إشكاليات المنظمات غير الحكومية في العالم العربي
عبدالله تركماني()
شغل مفهوم المجتمع المدني حيزاً واسعاً من الخطاب العربي في العقدين الأخيرين، ولا يزال يشكل إحدى أهم المسائل التي تستحوذ على الاهتمامات الأساسية لهذا الخطاب، بحيث يمكن اعتباره جزءاً أساسياً من بنيته، جنباً إلى جنب مع مسائل الديموقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان والموقف من الآخر الغربي.
لكنّ اللافت هو التباس مفهوم المجتمع المدني وتناقضه واختلاطه في الفكر العربي الراهن إلى درجة يضيع معها جوهره ومضمونه والأسس التي يقوم عليها، مع تغييب المرجعية التي تسنده ويستمد منها وجوده ومكوّناته وقيمه. ويرجع أصل هذا الاختلاط والالتباس إلى أنه لم يتم التعامل مع مفهوم المجتمع المدني بوصفه مفهوماً حديثاً نشأ وتكوّن مع ثورة الحداثة العلمية والتقنية والإنتاجية في الغرب، مترافقة مع تحوّل غير مسبوق في السياسة والثقافة والفكر والاجتماع، ما أسس لنشوء مفهوم الفرد والحرية الفردية والعلاقات المدنية المختلفة، بما يشكل اختلافاً جذرياً عن تلك القائمة في مجتمع القبيلة والعشيرة والطائفة، أو ما يمكن تسميته بـ”المجتمع الأهلي” الذي تحدده الروابط الدموية القرابية أو المعتقدية الإيمانية.
وفي ضوء الاختلاف والتمييز بين المجتمعين “المدني” و”الأهلي” يمكن تفسير المعوّقات التي يواجهها المجتمع المدني في العالم العربي: أولها، التركيب القبلي العشائري الطائفي للمجتمعات العربية، حيث الملاحظ هشاشة الأحزاب والنقابات والجمعيات، وكونها في الغالب واجهات لعصبويات ما قبل مدنية وما قبل حديثة، على رغم تسمياتها المدنية والعصرية. وثانيها، اكتساح الدولة التسلطية مؤسسات المجتمع باحتكارها مصادر القوة والسلطة والثروة، وبإحلالها السياسة محل الثقافة والاقتصاد والممارسة الاجتماعية.
ولعل من أهم الإشكاليات الفكرية:
ـ الدور الذي يمكن أن تقوم به مؤسسات المجتمع المدني، فإذا كان هدف الأحزاب السياسية الوصول إلى السلطة، فإنّ مؤسسات المجتمع المدني لها آليات وأساليب أخرى، وإن اشتركت أحياناً في بعض الأهداف.
ـ ضعف الثقافة الديموقراطية، وكذلك النقص الشديد في الوعي الحقوقي.
ـ معاناة مؤسسات المجتمع المدني العربي من غياب المبادرة أو ضعفها على المستوى الفكري والعملي، وعدم التوجه إلى دراسة الظواهر الجديدة.
ـ مبدأ التدخل لأغراض إنسانية، فهناك من يرفض مبدأ التدخل بشكل مطلق وهناك من يدعو إلى تأييده بشكل مطلق، ولكل حججه ومنطلقاته وأهدافه. حيث أصبح مبدأ التدخل الإنساني، بما لا ينطوي على تأييد الوسائل العسكرية والحروب الاستعمارية، مبدأً آمراً وملزماً في القانون الدولي، وهذا يعتبر تطوراً في فقه “الديبلوماسية الوقائية” التي تبلورت منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي.
ـ انشغال مؤسسات المجتمع المدني، وخصوصاً منظمات حقوق الإنسان، بالحقوق المدنية والسياسية على حساب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلى درجة أنّ الأخيرة غالباً ما تهمل أو تُنسى.
ـ توجه مؤسسات المجتمع المدني إلى الاحتجاجات والنقد والأهداف المطلبية، وإن كانت هذه مسألة مهمة من خلال الرقابة والرصد والتعبئة، إلا أنها لا يمكن أن تساهم في وضع تصورات حول التشريعات الوطنية، سواء بمواءمتها مع الاتفاقات والمعاهدات الدولية وتطور الفقه الدولي على هذا الصعيد، أو تعديلها أو اقتراح قوانين وتشريعات جديدة بديلة منها.
ـ الارتياب من العلاقة مع الآخر، ولعل بعض الأطروحات الانغلاقية لا تدرك أنّ العالم كله أصبح قرية عالمية صغيرة، وأنّ هناك قيماً إنسانية مشتركة لبني البشر بغض النظر عن دينهم أو عرقهم أو لغتهم أو منشئهم الاجتماعي أو جنسهم.
هذه الإرباكات والمعوّقات هي التي وقفت ولا تزال تقف عائقاً أمام نهوض المجتمع المدني في العالم العربي، حيث يواجه الجميع مأزقاً حقيقياً. وما لم يجرِ تحوّل أساسي، سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وفق تصور شامل في بنية المجتمعات العربية، وعلى أساس ديموقراطي يفسح في المجال أمام القوى الحية للعمل من دون قيود وضواغط وإكراهات، فإنّ مجتمعاتنا ستبقى ملغّمة بكل عوامل التفجر من الداخل، وسننتظر كثيراً قبل قيام مجتمع مدني حقيقي على الأرض العربية.
() كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
المستقبل