في الذكرى السابعة والعشرين لرحيل رياض الصالح الحسين :رياض الصالح الحسين.. خبز وزيتون وسياط
فرج بيرقدار
ليس رثاء ولا تمجيداً ولا عَوْداً متسولاً على بدءٍ كريم، بل هو الحبُّ هارباً أو ملتجئاً إلى ما مضى وما سيأتي من ذكريات. وربما هو العرفان بالجميل وبما لم يكن جميلاً حتى. وقد لا يكون الأمرُ أو الخمرُ سوى محاولة للتوازن على نصلٍ يمتد ولا يصل، وما من أحد في جيلنا، أعني جيل شعراء السبعينيات، استطاع ذلك التوازن شاهداً وشهيداً، أو قولاً وفعلاً، أو شعراً وإيماناً وكفراً، كما أحبُّنا إلينا، أعني الشاعر رياض الصالح الحسين.
لن أبدأ من حيث انتهى رياض، ذلك لأنه، في أحد وجوه الحقيقة، لم ينتهِ.
كما لن أبدأ على النحو الذي بدأ فيه، إذ له البداءة، وأنا أحد الذين لجلجتهم ظروفهم الحجرية، وتأخروا كثيراً.
مع ذلك أشعر أني لا أزال أوفرَ رملاً وسراباً من تلك الصحارى التي كنا صعاليكها، ولا نهايات في داخلي لما يترامى في ظنون تلك الصحارى من واحات وحداء وصهيلٍ وترحال.
أنا الآن في أقصى الحزن، أعني على تخوم أقصى الشمال، ورياض في أقصى الحنين، أعني على تخوم أقصى الجنوب.
للجهات رموز أحدس بها وإن كنت لا أفهمها، وآوي إليها وإن كانت تثير الريبة في داخلي.
تعلّمتُ أهمية الحدس من شاعرية رياض، وتعلّمت من أساطيره اليومية أن اليقين يصلّي على قِبلة الشك، حتى لكأنّ يقيني بسوريا هو الشك الأكبر في حياتي!
لقد أحبها رياض كاملةً وأنصافاً وأرباعاً، كما يعرف الجميع، وتنكّرت له فلم تنصفه ولم تربِّعه على غير النعش، كما لا يعرف إلا قلة ممن قبضوا أو يقبضون على الجمر.
كان يأتي رياض باسماً أو ضاحكاً دائماً، أعني غالباً، ويمضي على النحو نفسه.
أستخدم “كان” رغم معرفتي بأنه فعلٌ ناقصٌ مرتين، مرة بذاته ومرة بسبب رياض.
كم تساءلتُ إن كان رياض مبتسماً حين دخل في ذلك الكمين الذي نصبه له الموت طمعاً في الحصول على شرف استثنائي لا سبيل إليه في الحالات الاعتيادية.
لم أتمكن حينها من رؤيته أو وداعه. كنت قد أصبحت مطلوباً، أو متخفياً على نحو احترازيّ في البداية، وملعون في النهاية.
حسناً.. رافقتْه قصائده وضحكاته وملائكة حزن محبيه.
ولكني كنت أنتظره ولا أزال.
يعرف رياض كيف يأتي حين يريد متكئاً على قصائده، وحالي حال الكثيرين ممن تتكئ عليهم قصائدهم وهم يواربون الخطى حتى في الذهاب.
ما أكثر ما كان يحبُّ ويشرب ويضحك ويرقص، ولكنه كان يعرف كيف ومتى يحزن أو يبكي أو يصمت ، وكان يزعجه أنني أتظاهر أو أبدو على النقيض منه.
ألهذا ذهبت قصائده وحياته إلى نهاياتها عبر أقصر الطرق، وتلهلهتْ سبلُ حياتي في تعرجاتها وعروجاتها الشيطانية هروباً وسجوناً ومنافي؟!
يا ما ناكفته في الحب والسياسة وشعر التفعيلة وحتى في تجربة اعتقاله.
ويا ما سامحني مقابل ابتسامة أو نظرةٍ آسفة أو سؤال عن حبه الجديد أو نخب أو عناق.
أجل.. كان رياض أكثرنا صفاء وجرياناً وقابلية للغفران. إنه يشبه شعره في الكثير من الملامح.
كما كان أكثرنا موهبة ونباهة في اقتناص ما يلائمه من الشعر والحياة، إذ تمكّن خلال عمر قصير بالمعنى الزمني والشعري أن يجد أسلوبه ويكمل مشروع قصيدته وحياته على أجمل وأوجع نحو ممكن.
ما العلاقة بين الوجع والجمال؟!
لا يقبل رياض أن يجيب الآن، رغم أنه واحد من شعراء قلائل يصعب على المرء الفصل فيما بين عوالمهم، الشخصية والوجودية والجمالية.
ألهذا لم يستطع رياض تحمّلَ عبء الوجود والبشاعة والقمع والاعتقال والأصدقاء، وأخيراً نقص الحسّ أو الشرف المهني الطبي؟!
قرأت كثيراً مما كُتِبَ عن رياض وتفاصيل شعره وحياته، ولكني للأسف لم أقرأ أي شيء عن اعتقاله مثلاً!
أجل.. اعتُقِلَ رياض بسبب كرّاس أدبيّ كان يصدره، في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، مجموعة من الكتّاب الشباب، منهم جميل حتمل “ما أقربه إلى رياض الآن” وحسان عزت ووائل السواح وبشير البكر وخالد درويش “اعتقل في نفس الوقت مع رياض بسبب الكرّاس” وفاديا لاذقاني وموفق سليمان وكاتب هذه السطور الذي اعتقل لأول مرة بسبب الكرّاس، بعد رياض وخالد ، وليس مهماً الآن أنه اعتُقِلَ لاحقاً لأسباب أخرى.
إذا كان الوقت مساء الآن، فليس في وسعي سوى القول:
نساء الخير يا رياض
وإذا كان الوقت صباحاً، فإني آمل أن يقبل مني تحيةَ:
صبايا الخير يا رياض.
هل كان اعتقاله سراً خطيراً؟
تؤكد الوقائع عبر العقود الأخيرة من تاريخ سوريا أن الأمر عادي أو مألوف أو متوقع.
لماذا إذن تحاشت وتتحاشى الأقلام النقدية، المجرّدة أوقات السلم والمغمدة أيام الشدائد، الحديث عن اعتقاله بسبب ذلك الكراس وتعرضّه للتنكيل والإهانات ولاختبارات قاسية بغية التأكد من صممه وتعثّر نطقه.
أليس اعتقاله جزءاً من تجربته في الحياة وله انعكاساته في شعره؟
ربما كان أولئك الكتّاب والنقاد معذورين في ذلك، إذ لا سلطان لبعض الناس على الخوف، وفي هذه الحالة لا سلطان للحقائق عليهم.
وإذا كان لهم عذرهم في ذلك، فما هو عذرهم في عدم إنصاف تطورات تجربة رياض الشعرية في جميع مراحلها، وصولاً إلى الختام في إكمال تأسيس و امتلاك طريقته الشعرية، وبالتالي قصيدته الخاصة التي لم تمّحِ روحها وملامحها رغم مرور ما يمكن أن نطلق عليه تسمية أجيال؟!
أهي حالة تنزيه اعتذاري يشعر بوطأة الإحساس بالذنب والتقصير والعجز، ويأمل بالمصالحة مع ضمير اضطر إلى النوم طويلاً وصحا على ما ليس خطراً بعد موت رياض؟!
لا بأس أن يصبح الحديث عن رياض، بعد موته، مشاعاً لكل من أراد تجريب قلمه أو تطهيره أو تكريمه بالكتابة عن رهافة وعمق وألفة وجمال ودهشة وإشارة وبساطة شعره، وأنه علامة فارقة في جيله وفيما بعد، ولكن ماذا عن سيزيفية أو وعورة الطرق التي اختارها أو اضطر إليها رياض؟
هل لنا أن نتخيّل أيَّ تحدّ أقدم عليه بعد فقده السمع، وبالتالي توقفه عن المدرسة، وهو في الثالثة عشرة؟!
غالباً ما يجري الحديث عنه كما لو انه ولِد شاعراً هكذا ببساطة، أو بدون جهد وبحث ودأب ومعاناة، أو كما لو كان طريقه في الوصول إلى قصيدته وردياً أو سهلاً أو قادماً من جهة الحظ والمصادفة أو الموهبة وحدها!
نادرة هي تلك الكتابات التي تحدثت عن تلك المحطات اللاهثة والقلقة، المرتابة والمرتبكة والمتوثبة والمغامِرة في تجربة رياض مع الحياة بصورة عامة، والشعر بصورة خاصة، ومع قصيدة التفعيلة على وجه أخصّ، وقد كان ذلك ميدان نقاش معقد وطويل بيننا في هيئة تحرير الكرّاس الأدبي.
كنت أنا، المقيّد بالأصول والدراسة المريرة في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق، أحد المناقشين أو المشاكسين أو المناكفين لرياض بشأن طريقته في الكتابة الشعرية. كان يحاول وأحياناً يصرّ على كتابة قصيدة التفعيلة، وكنت أصرّ على أنه لم يُخلق لها وأنها لا تناسب روحه وشخصه وميوله وموهبته.
غير أن رياض أقدم على نشر قصيدة ” سطور من كرّاسة الحطابين الأشرار” في مجموعته الأولى، وهي قصيدة مكتوبة على التفعيلة ، كما قرر الاحتفاظ بالمقطع رقم 3 من قصيدة “خراب الدورة الدموية” موزوناً، وكذلك بالمقطع رقم 4 من قصيدة أساطير، وهي القصيدة الأخيرة في مجموعته الأولى “خراب الدورة الدموية”.
القصيدة الأخيرة في مجموعته الأولى هي التي أرهصت بعنوان مجموعته الثانية “أساطير يومية”، التي افتتحها بقصيدة طويلة على التفعيلة تحت عنوان “حرب حرب حرب”، ومزج في إحدى القصائد المنشورة في هذه المجموعة تحت عنوان “هيلين”، ومهداة إلى ن. أبو عفش، بين النثر والتفعيلة، ربما كنوع من الوفاء والمحاكاة لنزيه.
ورغم قناعتي بأن نضج أو اكتمال خيارات رياض الشعرية، إنما جاء في مجموعته الثالثة “بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس”، إلا أن رياض بقي يحاول مع قصيدة التفعيلة، فضمّن مجموعته الرابعة والأخيرة “وعل في الغابة”، التي أعدّها قبل موته، القصائد الأربع الأولى على التفعيلة، أعني القصائد المعنونة ب “غرفة الشاعر” وهي أول قصيدة في المجموعة، تلتها قصيدة “غرفة المحارب” ثم “غرفة السائح” ثم “غرفة مهدي محمد علي”.
أين أنت الآن يا مهدي محمد علي؟!
وفي نهاية أعمال رياض الشعرية الكاملة التي نشرها وفاءُ الشاعر خلف علي الخلف على موقع جدار، ترد ثلاث قصائد لرياض، لم تنشر ورقياً، بينها قصيدة بعنوان “العاشق القادم من البحر الخامس” مكتوبة كاملة على التفعيلة.
لا أدري ما هي دوافع رياض في محاولات تقحّمه لشعر التفعيلة، خاصة بعد أن وجد روحه وخصوصيته أو ميزاته الإبداعية في قصيدته التي أكملها وأكمل حياته معها!
ذلك يحتاج إلى ناقد حقيقي، لا إلى صديق أو مجرد شاعر مثلي.
مضى رياض وعوّضنا عن غيابه بأكثر من طريقة، من بينها قصائده التي لم يغلق الزمن دونها النوافذ ولا الأبواب.
أمّا وقد انتهى بعض الأمر الآن، فإن المشكلة هي كيف لنا أن نعوِّض عما لا يقبل التعويض؟!
أليس رياض جديراً بأن يكون سارية بالمعنى الإبداعي والحياتي اليومي لأجيال راهنة وقادمة؟
ألا تشكل إنجازات تجربته الشعرية، رغم حياته القصيرة العاصفة، حافزاً وملهماً لكثيرين ممن يعتقدون أن ثمانية وعشرين عاماً، هي عمر رياض، لا تكفي لأكثر من إكمال الدراسة وإنهاء الخدمة الإلزامية؟!
بل لماذا لا تكون تجربة رياض الشعرية والحياتية جزءاً من منهاج مدرسي على سبيل المثال، أو جزءاً من سيرة أدبية معممة وطنياً، ومحفوفة بما يليق بها من أضواء وأجنحة على شحّ الفضاء وانحنائه؟!
تلك أسئلة لهتك البداهات والأسباب أكثر منها بحثاً عن أجوبة.
لكأنني أحاول أن أتحايل أو أتحامل على نفسي، فمن هو مثلي يرى أن رياض لم يمضِ إلا مجازاًً، ذلك لأنه كما أعرفه تماماً، وكما يعرفه كثير منكم، أو كما هو عوّدنا، يذهب فقط ليعود.
ألا ترونه الآن بيننا وهو يجاهد في قراءة قصيدته “سورية”:
يا سورية الجميلة السعيدة
كمدفأة في كانون
يا سورية التعيسة
كعظمة بين أسنان كلب
يا سورية القاسية
كمشرط في يد جرّاح
نحن أبناؤك الطيبون
الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك
أبداً سنقودك إلى الينابيع
أبداً سنجفّف دمك بأصابعنا الخضراء
ودموعك بشفاهنا اليابسة
أبداً سنشقّ أمامك الدروب
ولن نتركك تضيعين يا سورية
كأغنية في صحراء.
يا إلهي!
لماذا إذن يتذكرون حديثه عن أنه أكل من خبز سورية وزيتونها، وينسون السياط؟!
() في الذكرى السابعة والعشرين لرحيل رياض الصالح الحسين.
خاص – صفحات سورية –