صفحات الناس

موت الصحافة في سورية… صمت الصحافيين وكتاب المقالة

null

زين الشامي

لم يكن مستغرباً أن إرهاصات بداية عهد صحافة جديدة وعصرية، وصحافيين شباناً مشاكسين جدداً، سيوأد مثله مثل وأد ربيع دمشق منذ نحو سبعة أعوام مضت. فماكينة تكميم الأفواه، التي تعود ملكيتها إلى «حزب البعث» الحاكم، ماضية في عملها من دون توقف، أهلاً بكم أنتم في جمهورية الصمت، أو دولة الممانعة والمواجهة، أو سورية الأسد… لا فرق.

عودة إلى ذاك الحراك الذي عشناه والممتد منذ تسلم الرئيس بشار الأسد للسلطة في يوليو عام ألفين في أعقاب وفاة والده قبل شهر من ذلك التاريخ، ونهايته بعد نحو ستة أشهر تقريباً حين تم قتل ربيع الحوار في المنتديات السورية. إن مثل هذه العودة تجعلنا نشعر بأسى شديد لتلك الآمال التي كنا نعلقها، وتجعلنا نشعر بصدمة موجعة. لقد كنا نعتقد أن النظام الجديد كان يحمل حقاً مشروعاً جديداً، وسيقوم بإحداث نقلة نوعية في حياة السوريين تأخذهم من دولة الخوف، التي بناها النظام الشمولي، إلى دولة الديموقراطية والحداثة، لكن آمالنا خابت بعد ستة أشهر فقط، لقد «ذاب الثلج وبان المرج»، كما يقول المثل الشامي.

فلقد هرعت دوريات الأمن إلى كل منزل يعقد فيه منتدى حواري وقاموا بوصده، ثم أتوا بكل صاحب منتدى وطلبوا منه إغلاق منتداه، وإن لم يلتزم التعليمات أودعوه السجن. أيضاً اعتقلوا أبرز الناشطين ودكوهم بالسجن وحكموا عليهم بأحكام قاسية لناحية المدة الزمنية ومضحكة لناحية الأسباب مثل «وهن نفسية الأمة»، أو «العمل ضد النظام الاشتراكي»، أو «الاتصال بدول خارجية»، وغير ذلك مما تفتقت عنه ذهنية دولة الجنرالات التي تعود ملكيتها الحصرية إلى حزب العبث.

بالتزامن مع «ربيع دمشق» كان تحصل متغيرات على مستوى الصحافة، فللمرة الأولى منذ ستينات القرن الماضي بدأ السوريون يقرأون مقالات وتحقيقات صحافية جريئة ونقدية لصحافيين يعيشون داخل سورية وليس خارجها، وكان لافتاً أيضاً تلك الموجة من الكتابات والكتاب ذوي الخلفيات اليسارية الذين استعادوا همتهم وأملهم بالتغيير بعد أعوام من الإحباط، بحكم أن غالبيتهم كانوا من السجناء السياسيين. وفي هذا السياق نورد أسماء ميشيل كيلو، وأكرم البني، ياسين الحاج صالح، وغيرهم من الذين وجدوا في الصحافة العربية واللبنانية متسعاً وصدراً رحباً لكتاباتهم الجريئة والعميقة عن الشأن السوري الداخلي.

كما برز جيل جديد من الشبان الصحافيين كتاب المقالات والتحقيقات والمراسلين، الذين استطاعوا أن يفرضوا أنفسهم بقوة على المشهد الإعلامي العربي من خلال نقلهم لما يجري في سورية في تلك الفترة من حراك ديموقراطي، مثل شعبان عبود، وجانبلات شكاي، وإبراهيم حميدي، وزياد حيدر، ويعرب العيسى، وإياد عيسى، وحكم البابا، وآخرين.

أيضا وبعد فترة قصيرة على وأد ربيع دمشق، ورغم الملاحقة والسجن الذي تعرض إليه بعض الصحافيين فقد شهدت سورية بداية انتشار صحافة إلكترونية جديدة حاولت أن تقدم نوعاً جديداً مختلفاً من العمل الصحافي يختلف عن الصحافة الحكومية الخشبية، فبرزت نشرة «كلنا شركاء» للشاب أيمن عبد النور الذي عرف بتأييده للتوجهات الإصلاحية، وقد استطاعت هذه النشرة الإلكترونية الوصول إلى نحو خمسة عشر ألف مشترك خلال فترة وجيزة من انطلاقتها، وكانت ميزتها أنها شكلت ملتقى إلكترونياً للحوار الديموقراطي الرصين يجمع بين الأفكار الرسمية وتلك المعارضة والمختلفة. لكن بعد فترة وجيزة تعرض صاحبها إلى الكثير من المضايقات مما أثر على مستواها، وفي ما بعد ونظراً إلى كثرة التضييق قرر الهجرة إلى خارج سورية ليستطيع متابعة إصدار النشرة، لكن السلطات كانت له أيضاً بالمرصاد، ذلك أن النشرة محجوبة اليوم بالنسبة إلى زوار الشبكة الإلكترونية من داخل سورية.

كذلك برز «موقع سيريا نيوز»، ورغم أنه حاول بداية أن يقدم تجربة مختلفة من الرصد الصحافي، لكن السلطات الأمنية سرعان ما عملت على تطويق هذا الموقع وفي ما بعد الاستيلاء عليه حتى بات اليوم لا يختلف كثيراً عن الصحيفة الناطقة باسم «حزب البعث» الحاكم.

عموماً، سعت السلطات إلى حجب المواقع الإلكترونية كلها التي انتشرت في الآونة الأخيرة، مثل موقع «سيريا لايف» الذي طلبت السلطات الأمنية من القائمين عليه إغلاقه تحت وطأة التهديد بالسجن للمشرفين عليه. وأيضاً كان الحجب مصير كل من «الحوار المتمدن»، و«مرآة سورية»، أما ما تبقى من مواقع مثل «الجمل»، و«شام برس»، و«صدى سورية»، و«داماس بوست»، فبقيت واستمرت نتيجة علاقات المشرفين عليها الطيبة مع السلطات الأمنية والحكومية، لكن موادها المنشورة كلها مستقاة من الصحافة الرسمية والوكالة السورية للأنباء «سانا»، وبعض المواقع العربية الشهيرة مثل «إيلاف» و«العربية»، أو الأجنبية العربية مثل «سي إن إن» و«بي بي سي».

منذ عامين أو أكثر، تم توجيه ضربة مؤلمة إلى المشهد الإعلامي والثقافي في سورية حين سجنت السلطات كلاً من الكاتب ميشيل كيلو، والمحامي أنور البني، والكاتب أكرم البني، وفايز سارة، وعددا لا بأس به من الكتاب الموقعين على «إعلان بيروت دمشق – دمشق بيروت». فلم تعد تستقبل الصحافة العربية أي كتابات جدية ورصينة من داخل سورية. وما زاد المشهد مأسوية هجرة بعض الصحافيين إلى الخارج أو توقف بعضهم عن الكتابة مثل أيمن عبد النور رئيس تحرير نشرة «كلنا شركاء»، وشعبان عبود، مراسل صحيفة «النهار» اللبنانية، والكاتب في جريدة «الراي» الكويتية، وحكم البابا، صاحب المقالات الجريئة والمتهكمة، والذي لجأ إلى دولة الإمارات العربية المتحدة بعد أن تعرض إلى الضرب والتوبيخ في إدارة المخابرات العامة، ثم تهديده بالسجن في ما لو كتب مقالة واحدة.

أما المتبقي من الكتاب من داخل سورية، والذي استمر في نشاطه فهو ياسين الحاج صالح، ذو الأصول اليسارية والذي سجن لنحو خمسة عشر عاماً، لكنه اليوم يفضل الكتابات الفلسفية والتحليلية، ويبدو أن الخوف من بطش السلطات هو من يقف وراء اختياره هذا النوع من الكتابات التحليلية المعقدة، والتي تناسب لغة الكتاب والبحث ولا تناسب لغة الصحافة اليومية. أيضا قرر الصحافي يعرب العيسى الذي أشرف على العديد من المجلات الاقتصادية أن يترك المهنة نهائياً، ويلتفت إلى العمل الخدماتي حيث افتتح مطعماً في حي جرمانا.

هكذا ومع حجب العديد من المواقع الإلكترونية والضغط على الصحافيين وترهيبهم، تحولت سورية خلال ثمانية أعوام إلى جمهورية للصمت بجدارة، لا تختلف شيئاً عن الجمهورية السابقة التي امتدت من أوائل السبعينات حتى عام ألفين.

لماذا يخاف هذا النظام من الصحافة الحرة وحرية التعبير والرأي، رغم أن حزب «البعث» يضم نحو مليوني عضو بعثي، ورغم أن النظام يحتكر وسائل الإعلام كلها، ويهيمن على الإعلام الحزبي والخاص، والأرقام القياسية في الاستفتاءات؟
كاتب سوري

الراي الكويتية


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى