بيع اللذة.. هنا شارع بغداد
دمشق – نبيل الملحم
سنؤجل حديث الارقام والبيانات، وسنقف في شارع بغداد، لا بل في مائة متر من شارع بغداد، مابين مشفى الهلال، والى الامام قليلا من مكتب لبيع السيارات.
مبدئيا بالوسع ودون فائض خبرة التساؤل: ما الذي تفعله تلك البنت تحت هذا المطر، وبيدها محمول لاتلبث أن تعيد عبره طلب رقم، أو ترد على رقم، ومن ثم تروح وتعود بقلق يشي بأن ثمة خطر ما يطارد هذه البنت. لابد وأن تكشف.. وأيضا دون عناء أنها تتصل بزبون ليأتي اليها فـ: -اليوم ماطالعت ولا ليرة!!!
ستقول لك ذلك حين تسألها ان كانت في ورطة ما، ولكنها لن تتردد في القول لك اسم مهنتها الصريح، وتتابع لتنبئك بما تستطيع أن تقدم لك من خدمات ومن تلبية متطلباتك الاضافية ان كان لك ثمة طلبات. اسم البنت الرمزي “منتهى”، وهي تقول، أنها واحدة من أربع زوجات لرجل شديد البطش والقوة، وهو سيبطش بها ان عادت بلا (الغلة ) المطلوبة، وتسألها:
– ماهو المبلغ الذي يجب أن تعودي به، فتجيبك ثلاثة آلاف ليرة سورية، بالحد الادنى، ويجب أن تعود الى البيت، فهي ليست بنت (بيات).
– بيات، مصطلح يعرفه الضالعون في المهنة ومعناه:” المبيت”، فمنتهى ليست بنت مبيت، هي بنت تعمل على الساعة، والساعة يمكن هدرها حيث ستختار، فان كان لديك منزل، حسنا، وان لم يكن لديك منزل فالى منزل صاحبتها (صباح)، وثمة اضافات على التسعيرة هنا، فصباح تؤجر منزلها بـ (500) ليرة سورية على الساعة، وان كان لابد من الاستحمام يضاف (300) ليرة سورية، وهي تؤكد أن منزلها مؤمن تماما، فثمة عيون ساهرة على رعايته، من العيون التي تراقب تجارة الجنس في دمشق، وباللغة الصريحة عيون من شرطة الآداب.
بروليتاريات:
المعلومات السابقة، ليست اكتشافا يحمل أي جديد، كل مافيها اقرار بواقع حال بنت بياعة جسد، ولكن على الصف نفسه من شارع بغداد، العشرات المتبدلات اللواتي يتحولن الى مئات، ولكل منهن قصة، ولكل قصة مايكفي من الاسباب الموجعة ، فبنات الشارع غير بنات (التواصي)، فثمة في مهنة بيع الجسد مستويات، فهنالك (بروليتاريا) وهناك (فئات وسطى)، وهنالك مجتمع مخملي، يراكم فوق المخمل مايكفي ليكون أكثر مخملية مما هو عليه، ولنبقى مع بروليتاريا بنات الهوى، لنتقدم بعدها خطوات بالاتجاهين الآخرين.
نسرين:
بداية تطلب نسرين ثلاثة آلاف على الساعة، ومع قحط الزبائن تتنازل الى (ألفين)، وبعد مجادلة لاتخلو من العنف تصل الى الالف، ولحظتها يقطع عليك الطريق سائق تاكسي، ليقف الى جانبك ويقول: -اتركك منها هاي جربانة، عندي ست ست ستها. العرض يغري، وحينها تصعد التاكسي، فيلحظ سائقها أن ثمة مفاتيح سيارة في يدك.. يسألك: -الاستاذ عندو سيارة؟
عليك أن تقول لا، على الاقل، كي لايرفع فاتورته تبعا لوضعك المالي المرتفع، بصفتك من أصحاب السيارات. سيقصر الطريق عليك ويقول لك:
-عندي بنات (16)، وعندي بنات (30) وحين تشكو من خصوصية مزاجك وكونك لا تتقبل (على الماشي)، يقول لك، لن أستطيع أن أعرض عليك الكثيرات، وعندما تقول له أنك ستدفع مقابل المعاينة ، يجيبك، وهو لايخلو من الشك:
-عظيم بتدفع (500) على كل عرض؟
-أدفع.
-واذا قلت لي: لم تعجبني ولا واحدة.
-أكون قد دفعت لك.
– هذا مو كلام.
– ماهو الكلام؟
-تدفع (2000)
– بل (1500).
– اتفقنا.
مجموع المبالغ التي دفعت للسائق خلال جولة طويلة وصلت الى (4000) آلاف ليرة سورية والرحلة كما التالي:
– المشوار الاول الى دوار كفرسوسة، وفي واحد من منازله مالايقل عن خمسة بنات، ورجل واحد يحمل شاربين كثين، وفمه محشو بالخبز والجبنة البيضاء، والعرض بطبيعة الحال سريع، ولكنه مكشوف.
– المشوار الثاني الى مخيم فلسطين وفيه امرأتان في العشرينات من عمرهن.
– وفي المشوار الثالث، ستجد نفسك في حي يسمونه دف الشوك، وفي دف الشوك هذا بنات صغيرات لايزيد عمر الواحدة منهن على العشرين عاما، ولا شك بأنهن محطمات الى درجة تسمح للواحدة منهن أن تكون أكثر قسوة من حطب الاشتعال.
– أما المشوار الرابع فقد كان الى منطقة الطبالة وهناك دار مبنية كما الحلزون، وعليك أن تصعد درجا، ليوقظ مرافقك بحذائه، البنات النائمات اللواتي سئمن من انتظار الزبون، والنتيجة عرض ليلي، ربما يصل عدد العارضات فيه الى مايتجاوز الـ (15) امرأة، لاشك بأنهن التمثيل الأكثر وضوحا للانسحاق الانساني، للذين كانوا بشرا وسقطوا، للموت المؤجل الذي يأتي بالتقسيط، وقد تكون (ريما)، أكثرهن انسحاقا، وهي التي تعمل لحساب رجل (طيان) ترك الاسمنت وعاش من عرقها، لترى آثار حروق تنتشر فوق جسدها .
– يقول لي سائق التاكسي، أنها (الحروق) ناتج امعان عشيقها في تعذيبها. السائق نفسه سيعرض عليك ماهو أكثر من ذلك سيقول لك:
– ياأخي انت مزاجك صعب، طيب لن أترك لك حجة، سآخذك الى مكان فيه مائتي بنت، وهناك لن تستطيع القول: لم يعجبني.
عندها لابد من الاعتذار لأن الوقت قد حان لمغادرة بنات البروليتاريا، وحان للذهاب الى المخمليين.
بين الجنس الشعبي وجنس النخبة:
المخمليون ينتمون الى أبو ياسين، ولن يذهب الخيال بنا بعيدا، فهو رجل في الاربعين، بالغ الاناقة، متين البنية، واثق الخطوة، ومقابلته ليست باليسر الذي يمكن توقعه، فحين تطلبه على هاتفه المحمول، سيخبرك المجيب الآلي اترك رسالة، وعليك أن تترك رسالة، فما الرسالة التي يمكن تركها (لأبوياسين)؟
ستقول له: أنا من طرف هافال.
– سيسألك من هافال؟
– ستقول له، هو (كذا وكذا وكذا)، وليتني أقابل أحدا ممن عندك. الوقت بالنسبة لابو ياسين لايحتمل التردد، ولا النقاش الطويل، وستأخذ عنوانه ومعك (25) ألف ليرة، وهناك ستدخل بيوتا فارهة، مزينة بورود حقيقية، وسترى شاشة تلفاز لايزرية، وسيقدم لك مشروبا ما، وستدخل سيدة لا تقاوم، ولا شك بأنك سترتبك.. سيدة تحيل الرجل الى صرصار.. سيدة لاتنتمي الى المتوفر من السيدات، وبعدها ستعرف أن تسعيرتها أعلى بكثير غير أن موسم الشتاء، وشحة الزبائن، وحظك الطيب سمح لها بقبول هذا المبلغ الهزيل، ولكن كل تلك الاسباب مجتمعة لن تحول دون أن تنظر اليك بازدراء باذخ.
– بصفتك تنتمي الى (البروليتاريا)، فاذهب اليهن.. ما الذي جاء بك الى هنا؟
بطبيعة الحال ليس بالوسع أن تقول لها : تحقيق صحفي.
ليس بوسعك أن تقول ذلك لأنك ان قلته فلابد وأنك تكذب، كما لابد وأنها تعرف أنك تكذب، لتعرف أنت أنها تعرف أنك تكذب، فاغراءات الكشف تفوق في اغرائها تحقيقا صحفيا، أي كان ناشره وقارئه والمندهش منه أو المتذمر عليه.
هنا المخمل، وهناك بيوت عريقة في الرطوبة والحاجة والموت، ورائحة النشادر تنتشر في كل مكان. . هنا بيوت النخبة وعلى الطرف الآخر : الجنس الشعبي.
– عواصم:
اللوحة مرئية بالتمام والكمال، وقد تكون دمشق، واحدة من العواصم التي تنتشر فيها مهنة بيع الجسد، تماما كحال كل عواصم الكون، وليس ثمة مايدفع لتأكيد المؤكد، ولكن ثمة مايتطلب المجازفة في مواجهة الظاهرة، ظاهرة بنات بيع الجنس، باعتبار الظاهرة مهنة، وباعتبار المهنة ممنوعة قانونا، وباعتبار القانون مسكين وأعزل، وربما قاتل في بعد ما من أبعاده، ولنلاحظ التتبع القانوني لهذه المهنة، بعد عودة قصيرة الى تاريخها في سوريا، ولو بملامسة سريعة.
حسب التقارير الفرنسية، فقد تم احصاء 251 امرأة تمتهن بيع الجنس في سوريا حتى العام 1920، وكانت الحكومات السورية المتوالية، قد أباحت هذه المهنة وفق تراخيص قانونية حتى عام 1958 حيث تم اغلاق دورها وفقا للقانون رقم 10 والقاضي بالغاء الدور الخاصة بهذه المهنة، وأشهر الدور في العاصمة كانت في منطقة السروجية وكذلك في المبنى المقابل لكلية الهندسة بجامعة دمشق، أما في المحافظات السورية، فكانت هذه الدور منتشرة في دير الزور وفي السويداء، وربما أكثر الدور شهرة (بحسيتا حلب) التي استمرت حتى منتصف السبعينيات حيث تم اقفالها.
حين كانت تلك الدور ثمة حقائق كانت مترافقة معها ومن بينها:
– الكشف الطبي الدوري على النساء بائعات الجنس.
– الغاء دور الوسيط الذي يمارس ابتزازا ماليا على العاملات بهذه المهنة.
– حصر ممتهناتها في دور محددة، بحيث تحال المشتغلة في هذه المهنة اذا ماثبتت عليها، احالتها على احدى هذه الدور، بما يسمح بمعرفة من من النساء يعمل بها.
ما الذي يحدث الآن؟
لنتابع هذه الارقام ونعرف: في دمشق أكثر من 40 ألف بيت لبيع الجنس، حسب دراسة نشرها الدكتور الطيب تيزيني.
ترخص نقابة الفنانين، لكل اللواتي يعملن في الملاهي على أنهن فنانات، وتقبض عن كل واحدة منهن، وفي دمشق مايزيد عن 200 ملهى ومرقص وكل ملهى يحتوي على مالايقل عن 20 راقصة، أي مامجموعه 4000 آلاف راقصة، هن في واقع الحال يعملن في بيع الجسد، وبوسع المهتمين بالشأن القانوني، استقصاء هذه الاماكن والبديهيات لاتحتاج الى توثيق.
مهنة بيع الجنس قائمة والقانون يمنعها، وسوريا عضو في اتفاقية قمع الاتجار بالنساء الموقعة في نيويورك (1950)، وفي النهاية لابد من تحديد اختياراتنا، فاما ان تدافع الحكومة عن القانون المعمول به راهنا، واما أن ترخص لهذه المهنة، وتقدم كل عوامل ضمان الرعاية الصحية والحماية من الانتهاكات التي تتعرض لها العاملات بهذه المهنة، والحيلولة دون استغلالهن، ولكن ثمة من يحيل الحفاظ على المنع الى جملة مصالح، المستفيدون منها، هم الذين يجب عليهم منع هذه المهنة، فقد سبق وأظهرت بعض التحقيقات رعاية بعض المتنفذين لعمل شبكات من بنات بيع الجنس، وثمة قضية شهيرة كانت قد أثيرت عبر موقع متخصص بقضايا المرأة السورية، عنوانها قضية ناريمان حجازي، التي كشفت عن شبكة يرعاها متنفذون كبار، ولا بد أن ثمة الكثير من الشبكات التي مازالت مجهولة، أو شبكات يمكن الكشف عنها بناء على صراع متنفذين. الحال هو ماتقدم، والحل يتطلب الاقرار بحقائق الحياة والتعامل مع القوانين لا بصفتها (رغباتنا)، وانما بوصفها معادلة للحياة.. البنات الساقطات (وأنا لاأقر بالمصطلح) يقابلهن قانون ينخفض عنهن كثيرا، وتطبيقات لابد وانها تحتمل الكثير من المفردات المساوية للاسم الصريح والشعبي والدارج لاسم مهنة هؤلاء البنات.
شاكو ماكو