مصافحة الحريري للأسد واعتذار جنبلاط له
د. فؤاد شربجي
في لبنان يكثر الحديث حول زيارة سعد الحريري إلى دمشق وفي سورية يتابع الناس ما يثار حول هذه الزيارة، وكثيرون منهم يستغربون تعاطي سعد الحريري (نجل الشهيد رفيق الحريري) مع ما يحيط بهذه الزيارة من أمور تتعلق أساساً وأولاً بقضية اغتيال والده.
و كي يكون الأمر واضحاً فإننا نقول أن من أهم ما يحيط بزيارة سعد الحريري إلى دمشق أمران:
الأول- وهو ما سمي بموضوع الاستنابات القضائية السورية واستدعاء عدد من الشخصيات أمام المحكمة في سورية.
أما الأمر الثاني – فهو ما أعلنه النائب وليد جنبلاط (لصحيفة الديار مثلاً) حول نيته لتقديم اعتذار علني تلفزيوني للشعب السوري عامةً ولشخص الرئيس بشار الأسد خاصةً.
والأمران متعلقان (بالجوهر) بقضية اغتيال رفيق الحريري. أي أن الأمرين يمسان سعد’الحريري بأهم قضية تؤرقه، والسؤال الذي يتردد بين الناس في سورية، هو حول تعاطي الحريري مع هذين الأمرين المتعلقين بمقتل والده مباشرةً.
في موضوع الاستنابات، أو الدعوات القضائية التي قدمتها سورية للتحقيق مع شخصيات لبنانية ساهمت في صنع شهود الزور أمثال زهير الصديق وحسام حسام، وفي هذا الموضوع يرى السوريون أن الحريري تعامل بطريقة لا توحي أنه مهتم بمعرفة حقيقة من اغتال والده، لأن المنطق يقول أن كشف من صنّع شهود الزور كان يحرف التحقيق عن الوصول إلى الحقيقة.
وربما كان هؤلاء يدفعون بشهود الزور ليغطوا على الفاعل الأصلي، أو لاستثمار دماء الشهداء في مشروعهم السياسي على أقل تقدير،و في كل الحالات فإن طبيعة الأمور تقول بأن نجل الشهيد وصاحب الدم هو من يتوقع منه الاندفاع للتحقيق في قضية الشهود الزور ومن صنعهم،لأن دم والده هو الموضوع، ولأن حاضره ومستقبله (ولن نقول حاضر لبنان ومستقبل لبنان) متعلق بهذه الحقيقة.
ولكن ما جرى كان بعكس طبيعة الأمور، وبعكس المنطق الإنساني، وبدلا من أن يتلقف سعد الحريري دعوة جميل السيد منذ اللحظة الأولى ويطالب بالتحقيق في قضية الشهود الزور ومن يقف وراءهم، بدلاً من ذلك راح فريقه يعتبر أن الاستنابات السورية القضائية ما هي إلا لعبة سياسية لعرقلة الزيارة إلى دمشق، مع أن أي عاقل لو كان في مكان سعد الحريري لكان قائل”الله لا يرد السياسة كلها إذا كانت بدها تضيع دم والدي).
بعض أطراف حاشية سعد الحريري اعتبر أن القضية التي رفعها جميل السيد والتي نتج عنها الاستنابات، ما هي إلى عملية ضغط على سعد الحريري. والدعوى التي أقامها السيد إنما أقامها بايعاز من سورية، وبدل أن يرد الحريري على هذه التفسيرات، بأن (ليس مهماً من حرك الدعوى وليس مهماً من دفع لها، إذا كانت النتيجة في صالح كشف الحقيقي بمقتل والدي)
وبدلاً من أن يشعل الحريري كل الأضواء على هذه القضية، ترك فريقه يهاجمها ويعتبرها تهمة ضد سعد الحريري وحكومته.. ومن هنا الإحساس العام في سورية يستغرب أن تنطلي اللعبة السياسية على سعد الحريري وأن يستطيع بعض الأفراد حوله من تضليله، ودفعه ليقف ضد قضية التحقيق بالشهود الزور ومن صنّعه… وإذا كنا سنسلم بأن لدى سعد حساسية تجاه كل ما يصدر عن الدولة السورية (والاستنابات منها) فلماذا لا يلجأ للقضاء اللبناني ليحقق في القضية أو لماذا لم يطلب من المحكمة الدولية التحقيق في الشهادات الزور ومن يقف وراءها؟
بالعكس هناك من يقول أن فريق سعد الحريري وعبر القاضي رالف رياشي عملوا على إصدار تعليمات من المحكمة تجرم من يتهجم عليها وتمنع فتح ملف الشهود الزور… هنا تصبح الدهشة فظيعة لأن الحريري لم ‘يطنش’ عن شهود الزور فقط بل كان قد عمل على عدم فتح الموضوع أما المحكمة الدولية. فعلاًً شي غريب!
الأمر بسيط، وبدلاً من اعتبار الاستنابات لعبة سورية لكسر الحريري، يستطيع سعد أن يتلقفها ويلح على السير فيها سواء أمام القضاء اللبناني أو المحكمة الدولية (إن لم يكن يثق بالقضاء السوري). لو قام سعد الحريري بتلقف قضية الشهود الزور بهذه الطريقة لفوت على النظام السوري التلاعب به (حسبما يظن) وكان قد حقق خطوة باتجاه كشف حقيقة من اغتال والده،و حقيقة من ضلل التحقيق وهذا يقوي موقفه تجاه عائلته وجمهوره وتجاه الدولة السورية، ولكنه ترك كل ذلك، وترك أعضاء فريقه أنفسهم يهاجمون الاستنابات ويعتبرون التحقيق بالشهادات الزور مؤامرة ضد سعد وضد لبنان… فعلاً أمر غريب ومستهجن. لذلك فإن السوريين يقولون بأن الرجل ربما يخطئ بالسياسة وربما يتعثر بمواقفه، ومن الطبيعي أن يخطئ في اللغة أثناء قراءة البيان الوزاري، ولكن من الغريب والمستهجن أن يخطئ بإحساسه وشعوره تجاه دم والده … وتجاه من يضيع الحقيقة حول هذا الدم الشهيد. وبينما ينتاب فريق سعد الحريري الذعر تجاه الاستنابات القضائية السورية، يطل علينا وليد جنبلاط بتصريح يعلن فيه أنه سيقدم (اعتذارا علنيا تلفزيونيا للرئيس الأسد شخصياً وللشعب السوري عن كل المواقف الخاطئة والقاسية التي قام بها في السنوات الماضية).. نعم وعلى عادته يريد جنبلاط أن يتقدم الجميع، وأن (يعتذر) للرئيس الأسد ولسورية قبل الجميع، ومع أن السوريين لا يثقون كثيراً بتقلبات جنبلاط ودوراناته إلا أن تصريح زعيم المختارة ونيته الاعتذار تحمل معاني كثيرة يتحسسها السوري ويفهم معناها.
اعتذار جنبلاط عن المواقف الخاطئة في السنوات الماضية يتضمن اعترافاً واضحاً وجلياً بخطأ السياسات التي قام بها جنبلاط في السنوات الخمس الماضية،و هي سياسات ارتكزت أساساً على قضية اغتيال الحريري، وإذا كان جنبلاط يعترف بخطئه في السنوات الماضية، فهو يعترف (ضمناً) بأن حركة 14 آذار وثورة الأرز التي كان يتزعمها ويقودها كانت خطأ وهو يعتذر عنها.
فهل شرح مستشارو سعد الحريري لسيدهم، معنى أن يقدم جنبلاط اعتذاره العلني لبشار الأسد؟!
هل قال احدهم لسعد الحريري أن ما يعلنه جنبلاط من ندم تجاه سورية، ندم على الأخطاء التي ارتكبت ارتكازاً على قضية اغتيال الحريري، هو ندم يكشف أن الاستنابات القضائية السورية تأتي في محلها، وأن تصنيع الشهود الزور ربما كان من الأخطاء الماضية؟!
هل فكر سعد الحريري بأنه من المحتمل أن تكون محاولة جنبلاط في إعلان نيته الاعتذار لبشار الأسد، تحمل في ثناياها مسارعة في الخطوة للوصول بإعلان الاعتذار إلى بشار الأسد قبل أن يصل سعد الحريري إلى دمشق، وفي ذلك يسبق جنبلاط الحريري في تصحيح العلاقة مع سورية.
ثم لماذا تخشى قوى 14 آذار من مواجهة جنبلاط؟ لماذا تجاهل أقطابهم موضوع نية جنبلاط الاعتذار للرئيس الأسد (خاصة وأن جنبلاط قائدهم ومفكرهم وزعيمهم)؟
إن اعتذار جنبلاط يكشف حقيقة الدور الأمريكي، وحقيقة المشروع الذي وظف فيه دم الحريري لتحويل لبنان إلى بوابة للشرق الأوسط الجديد الذي تتربع على عرشه إسرائيل.
اعتذار جنبلاط سيعطي التاريخ حقائق ما جرى من ضغوط أمريكية (إسرائيلية ضمناً) على لبنان وعلى ثورة الأرز وعلى 14 آذار. وسيكشف اعتذار جنبلاط عن جوهر وحقيقة كل المواقف التي اتخذت ضد المقاومة وضد سورية في المرحلة السابقة. والبعض في سورية يقول (صح من الصعب أن ننسى دور جنبلاط ضد بلدنا، لكن كشفه للحقيقة وإعلانه حقيقة ما جرى ربما يخفف من ذنبه . وربما يدفع لمسامحته وطي الصفحة معه) وبالفعل فإن لخطوة جنبلاط تأثير كبير في إضاءة التاريخ عند نقطة حساسة ومؤثرة من تاريخ الشرق الأوسط عامةً،و تاريخ سورية ولبنان خاصة ومستقبل المنطقة ككل.
الآن يسأل السوريون، كيف ينظر الحريري لمواقف جنبلاط ونيته الاعتذار؟ هل ما زال جنبلاط الأب السياسي للحريري؟ هل ما زال رأس الحربة التي تتقدم الحريري في السياسة؟ وهل توجه نحو الوجهة السورية في تأليف الحكومة مع الثلث الضامن، وإعلانه حماية المقاومة هو من تأثير وليد جنبلاط عليه ؟ أم أنه يذعن للمطالب السعودية التي وجدت في تبريد الأجواء مع سورية مصلحة للمملكة وسمعتها وهيبتها العربية؟
الآن يفكر السوريون أن ما جرى بات واضحاً لكل ذي نظر، بعد أن توجه الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز (المرجع السياسي الان للحريري) إلى مصالحة الرئيس بشار الأسد في الكويت، وبعدما توجهت المملكة للتعاون مع سورية في مسائل تتعلق بلبنان والمنطقة وفق منظور قريب جداً من الرواية السورية.
الواضح الآن أيضا، أن جنبلاط يعتبر سنوات اتهام سورية ومهاجمتها كان خطأً جسيماً دفعت إليه القوى دولية (أمريكية)،و بعد أن أعلن جنبلاط نيته حتما للاعتذار للرئيس الأسد … لماذا يظل الحريري حبيس فريقه؟ لماذا لا يبادر لإعادة النظر في موضوع الشهود الزور ومن صنعهم؟ ولماذا لا يفكر بما يقوله جنبلاط عن ارتباط ثورة الأرز و14 آذار بمشروع دولي أمريكي خلال السنوات الماضية؟ ولماذا لا يعلن موقفه الحالي من هذا المشروع بعد أن اتضحت المواقف، وبعدما انكشفت موازين القوى؟
في سورية يتابع الناس أخبار زيارة الحريري، مستغربين ‘تطنيشه’ لموضوع شهود الزور، ومستغربين تمسكه بمن تاجروا بدم والده خدمة لمشاريع خارجية. ويتساءل البعض في سورية : هل يمكن أن يفكر سعد الحريري بالتعاون الصادق مع سورية؟ وهل خطر على باله أن في هذا التعاون مع سورية فائدة كبرى لجهة العمل على كشف حقائق اغتيال والده،و حقيقة من استغل دم والده لخدمة مشاريع خارجية؟
السوريون يلاحظون أن الإعلام الرسمي السوري يتحدث بإيجابية عن الحكومة اللبنانية،و يرحب بكل لبناني يريد زيارة سورية (ومن ضمنهم الحريري) ويلاحظ السوريون أيضاً أن حكومتهم وإعلامها لا ترد على تشكيك بعض أطراف 14 آذار بمواقفها. كما يلاحظ السوريون أن الحريري استبعد (صقور) تيار المستقبل المعادين لسورية عن الحقائب الوزارية.
و بانتظار زيارة سعد الحريري إلى دمشق فان السوريين يدهشون لمواقف سعد الإيجابية تجاه الاستنابات القضائية السورية، ويستغربون ‘تطنيشه’ لما يعلنه جنبلاط حول اعتذاره العلني لبشار الأسد. ومع الدهشة والاستغراب فإن الناس في سورية يتبادلون مقطع فيديو يولف بين أخطاء لسعد الحريري أثناء إلقائه البيان الوزاري وبين مقطع من مسرحية ‘العيال كبرت’ يظهر فيه سعيد صالح وهو يتلعثم بقراءة رسالة … ورغم أن المقطع فيه ما يضحك ويسلي ،و لكنها السخرية المرّة.
و المرارة هي في المواقف التي انجرف إليها فريق 14 آذار في السنوات الماضية ،و’كادت أن تودي إلى الكارثة لو نجح مشروع الشرق الأوسط الجديد من بوابته اللبنانية.
القيادة السورية تقول أنها تريد طي صفحة هذه السنوات (الكارثة)، والشعب السوري يريد العمل في السياسة من أجل المستقبل بدءاً من طي صفحة الماضي، مع الإصرار على أن يظل التاريخ موجوداً كعبرة تجنبنا الوقوع ثانية فيما كان سيوصلنا إلى الكارثة..
السوريون يطوون الصفحة،و يستقبلون الحريري، وهم يعرفون أن لحظة الذروة في هزيمة المشروع الأمريكي في لبنان، ستكون لحظة مصافحة سعد الحريري للرئيس بشار الأسد، لأنها تعني هزيمة كل ما طرحه في احتفالات 14 آذار الصاخبة.
السوريون يطوون الصفحة، ودبلوماسية القيادة تجامل وتبتسم، ولكن فطرة الشعب السوري تفهم التاريخ جيداً، وتتابع بيقظة معاني كل ما يجري، خاصة وأننا نسمع مؤخراً من سعود الفيصل أنه يعتبر وجود سلاح حزب الله يمنع استقرار لبنان. وهو نفس ما قاله جيفري فيلتمان المشرف على تأسيس حركة 14 آذار وثورة الأرز.
السوريون يطوون الصفحة وعيونهم مفتوحة وبصيرتهم واعية، لأن ما مر في السنوات الماضية لم يكن يستهدف النظام فقط، بل كان يستهدف الأمة والمقاومة والكرامة.
السوريون يتابعون زيارة سعد الحريري وهم يتطلعون لمستقبل من التعاون دون أن ينسوا عبرة السنوات الماضية كتاريخ يعلم الجميع … بما فيهم سعد الحريري.
‘ اعلامي وكاتب من سورية