الانتماء الوطني/المتمحور من حول الدولة، على حساب العصبيات والانتماءات القبلية (العشائرية والطائفية والمذهبية والإثنية). على العكس من ذلك ففيما همشت السلطات القائمة هذا الدور في بعض البلدان، سعت في بلدان أخرى إلى تكريس هذه العصبيات والانتماءات القبلية، باعتبارها وسيلة لتعزيز تحكمها في العمليات الاقتصادية والتطورات الاجتماعية؛ باعتبار ذلك بمثابة الوضع المثالي الذي يتيح لها تسييد نفسها، باعتبارها الحَكَم بين هذه الفئات والعصبيات، ومصدر توزيع التوازن والاستقرار في ما بينها.
إضافة إلى ذلك فقد استطاعت السلطات المعنية فرض سيطرتها الشمولية في المجتمع، ليس بالقمع وحده (العصا)، وإنما عبر خلق نوع من التواطؤ المضمر بين الاستبداد والفساد. كذلك يكمن هذا التواطؤ في إعاقة الديموقراطية من فوق ومن تحت، بين الحكام من جهة والمحكومين أو “الرعية” من جهة أخرى؛ حيث الذين فوق يسيطرون بسلطاتهم، والذين تحت يسيطرون بثقافاتهم وعاداتهم(بحسب “هرطقات” جورج طرابيشي)، أو وفق مفهوم الكواكبي لطبائع الاستبداد.
ويتضح قصور تفسير عجز الدمقرطة (بالعامل النفطي والصراعات الخارجية والأهلية)، أيضا، في تعميمه، حيث ثمة دول لاتتأثر بعامل النفط، ولاتعاني البتة لا من مشكلات أهلية ولا من عواقب الصراع العربي ـ الإسرائيلي (مثلا، خذ المغرب وتونس وعمان وليبيا، وخذ العديد من الدول التي ظهرت فيها أخيرا فقط مشكلات داخلية مثل الجزائر واليمن)، ومع ذلك فإن هذه البلدان لم تقطع شوطا مناسبا في عملية الدمقرطة، لماذا؟ للأسباب التي ذكرناها. أي لأن ثمة تمييزاً بين الدولة والسلطة، ولأن مجال السلطة أعلى من مجال الدولة، والدولة هي مجرد حكومة، يمكن تغييرها ونقدها ومحاسبتها، أما السلطة فهي خارج المساءلة. ويستنتج من ذلك أن التركيز في مسألة الدمقرطة يجب أن يكون أولا، وقبل كل شيء، على إعادة الاعتبار للدولة، أو تأسيس الدولة الحديثة في واقعنا العربي، دولة المؤسسات والقانون والدستور، باعتبار ذلك مقدمة ليس للديموقراطية فقط، وإنما لأية تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية في الواقع العربي؛ وفي مقدمها انجاز التحول من الانتماءات القديمة إلى الانتماءات الحديثة (الوطنية) المتمحورة من حول الدولة/الأمة. وقد أكدت التجارب التاريخية عموما، بأن الدولة هي الأساس، أما شكل النظام السياسي فهو ما تحدده المدخلات والتوازنات والحراكات والتطورات الثقافية والاجتماعية والسياسية في بلد معين؛ مع التأكيد على أن الديموقراطية التمثيلية تضفي قوة استقرار وفاعلية على الدولة المعنية.
هكذا، فنحن هنا لا نتحدث عن الديموقراطية، ولا حتى عن شكل النظام السياسي (جمهوري أم ملكي ديموقراطي أم فردي) وإنما نتحدث عن أهمية قيام الدولة أولا، فالدولة سابقة على الديمقراطية، وهي المعبر نحو الحداثة والتحديث، نحو العقل والعقلانية، نو السياسة والمشاركة السياسية. وبكلمة فمن دون الدولة، ومن دون مواطنة، من الصعب توقع إرساء ديموقراطية في الواقع العربي.

• سمير مقدسي – “التنمية من دون الديموقراطية: اسباب العجز في العالم العربي” – “قضايا النهار” 8/12/2009.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى