الكتابة السياسية والمستقبل
محمد سيّد رصاص
هناك معايير للحكم على النص، إذا كان فكريا ًـ نظرياً أو كان في مجال الفكر السياسي، تصل إلى خمسة، هي التالية: 1ـ منهج التحليل المستخدم في معالجة الوقائع، التي تتحول عبر تدرج تطوري محدَد لتصل إلى مرتبة الحقائق النظرية أو السياسية، 2ـ المعلومات المستخدمة، 3ـ الأفكار المتولدِة عبر استخدام المنهج التحليلي للمعلومات من أجل محاولة القبض المعرفي على الوقائع، والتي هي إما أن تكون أفكاراً جديدة، أو شرحاً جديداً لأفكار قديمة، 4ـ قدرة الأفكار المتولِدة في القبض المعرفي على الوقائع الماضية، أوالوقائع الراهنة ـ القائمة، 5 ـ القدرة، من خلال تحقيق ماسبق، على التنبؤ بالوقائع القادمة.
إذا ابتعدنا عن الفكر النظري، الذي هو أساساً فلسفي، لنحصر الموضوع، هنا، في مجال الفكر السياسي، فمن الممكن تقديم مثالين كبيرين للقدرة على التنبؤ بالمستقبل الخاص بتجربة”هزَت العالم”، ولكن من موقعين مختلفين سياسياً بين اليسار واليمين: في عام 1904 كتب ليون تروتسكي الفقرة التالية، في كتابه “مهامنا السياسية” متوقعاً ومتنبئاً بظهور ديكتاتورية ستالين بعد ثلاثة عقود من ذلك التاريخ من خلال نقده لنظرية التنظيم الحزبي التي قدمها لينين في كتابه “ما العمل؟” (1902): “في الحياة الداخلية للحزب ستقود تلك الأساليب إلى أن يُستبدَل الحزب بمنظمة الحزب، ثم تأتي اللجنة المركزية لكي تستبدل منظمة الحزب بنفسها، وفي النهاية يأتي ديكتاتور لكي يَحل نفسه في مكان سلطة اللجنة المركزية……… بينما الناس صامتون”.
بالمقابل، وبعد سنتين من ثورة 1917 البلشفية الروسية، ظهر كتاب بالألمانية بالنمسا، إثر رفضه من كل دور النشر الألمانية الكبرى، لكاتب لم يسمع أحد بإسمه ولايحمل شهادات أكاديمية وكان يعيش في حي فقير بمدينة ميونيخ، تحت عنوان”تدهور الغرب”: يقول أُسوالد اشبنغلر في الكتاب المذكور، مطلقاً نبوءة في عام1919تحققت في1991: “سيلحق الجديد، أي البلشفية، به بإنتفاضة واحدة أخرى، وذلك لأن مايحُنُ إليه هذا الشعب، الذي لامدن له، إنما هو شكل حياته، ودينه وتاريخه الخاصين”.
لم تأت نبوءتا تروتسكي واشبنغلر من فراغ، بل أتتا عبر رؤية فكرية ـ نظرية ولدَت عند كل منهما منهجاً خاصاً في التحليل والنظر إلى الوقائع الماضية، مع اتجاه عندهما إلى اسقاط الماضي على الحاضر لإستنباط أو استنتاج اتجاهات المستقبل:عند تروتسكي، الذي كان مهجوساً بإسقاط دروس الثورة الفرنسية على روسيا، كان هناك لديه رؤية ومنهج ماركسيان لتحليل علاقة الطبقة الإجتماعية مع حزبها الخاص، ولدَتا عند تروتسكي مفهوم (الإستبدالية) الذي رأى أن المفهوم اللينيني للتنظيم الحزبي سيقود، بالتضاد مع الماركسية، إلى الوقوع فيه، مُستبدلاً الطبقة بالحزب، ثم الأخير بالجسم التنظيمي، وهذا بالقيادة، وبالنهاية الأخيرة بالقائد الفرد، مسترشداً بتجربة حركة اليعاقبة، بقيادة روبسبيير، في علاقتهم مع الطبقة أوالفئة الإجتماعية التي كانوا يمثلوها بمرحلة الثورة الفرنسية حتى اختفائهم من المسرح السياسي بالنصف الثاني من عام1794.هنا، استطاع تروتسكي من خلال مفهوم (الإستبدالية)، المستند لرؤية ومنهج تحليلي، أن يكون متنبئاً متيناً بالوقائع القادمة.
إذا أتينا إلى اشبنغلر، فقد كانت لديه، بالكتاب المذكور، ريادة في تكوين فكرة (الدوائر الحضارية)، قبل عقود زمنية طويلة من ظهور أطروحات فرنان بروديل وصموئيل هنتنغتون، والتي يرى اشبنغلر أنها تكون مُتكوَنة ومتبلورة عبر عملية تاريخية محددة، وأن التاريخ هو عملية تجابه وتفاعل بين هذه الدوائر، إلاأن أيٍ منها لايستطيع الغاء أواختراق بنية تلك الدائرة عبر التجابه أوالتفاعل، وإنما على الأكثر يستطيع (الآخر) ـ بعد انتصار عسكري أوتفوق حضاري يشكل جاذبية عند “المتخلف” ـ عبر “تشٌكل كاذب” أن يكوِن قشرة سطحية ثقافية ـ سياسية عند المغلوب أو”المتخلف” إلى أن تأتي بالنهاية “البنية العميقة” للدائرة الحضارية لكي تزيل تلك القشرة التي يمثلها “التشكل الكاذب”، حيث رأى اشبنغلر أن البلشفية كانت ذروة لـ”تشكل كاذب” بدأ مع حركة التغريب التي دشنَها بطرس الأكبر في الربع الأول من القرن الثامن عشر، معتبراً أن الصراع الرئيسي الحاكم، ثقافياً وسياسياً في روسيا الحديثة، هو الصراع بين السلافية والتغريب، ومتوقعاً انتصار السلافية، الممزوجة بالأرثوذكسية، على البلشفية بالنهاية.
هنا، يمكن الإضافة على المثالين السابقين مثالاً ثالثاً يتعلق أيضاً بالتنبؤ بمستقبل التجربة السوفياتية: قدم نائب رئيس تحرير مجلة “الإيكونوميست”، نورمان ماكراي، في عدد يوم27 كانون الأول 1980 (صفحة 15)، النبوءة المدهشة الآن، ولكن المنبوذة الإحتمال من الكثيرين آنذاك، في النص التالي: “لوأن التطورات استمرت على زخمها الاجتماعي والاقتصادي الراهن، مما يجب أن يُرصد من قبل أي جهاز يملك ذكاء كافياً لكي يصاب بالفزع، فإن مجمل النظام السوفياتي المتعفن يمكن أن يواجه ثورة على طراز عام 1789 قبل سنة 1989” .
يمكن للعرض السابق أن يعطينا صورة كافية عن “كيف يمكن الكتابة عن المستقبل قبل وجوده بالفعل ورصده على أرض الواقع؟” و”كيف يمكن التنبؤ بالمستقبل بكفاءة؟”: طبعاً كل هذا مشروط بوجود فكر يتعامل مع الظاهرات بوصفها وقائع، وليس بإعتبارها مجردات فكرية أو “ممالك ذهنية”.
المستقبل