حديث عن المعارضة السورية
مازن كم الماز
1 – تبدأ كل إعلانات المعارضة السورية بنفس المقدمة , الحديث عن أزمة غير مسبوقة تتهدد الكيان السياسي القائم , تستخدم هذه المقدمة التقليدية كمبرر للحديث عن ضرورة التغيير الديمقراطي ,و هي في الحقيقة إعلان لتقاسم المسؤولية عن الوطن بين النظام و المعارضة . اللافت للنظر أن الجميع ( بما في ذلك أو خاصة المعارضة ) تستخدم مفهوم الوطن بنفس المعنى الذي يستخدمه الخطاب السائد للنظام . هذا لا يؤكد فقط أننا ما نزال أسرى خطاب النظام و مفاهيمه عن الوطن و الشعب أو الخطاب القومي أو نسخته الوطنية القطرية ( كما يصفها القوميون ) الذي جيره النظام و استخدمه كخطاب رسمي له , هذا الخطاب الذي يضطر معارضيه لتبرير نقدهم له و نتائجه من قمع و نهب منفلتين . هذا نراه أيضا في الرغبة الملحة عند القسم الأوسع من المعارضة كمؤسسة قائمة في إنتاج إجماع وطني “شامل” و “ملزم” موازي أو جديد كبديل عن الإجماع الوطني الذي يروج له النظام حول قمعه و نهبه للمجتمع و للبلد . يجب أن نذكر أن الصراع حول إعلان دمشق دار حول مفاهيم تتعلق بهذا الإجماع كالهوية و غيرها , و أن هذا الصراع كان إيديولوجيا – سياسيا في الأساس , عن هوية عربية أو هوية سورية , يحشر هذا الصراع الواقع مرة أخرى في أشكال إيديولوجية مسبقة يضعها فوقه و قبله , الضحية الأساسية هنا هم البشر العاديون , الذين لا مكان لهم في هذه النسخ السائدة إلا كضحايا و كوقود للإيديولوجيا و المصالح السياسية و الاجتماعية “العليا” التي تحدد لهم هويتهم و سلوكهم الذي يجب أن لا يتجاوز الخضوع و السمع و الطاعة , فالأساس هو الخضوع لاشتراطات “الإجماع الوطني” الذي صاغته النخب الاجتماعية و الدينية و السياسية والفكرية كشرط أولي ليس فقط للنشاط السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و حتى الفكري بل لوجود الكيان نفسه , مع ضرورة الاعتراف بالفوارق الكبيرة بين درجة السمع و الطاعة التي يفرضها النظام و تلك التي يتحدث عنها القسم الأوسع من المعارضة ) . في أي مجتمع يتألف من مجموعات مختلفة بل و متناقضة في هويتها الدينية و الطائفية و القومية ( و هذا يعني عمليا كل مجتمع إنساني ) يعني الإجماع الوطني سيطرة قيم مجموعة بعينها على سائر الجماعات مقابل نفي قيم الجماعات الأخرى أو تهميشها على الأقل , هذا سينتهي إلى أحد حلين : إما ديكتاتورية صريحة أو محاصصات فوقية تتقاسم فيها النخب المهيمنة على كل جماعة الثروة و السلطة على مستوى المجتمع , في الحقيقة يمكن مواصلة هذا الجدال لكن ليس بصيغة البحث عن إجماع وطني إلزامي , بل بصورة “ديمقراطية” فعلا هذه المرة يبحث في أشكال إنتاج مؤسسات سياسية و عقيدية و فكرية لا تضمن للجماعات المختلفة فقط حقها في التعبير و التفكير و الفعل بحرية بل تضمن هذا الحق لكل فرد , هذا الإجماع الوطني المزعوم لا يهمش قيم و أشكال حياة الجماعات المقهورة قوميا و دينيا و اجتماعيا فقط بل إنه موجه أساسا ضد فردانية كل فرد أيا كانت هويته “الجمعية” , إنه يريد من جديد فرض ثقافة القطيع الشمولية و تجريم و تكفير أية مقاربة نقدية للخطابات السائدة…
2 – إذا كانت معاناة الجماهير السورية جراء سياسات النظام و نهبه في نسخة النظام عن الإجماع الوطني أكثر من أن تكون ضرورة , تارة في سبيل ممانعة اختزل فيها شعار المقاومة الذي اضطر النظام للتراجع عنه تحت ضغط واقع عجزه من جهة و واقع المساومات التي يجريها مع مراكز النظام الرأسمالي العالمي , و تارة في سبيل مسخ حداثي تضطلع بمهمة حمايته سجون و مخابرات النظام . فإن تهميش القضايا الاجتماعية للجماهير حاضر أيضا في خطاب القسم الأوسع من المعارضة لصالح أولوية السياسي ( السلطوي ) البديل هذه المرة , يعني هذا أن حياة السوريين العاديين ستبقى ثانوية أو تابعة لضرورات الإجماع الوطني المفترضة . دور هذا الإجماع الوطني المفترض هو إنتاج مركز للحياة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية , مركز يخضع له البشر العاديون بالكامل , تذكروا هنا أن حديث النخب المعارضة سابقا و الحاكمة اليوم عن أولوية العملية السياسية في العراق أو بناء دولة مركزية في لبنان ( كخطابات بديلة عن خطاب النظام الصدامي الشمولي أو هيمنة أجهزة النظام السوري في لبنان ) أعادت إنتاج جوع الناس العاديين و فقرهم و قهرهم الاجتماعي حتى أصغر تفاصيل القهر اليومي كانقطاع الكهرباء و الماء و …. لكن بشكل مبرر جدا هذه المرة بالنسبة لما كانت تعتبر نفسها معارضة لنظام صدام أو للوجود الأمني للنظام السوري في لبنان….
3 – هذا يترافق مع نقطة مركزية في خطابات القوى المعارضة , قومية أو ليبرالية أو يسارية , و هي أنها لا تقدم نفسها كقوة تغيير , إنها قوى تبرير إيديولوجي للواقع أو للتطورات المحتملة للوضع السوري السياسي و الاجتماعي المأزوم , فما يعنيه التغيير في كل الخطابات السائدة هو إما تغيير يبادر إليه النظام ( طوعا أو كرها ) أو تغيير يفرضه الخارج , و في الحالتين يسمى هذا التغيير بتغيير ديمقراطي , أما الناس العاديون , السوريون العاديون , أهم ضحايا النظام , فهم بالنسبة للخطابات السائدة يشكلون خطرا أو تهديدا على هكذا “تغيير” أكثر من أن يكونوا هم القوة التي ستفرض هذا البديل , و لهذا تجد القوى السائدة في المعارضة تروج لضبابية مفهوم الجماهير و صعوبة أو استحالة تحديدها و تعريفها أو تعريف مصالحها أو صياغة مشروع خاص بها مستقل عن النخب أو سائر البناء الفوقي السياسي في مقابل سهولة وأولوية تحديد النخب و الإيديولوجيات التي تمثلها , هذا المنطق النخبوي صريح في استهتاره بالناس العاديين و هو يمارس تهميشهم هذا عن قصد و وعي كاملين . لا يمكن للمعارضة الليبرالية و لا القومية و لا اليسارية أن تضطلع بدور لا تريد هي أصلا أن تلعبه , لقد حرص الجميع على جعل التغيير الشعبي من الأسفل قضية عسيرة جدا , يشترط القسم الأكبر من الماركسيين مثلا أن يتعلم كل عامل ( و فلاح في بعض النسخ الماركسية ) رأس مال ماركس و الدولة و الثورة للينين و أن يؤمن بعصمة المكتب السياسي للتنظيم الماركسي ليبلغ الناس العاديون مستوى الوعي الذي يؤهلهم للثورة , الليبراليون يريدون إذعانا كاملا مشابها لصيغتهم عن العلمانية و التفافا شبه إجماعي ( بما ينسجم مع مفهومهم عن الديمقراطية البرجوازية ) حول خطاباتهم و مؤسساتهم النخبوية و إيمانا لا يتزعزع بعصمة النخبة الحاكمة من خلال مؤسسات تمثيلية يساوي إن لم يبز عصمة الصحابة في الفكر السني أو عصمة الأئمة في الفكر الشيعي . و لذلك لا تجد هذه النخب التي تخشى الجماهير بصيغتها الواقعية ( العسيرة على التعريف بالنسبة لخطابها أو على الاحتواء لنكون أكثر دقة بعيدا عن وجود طاغ لأجهزة قمع ضرورية ) إلا المساومات الفوقية مع النظام أو القوى المهيمنة في الخارج , هذا يتناقض طبعا مع ما يبدو لأول وهلة بأن الشرط الأساسي للتغيير المفروض من أسفل هو أن يجمع عدد كاف من البشر , العاديين هذه المرة , على القيام بالتغيير . يحتاج التغيير إلى قوة تغيير بالفعل هي الجماهير نفسها في هذه القراءة , و هذا تعبير عن حقيقة أن الجماهير هي الضحية الأولى لسياسات النظام أو للقوى المهيمنة في العالم أو في مجتمعاتنا كلا على حدة , يتوقف كل شيء في النهاية على الجماهير نفسها , النخب لا يمكنها أن تلعب أكثر من دور حفاز للتغيير , و موقف أية قوة يحكم عليه من مدى اقترابها أو ابتعادها عن هذا التغيير الفعلي و الجذري الذي تشكل الجماهير أداته و غايته . لا شك أن التغيير من الأسفل ليس حلا سحريا و أنه كأي شيء يمكن تجييره لصالح قوى مهيمنة جديدة , يجب أن نتذكر أنه في أيام الحكم الديمقراطي في أثينا , الأفضل بما لا يقارن مع واقع الديمقراطية البرجوازية في أفضل حالاتها اليوم في أوروبا أو أمريكا , شاعت الخطابة الديماغوجية كشكل من أشكال التأثير على الجماهير و خداعها , و التي يعادلها في المجتمع البرجوازي المعاصر وسائل الإعلام الجماهيرية التي تمارس ذات الديماغوجيا لصالح القوى السائدة التي تملكها أو أبواق إعلام الأنظمة الشمولية التي تدار بمنطق الكذب و التلفيق الغوبلزي عدا عن أن ممارسة الديماغوجيا الشعبوية قد أدت يومها لظهور الديكتاتوريات الشعبوية لكن من المؤكد أيضا أن دمقرطة وسائل الإعلام لا إسكاتها و إخراسها كما فعل الستالينيون و القوميون يضمن للناس في نفس الوقت فرصة أكبر للتعبير و التفكير الفردي و الجماعي لن توفرها أية مشاريع أو مؤسسات نخبوية شرط وجودها الأول هو خضوعها غير المشروط لنخب بعينها و ممارسة خداع الجماهير لصالح تلك النخب , الفارق هنا هو أن احتمالات أن تتمكن الجماهير من بناء مؤسسات جديدة قاعدية , أكثر ديمقراطية بما لا يقارن من أي برلمان يحتكره الأغنياء ظهر حتى اليوم , هي احتمالات حقيقية مقارنة بأي تغيير فوقي يحافظ على تبعية البنية التحتية للفوقية و يعيد باستمرار إنتاج سلطة فوقية ذات خطاب سياسي و فكري شمولي و محكومة “بالتطور” إلى طغمة فاسدة عاجزة , إننا نعيش في ظل الديكتاتورية و البدائل المقترحة هي أشكال مخففة من أوليغاركية النخب السائدة أو الطامحة المحكومة بالانحطاط وفق المفهوم الخلدوني و وفق دروس الواقع القريب و البعيد , البديل الجذري الوحيد هو ديمقراطية الجماهير , بالمناسبة يستخدم بعض التروتسكيين أطروحة الاشتراكية من الأسفل فقط ليعيدوا تعريف الاشتراكية السلطوية بشكل أكثر ديمقراطية…..
4 – للمعارضة السورية , كأية معارضة في العالم , وجهان , الأول هو مؤسسة المعارضة القائمة و هي نتاج ظروف موضوعية و ذاتية خاصة و لهذه كأية مؤسسة نقاط قوتها و ضعفها , بما في ذلك خطاباتها و مشاريعها و أساليبها و علاقتها بالجماهير و تعريفها للتغيير , و الثاني هو تعبير عن حقيقة بديهية تتجاوز التعريفات الجامدة السائدة و تقول بأن كل ضحايا أي نظام يشكلون المعارضة الحقيقية له . يقول الواقع أن معظم السوريين العاديين على اختلاف طوائفهم و أديانهم و قومياتهم و الذين ينتسبون واقعيا إلى أسفل الهرم الاجتماعي , يعانون نتيجة سياسات النظام و نهبه و قمعه البنيويين و أن معاناتهم تتفاقم بتسارع هائل , و حقيقة أنهم اليوم يشكلون الجزء الأعظم الصامت من المعارضة لا يغير شيئا من هذه الحقيقة…
5 – المعارضة السورية كمؤسسة قائمة تضم خصوم النظام التاريخيين و الاجتماعيين و السياسيين , لكن الحديث عن هذه المعارضة هنا لا يعني , من منطق التغيير الجماهيري المفروض من الأسفل , الخوض في أفضل أشكال تشكيل نخبة موحدة لهذه المعارضة , بقدر ما هو البحث عن أشكال عمل للنخب المعارضة تمارس دور هذا الحفاز للعمل الجماهيري المستقل . نقطة أخرى هامة جدا يجب الحديث عنها و هي أن نقد الطابع النخبوي الفوقي للمعارضة السورية يجب ألا يسمح بتبرير قمع النظام لهذه المعارضة , و لا حتى التورط في الصمت عن هذا القمع المتصاعد , إن النضال من أجل ديمقراطية الجماهير هو في الأساس نضال ضد النظام و قمعه و سياساته و بنيته الديكتاتورية…..
5 – عند الحديث عن الديمقراطية يجب التذكير أن القضية الأساسية تتعلق بمدى تدخل الناس العاديين في تحديد مصيرهم أو علاقتهم بالمؤسسات السياسية القائمة , و لأي درجة يحدد هؤلاء خيارات هذه المؤسسات , هذا التحديد ضروري جدا لنجنب شعار الديمقراطية الأقرب إلى شعار الحرية المقدس مصير كل الخطابات النخبوية الرائجة حتى اليوم ( و على الأغلب حتى في المستقبل ) التي ركبت الموجة الرائجة و تحدثت بشكل ضبابي عن مشاريع جوهرها سيطرة نخبة ما على حياة البشر , ليتبين في نهاية المطاف أن الأميرة فائقة الجمال التي كان يجري الحديث عن وجودها في قصر ما بعيد و محروس جيدا ليست إلا كائنا فائق القبح بل و ذا رائحة شديدة القذارة , تذكروا معسكرات الاعتقال و القبور الجماعية التي خلقتها المشاريع النخبوية السابقة , هذه المرة ليس المطلوب البحث عن ممثلين للناس العاديين , بل أن يمارس الناس حريتهم مباشرة , ليس المطلوب مركز جديد بشكل مختلف , لأن مجرد وجود هذا المركز يعني تركيز السلطة و الثروة بيد أقلية ما , المطلوب أن يملك كل إنسان ما يكفيه من السلطة و الثروة ليعيش كإنسان………………………..
خاص – صفحات سورية –