صفحات مختارة

صور من خيانة المثقف

د.خالد الحروب
من “جوليان بندا” الفرنسي، إلى “أنطونيو غرامشي” الإيطالي، إلى “إدوارد سعيد” الفلسطيني، وبينهم وحولهم قائمة تطول من الكتاب والمفكرين، والنقاش محتدم حول دور المثقف في مجتمعه. يختلفون في أشياء كثيرة، لكنهم يتفقون في أن المهمة الأساسية للمثقف تكمن في “النقد”. المثقف الحقيقي هو المثقف الناقد، وأولاً الناقد لذاته ولجماعته الأولية. ونقد العدو هو أسهل أنواع النقد وأرخصه. أما نقد الذات، الفردية والجماعية، فهو المهمة والتحدي. والتخلي عن هذه المهمة هو، تبعاً لوصف “بندا” وتوكيد سعيد: “خيانة المثقف” -حيث يخون المثقف دوره النقدي الأساسي.
وكلما تجتاح أمورنا السياسية أو الثقافية عاصفة شعبوية تتطلب من المثقفين وأصحاب الرأي والكتاب والمفكرين والإعلاميين وقفة عقلانية رصينة وشجاعة ضد التيار نرى كثيراً منهم يقومون بعكس ما هو متوقع منهم. فيستسهل هؤلاء ركوب موجات الهيجان الشعبي وتصدرها بل وتسعير نارها، على حساب المنطق والموضوعية وتعميق الوعي. وبعضهم يحول مؤسسات كاملة إلى آليات تدغدغ عواطف الناس وتزيد من إغراقهم في الجهل والتمنيات. وأحد الزملاء تسلم إحدى كبريات المؤسسات الإعلامية في العالم العربي تحت شعار “تنوير لا تثوير” فكان أن حولها وما كان فيها من تثوير إلى تهييج شعبوي ناهيك عن الانتقال بها إلى التنوير الفعلي. وفي الأسابيع الماضية تلاحق سقوط مثقفين كثر وفنانين ومبدعين في بركة الشعبوية الآسنة، خلال متابعة قضيتي التلاسن المصري الجزائري على خلفية مباريات كرة القدم، والتصويت السويسري على حظر المآذن.
في القضية الأولى رأينا إعلاميين كباراً وقرأنا لمثقفين مرموقين ما لم نصدقه من انحدار في مهاوي الشعبوية، والتحريض، والتعميم، والاتهام، وصولا إلى العنصرية. وعوض أن يكون موقف هؤلاء جميعاً هو استسخاف الانجراف الشعبي العام وإدانة افتعال عداوات تنبش من حقب ما قبل التاريخ المدون، استمرأ كثيرون لوثة الجنون العام وامتطوها. وحوادث الشغب والاعتداءات بعد مباريات كرة القدم الحساسة صارت من الأمور المعتادة في العالم. وهي يجب ألا تخرج عن سياقاتها المحددة: اعتداءات جنائية من اختصاص الشرطة المعنية في البلد الذي تُقام فيه المباراة. ولا يجوز لأي سياسي، أو مثقف، أو إعلامي باحث عن شهرة على حساب تسعير العداوات، أن يخرج بتلك الاعتداءات عن إطارها الجنائي. إذ كيف يقبل مثقف، تعميمات وإطلاقات على كل الشعب المصري أو على كل الشعب الجزائري انطلاقاً من مباراة كرة قدم، ومواقف جماعات الغوغاء من المشجعين الذين لا يتقنون سوى الصراخ والشتائم؟ كيف يقبل ربع فنان أو ربع روائي، أن ينحط إلى استخدام تعبيرات عنصرية تصف شعباً بأكمله بالتخلف وعدم الأهلية؟ الفنان والمُبدع والمثقف الحقيقي هو راعي القيم الإنسانية السامية، والمُدافع (افتراضاً) عن الجوهر المُتعالي عند البشر، الرافض للتقسيمات الإثنية، أو الدينية، أو العنصرية، والمُنحاز للعدل والمنطق والموضوعية من دون اعتبارات مُسبقة. والمثقف الحقيقي هو الضد الموضوعي لـ”مثقف عشيرة غزيّة” -ما أنا إلا من غزيّة إن غوتْ غويتُ.
والقضية الثانية كانت في تناول كثير من المثقفين والكتاب العرب لمسألة حظر المآذن التي صوت عليها الشعب السويسري. ومرة أخرى كانت الهبَّة الأكبر هي في مناصرة “غزيّة” من دون التمحيص في جوانب المسألة قبل الخروج بالتعميمات والإطلاقات والتهويلات الجامعة. وقراءة بعض ما كُتب تحيل إلى الاستنتاج بأن المسلمين في سويسرا أصبحوا على المقاصل الموت. وبشعبوية بالغة ولاقتناص التصفيق وركوب موجة الغضب تغافل كثير من أولئك عن أن بناء المساجد وحرية العبادة فيها وحرية لباس الزي الإسلامي مصونة في سويسرا وفي أوروبا عموماً أكثر بكثير من بعض البلدان الإسلامية. ومع ذلك فإن التصويت على حظر المآذن كان خطأ مرفوضاً وينم عن تصاعد عنصرية وخوف كامنين إزاء الإسلام والمسلمين. وقد وقفت الحكومة السويسرية وكثير من الأحزاب ضده، كما تقف المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ضده أيضاً. وما كان مطلوباً من المثقفين والكتاب الذين ركبوا موجة الغضب الشعبوي وسعَّروها هو معالجة الموضوع بالمنطق والموضوعية والحجم الذي يستحق، وليس بالتعميم والتهويل. ومسلمو أوروبا يتحملون الجزء الأكبر من المسؤولية فيما آلت إليه أمور النظرة إليهم والخوف منهم من قبل المجتمعات الأوروبية العريضة. فالجاليات المسلمة تعيش في معازل سكنية وثقافية، وغير منخرطة في مجتمعاتها، وتترك للرأي العام أن يتشكل وفق ما يصوغه الإعلام الشعبوي الأصفر الباحث عن الإثارة. هذا كله من دون التذكير بالحالة الرثة والعنصرية السائدة في بعض بلداننا إزاء حرية أتباع الديانات الأخرى في بناء معابدهم.
إن المثقف الحقيقي هو الذي يواجه مجتمعه بالحقيقة، ولا يبحث عن التصفيق الشعبوي. قول الحقيقة تمرين صعب، وبلعها أمر مرير، ولكن التغاضي عنها، ودفنها تحت السطح خيانة مزدوجة: خيانة للدور وخيانة للحقيقة نفسها. وعندما كان إعلامي خلال الحقبة الناصرية يبيع الوهم للمستمعين ويبشرهم بأن الطائرات المصرية تقصف تل أبيب فيما كان الجيش الإسرائيلي يحتل كامل سيناء في حرب 1967، كان يقوم بتلك الخيانة المزدوجة. كان يهيج الناس ويكذب عليهم. وكانت النتيجة هي تكوين أساس عريض من الثقافة الشعبوية مبني على الكذب والوهم والتهويل والتعميم، وتلك كلها معادية للعقلانية والعقل والتنوير. وفي الساحة العربية الآن هناك نوعان من المثقفين: المثقف الشعبوي، وبائع الوهم، والمثقف العقلاني، التنويري وقائل الحقيقة حتى لو كانت ضد قومه وجماعته، حتى لو كانت مريرة.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى