صفحات مختارة

ما تبقى من الطبقة الوسطى

خيري منصور
منذ فترة ونحن نقرأ نعي الطبقة الوسطى في المجتمعات العربية . وكان أحد المفكرين العرب قد أصدر كتاباً رثائياً بعنوان “وداعاً للطبقة الوسطى”، فأين ذهبت هذه الطبقة؟ وهل اختفت في مثلث برمودا ولم تترك أي نبأ في صندوقها الأسود؟ ومن يتحدثون عن انقراض هذه الطبقة يربطون بين منظومة من القيم وأنماط الإنتاج والحراك السياسي وبين كوادر هذه الطبقة التي ازدهرت في أعقاب الاستقلال، وكانت الحاضنة الدافئة لأحزاب وتيارات سياسية، إضافة إلى الثقافة التي عبّرت عن شجون هذه الطبقة بامتياز .
نذكر أن بعض المثقفين الراديكاليين في الغرب ومنهم دوبريه كانوا يقولون إن الطبقة الوسطى تصيبهم بالغثيان، لأنها كالبندول الذي يتأرجح دائماً بين الخوف من الهبوط إلى الطبقة الدنيا والتطلع للصعود إلى الطبقة العليا، وكم كنا نتمنى لو أن من يكتبون المراثي في وداع هذه الطبقة يقولون لنا لماذا أصابهم التحلل وبالتالي الغروب؟ إنها بالطبع لم تتبخر ولم تتحول إلى هباء، فهي تتسرب دائماً إلى الأعلى أو الأدنى، لكن زئبقيتها هي التي تحول دون الإمساك بها أو تحديد مساحتها الديمغرافية . والأرجح أن التغيرات الجذرية التي شملت أنماط الإنتاج في الوطن العربي كانت السبب المباشر في خلخلة نسيج المجتمع برمته وليس طبقته الوسطى فقط . وما يقال عن المتسللين بين الطبقات هو على النقيض من عابري هذه الطبقات، لأن المعنى الأول يتعلق بالثراء السريع أو الفقر المتسارع، بينما يتعلق المعنى الثاني بمثقفين استطاع نتاجهم أن يعبر الطبقات، بحيث يقرأهم رجل الأعمال الموسر والعامل أو الموظف أو الطالب المعسر . والحقيقة ليست هناك معايير حاسمة وصارمة يمكن الركون إليها ونحن نتحدث عن ظواهر من هذا الطراز، لأنها معقدة وذات كيمياء بالغة الصعوبة، حيث يتم التداخل بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي على نحو أخطبوطي . أما تفسير حالة الخمول التي يعيشها المجتمع العربي في هذه الآونة في ضوء اضمحلال الطبقة الوسطى فهو يختزل مسألة لا تقبل مثل هذا الاختزال والتبسيط، لأن البنية الباترياركية لهذا المجتمع حالت دون إعلان الفطام بمختلف أشكاله عن مرجعيات أوشك العرف فيها أن يتقدم على القانون .
يقال على سبيل المثال إن الطبقة الوسطى العربية هي التي أفرزت ثورات وتحولات ثقافية وأنشطة فنية خلال عقود عدة . . وينسى من يقولون ذلك أنهم يذهبون في التعميم إلى أقصاه بحيث يصبح تجريداً أشبه باللوغريتمات، فالطبقة الوسطى قدر انتسابها إلى عالمنا العربي ليست متجانسة، وهناك مجتمعات لم تفرزها بوضوح أو ترسم تضاريسها الاجتماعية بشكل دقيق، والأمر كله متعلق بأنماط الإنتاج المتباينة، وحيثيات التطور الذي راوح لخمسين سنة على الأقل بين البطء السلحفائي في بعض المجتمعات، وحرق المراحل في مجتمعات أخرى . ويبدو أن ثقافة الحرب الباردة وأدبياتها لاتزال تواصل نفوذها على عقلنا السياسي، تماماً كما استمر نفوذ مرحلة ما قبل الكهرباء على مرحلة ما بعدها، فالعادات الذهنية وأنماط التفكير لا تتبدل بسرعة، وأحياناً تستمر رغم زوال أسبابها ومبرراتها المنطقية . ومن أسوأ التطبيقات الميدانية لبعض المفاهيم، فرضها على الواقع حتى لو تطلّب ذلك ليّ الأعناق . لهذا يتطلب فحص ما تبقى من هذه الطبقة مقاربات أخرى غير النعي والرثاء، فهي ليست ديناصوراً أو كوكباً تلاشى واستمر الضوء القادم منه مسافراً نحو هذه الأرض .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى