قومية رجعية!
ميشيل كيلو
اتخذت المحكمة الدستورية العليا في تركيا قراراً يحظر «حزب المجتمع الديموقراطي» الكردي، وبمنع سبعة وثلاثين من قياداته، بمن في ذلك أمينه العام، من ممارسة العمل السياسي خلال السنوات الخمس المقبلة. منذ إعلان القرار، وتركيا تشهد تظاهرات شعبية وصدامات مع الشرطة تشمل قسماً واسعاً من أراضيها، فيما علق الحزب عضوية 21 نائبا كرديا في البرلمان، وقال المراقبون إن سياسات الحكومة الانفراجية تجاه القضية الكردية قد تتعطل، وإن ما وقع جاء بدفع من أوساط قومية تريد إفشال المصالحة بين مكوني الشعب: التركي والكردي، وإبقاء البلاد رهينة الاحتجاز المزمن، الذي نجم عن إنكار حقوق الأكراد الديموقراطية والثقافية، وإلزامهم بهوية مغايرة لهويتهم القومية.
ومع أن بديل الحزب المنحل جاهز، وكذلك اسمه: «حزب السلام والديموقراطيـة»، فإن القـرار أثار عاصــفة من ردود الأفعال داخل تركيا وعلى المســتوى الدولي، وخاصة لدى القوى التي كانت تتابع مواقف الحكومة التركية الداخلية، وخاصة تجاه المشــكلة الكردية، التي صارت نوعاً من معــيار تقاس به ديموقراطية التوجــهات التركية الحديثة وصدقيتها. ويتفق متابعو الــشأن التركي، داخل تركيا وخارجها، على أن الضــرر الذي نجم عن قرار المحكمة كان فورياً وشديداً، وأظهر كم هي مسيطرة في السلطة ومؤسساتها وقسم واسع من الشــارع السياسي عقلية قومية آمنت بإمكانية تسوية مشكلات البلاد الداخلية بالقسر والإكراه، وفرضت خيارات قومية متطرفة على غير الأتراك، مع أن التطور أكد فشلها، غير أن أنصارها يعجزون عن رؤية قضايا بلدهم بغير منظارها الضيق، الذي فات زمانه.
يظهر رد فعل المتظاهرين الأكراد على هذه العقلية، الذي تجلى في رجم تمثال كمال أتاتورك بالحجارة، حجم الوعي بالخلفيات القومية التركية لقرار أجمع مراقبون كثر على اعتباره محاولة لإحباط عمل الحكومة الحالية من أجل إيجاد حل سلمي، تدريجي ومتوازن، للقضية الكردية، يخرجها من منظور قومي واحدي الطابع والاتجاه، تقادم وأخذ يؤدي عكس وظيفته الأصلية، بعدما تخلى عن ركيزته: حقوق الإنسان والمواطن، وعن العمل في سبيل تحقيق المساواة والندية بين الأمة الخاصة وغيرها من الأمم، وأصيب بتشوه أيديولوجي، ليبرالي، أو اشتراكي، أو عرقي، أو سلطوي، ونمّى طابعا أيديولوجيا كان كامنا فيه، سحبه نحو التزمت والعصب القومي، ودفعه إلى استبدال حقوق الإنسان والمواطن بسياسات ومفاهيم إقصائية / تمييزية، انتهت في التجارب العرقية الألمانية والفاشية الإيطالية إلى إقامة معسكرات اعتقال حشر فيها المخالف في العرق والهوية والانتماء الأيديولوجي، وفي التجربة الرأسمالية الغربية إلى الاستعمار وما قام عليه من تمييز حضاري سوّغ قتل مئات وإبادة ملايين البشر، معظمهم من غير الأوروبيين، وفي التجربة السوفياتية، التي كانت تجربة روسية قومية تغطت بأردية أممية، إلى تبرير إلحاق وإدماج شعوب أخرى بالدولة الروسية، بما فيها تلك التي كانت القيصرية قد ضمتها بالقوة إلى مجالها السيادي ووعد السوفيات بإعطائها حق الانفصال، وأخيرا في تجارب عالمنا السـلطوية، التي لم تقبل رابطاً غير السلطة يشد مكونات المجتمع بعضها إلى بعض، واعتبرت السـياسة فعالية يجب أن تقتصر على أجهزتها القمعية والأيديولوجـية، تقوم حصراً على الإقصاء والاستبعاد والعنف، وتجعل الشأن العام حكراً على جهة واحدة هي التي يمسكون بأعنتها.
في هذه الحالات جميعها، تم حقن الفكرة القومية بأيديولوجيات أبرزت ما شابها من طابع محافظ صار بمرور الوقت رجعيا، وحوّلها من فكرة تحررية إلى فكرة وممارسات عدوانية وعنيفة، ترى في الآخر والمختلف خطراً يجب تحييده أو القضاء عليه، ولا تتورع عن جعل العنف ممارسة دائمة، يزيد من وتيرة استخدامها له اكتسابها سمات خلاصية تحولها من سعي إلى تعيين الذات، في إطار الاعتراف بحقوق الإنسان والمواطن في الداخل، وإقامة المساواة بين الأمة الخاصة والأمم الأخرى في الخارج، إلى جهد يضع الجماعة القومية في مواجهة من ينتسبون إليها من مواطنين وأفراد، ويؤكد مكانتها ودورها عبر نفي الآخر، المختلف، الذي يحكم عليه بالإقصاء السياسي ـ القومية السلطوية والاشتراكية ـ وصولا إلى الهلاك الجسدي ـ القومية العرقية والسلطوية ـ.
يحدث هذا التطور عبر مدخلين يتصل أولهما بطبيعة الفكرة القومية، التي تتحول حكما إلى فكرة إقصائية، إذا لم يتوافر لها حامل ديموقراطي يقلص وينزع أكثر فأكثر طابعها الأناني، الذي يجعلــها متناقضة مع غيرها من الأمم، وينمي نزوعها إلى مساواة ذاتها مع غيرها، ويتصل ثانيهما بطبيعة الأيديولوجيا، التي تحمل أجوبة جزئية على حالات يطرحها واقع يتطور باطّراد بينما تبقى هي جامدة، تدافع عن مواقعها ودورها وجـدارتها بنفي الجديد أو التنكر له، وبربط نفـسها بصورة واحــدة من الواقع تنتمي إلى ماض لا يني يتباعد جاعلا الأيديولوجية غريبة ورجعية، حتى إن قام ذات يوم بدفع منها وجاء على صورتها ومثالها.
تتحول الفكرة القومية إلى فكرة رجعية، بقدر ما يبرز طابعها الإقصائي على حساب طابعها التحرري/ المساواتي، وتثبت على صورة أيديولوجية، تمعن في تقوية النزعة الإقصائية وإبرازها، بمقدار ما تتصاعد أزمتها وتبدو عاجزة عن التعاطي مع الواقع الذي يزداد تعقيداً وبعداً عنها. من يتأمل واقع الفكرة القومية، التي أملت قرار المحكمة التركية، فسيجد هذين العنصرين بارزين فيه: إنه يلغي مساواة الأكراد بالأتراك، وينكر صفة الأكراد القومية، ويتمسك بطابع القومية التركية الإقصائي، مع أنه فشل في إخراج تركيا من مشكلة مزمنة وأضعفها وأساء إلى سمعتها. وهو يتمسك بصورة أيديولوجية فات زمانها، أخفقت في إقناع الأتراك بنجاعة وسائلها في التصدي للمسألة الكردية، تخلى حزب العدالة والتنمية عنها وسعى إلى حلول للمسألة الكردية من خارج حاضنتها الأصلية، فكان القرار ردها عليه.
ينقل قرار المحكمة الصراع إلى داخل العقل القومي التركي، ويربط مستقبل تركيا بتحولاته. ويؤكد أنها تشهد اليوم حقبة من الصراع يصعب التنبؤ بنتائجها، خاصة إن تصرف الطرف الآخر: الكردي، بعصبية، ووضع الأتراك جميعهم في سلة واحدة، وأخذ بمفاهيم قومية متطرفة تخدم نزعة الإقصاء القومي التركية، وتتنكر لطابع نضاله الديموقراطي والمساواتي.
تستحق تركيا أن تدرس بأكثر الأشكال دقـة وموضـوعية، لـيس فقط لأنها تعيش تجربة مهمة يمكن التعلم منها، بل كذلك لأنها تواجه صعوبات تجعـلها تجربة غير مكتملة، قابلة للنـجاح والفـشل، هناك ما يماثلها في كل مكان من منطقتنا.
السفير