ابن الثمانين عاماً إذ يضعف نفسية الأمة…!!!
بدرالدين حسن قربي
سر الأسرار أن تعرف لماذا يعامل مواطننا معاملة المجرم والهارب من العدالة والقانون في كل مرة يعبّر فيها عن رأيه ويمارس فيها حريته في حدها الأدنى التي تبقيه في عداد الأحياء ولو في غرف العناية المشددة. ولماذا يخاف والينا وراعينا وقد مضى على نظامه عشرات السنين يرعى شؤون البلاد والعباد نظاماً وعدالة، وصلاحاً وتقوى، وهو ممسك بكل شؤون الدولة ومفاصلها، من كم كلمة يقولها رجل هرم قارب الثمانين من العمر وبات على أعتاب الآخرة يودّع، إلا أن في الأمر إنّ…!!!
أسئلة كثيرة تتداعى ولاتجد لها عند ساداتنا وكبرائنا ومقاومينا سوى جواب واحد من أن الأمة في معركة، وفي منازلة مع أعداء الله وأعدائها، ودعمُ الممانعة والمقاومة يستوجب إرجاء كل هذه الكماليات مما يتحدث عنه في الحريات والديمقراطيات، مما ليس له أولوية في ظروف الأمة الحالية.
نقول هذا الكلام بعد شهرين من اعتقال هيثم المالح المحامي الأبرز الذي وقف نفسه للدفاع عن قضايا معتقلي الرأي والفكر وبالتهمة المعتادة والجاهزة من نشر أنباء كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة، التي وجهت له وهو من هو استقامةً وكرامةً ودفاعاً عن الحريات والحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية، إثر بعض كلام قاله على فضائية سورية، كان من أهم ماقال فيه:
الوضع المأساوي للناس هو في كل جوانب الحياة، وليس فقط في جانب الحريات العامة وحقوق الإنسان، فالفقير يزداد فقراً، والغني يزداد تخمةً في دولة غنية، ابتُليت بالفساد ونهب المال العام. البلد تُدار بواسطة أوامر وبلاغات وتعليمات، وليس في سوريا أي شخص على رأسه مظلة تحميه من عَسْف السلطة وعدوان الأجهزة الأمنية، والقانون لا يُطبَّق إلا على الضعيف. القبضة الأمنية في سوريا تشتدّ من شهر إلى آخر، ومن سنة إلى أخرى، وأحوالنا هذا العام هي أسوأ من العام الماضي مع زيادة الاعتقالات. لاأحد ممن يتحرّك في سوريا يعتقد بالعنف أو الثورة طريقاً للتغيير، وإنما هي السلطة التي لديها إمكانيات ضخمة من جيش ومخابرات وشرطة وأسلحة ووسائل قمع، وتتمترس خلف قوانين خارجة عن أي مفهوم حقوقي أو مفهوم عدالة.
مشكلة محامينا ابن الثمانين، أنه مسكون بعشق وطن يتآكل، ويزوي بفعل قوى الاستبداد والفساد وحيتان التشبيح والنهب، فتدمي قلبه قضاياه، وتشغل باله وعقله فيه مسألة الحريات وحقوق الإنسان التي باتت تسري في عروقه ودمه كما تسري المخدرات في عروق المدمنين ولا يجد منها فكاكاً رغم شيخوخته كما عبّر عن ذلك هو نفسه.
مشكلة هذا الشيخ الحقوقي عهده على نفسه وربه وأمام ناسه ومواطنيه بعد أن قضى ماقضى سجناً في سبيل حريته والتعبير عن رأيه أن لايبقى سجين في سجنٍ سُجن فيه لرأيه أو فكره. وهو من أجل ذلك نذر نفسه دفاعاً عن حقوق المواطن واحترام إنسانيته، بنشر ثقافة حقوق الإنسان ومنع التعذيب.
مشكلة هيثم المالح الإنسان كما عبر عنها هو نفسه في مرافعته أمام المحكمة منذ أيام أنه يعشق الحرية ويرفض الاستبداد، ويعشق الحق ويكره الباطل ويدين الظلم، وأنه متمسك بمقولته بانعدام سيادة القانون ويطالب بسيادته.
إشكالية هذا الرجل الثمانيني أنه شباب بعزمه، لم تنل منه المحن والفتن ولم تفت في عضده المضايقات والسجون بل ندب حياته نخوةً ومروءةً وشهامة للدفاع بكلمته وقلمه عن حقه وحق أبناء وطنه في حياةٍ حرةٍ كريمةٍ ترفض فواحش الاستبداد وعهر الفساد وحيتان الشفط وهوامير النهب.
إشكالية هذا الإنسان أنه يتوكل متطوعاً عن سجناء الرأي والفكر أمام المحاكم دون مقابل، بله أنه ينفق ويدفع من جيبه عوناً لموكليه، وإن لم يجد مايحملهم فإنه يبيع مما يملك لينفق عليهم. إشكاليته أنه بكل تاريخه وكفاحه وكده لم يعد يمتلك سوى شقة يسكنها وسيارة سكرابة يركبها. وعليه نعرف من أي الأصناف والنوعية هذا الرجل النادر وغير المرغوب الذي يعتبر نوعاً من العكننة والنكد على الفاسدين والنهابين.
إشكالية هذا القاضي، أنه حورب في لقمة عيشة وعمله، واعتدي على مكتبه مراراً وتكراراً تكسيراً لنوافذه وإلقاء لروث الحيوانات عليه وأشياء أخرى، ومازال يكدح أمام موكليه مرافعةً عن حقوقهم، ورداً لمظالمهم.
إشكالية هذا العجوز الكبير الكبرى هي دعاؤه الدائم لربه العزيز الجبار المقتدر أن يمنحه القوة والعزم وهو ابن الثمانين حتى يكمل مسيرته وسيرته دونما وهنٍ أو ضعف في الدفاع عن حقوق المواطن واحترام إنسانيته. ومن ثمّ فإن إشـكالية الشباب معتقليه وهم في منازلاتهم أن هذا معناه استمراره بنشاطه الحقوقي والإنساني في توهين الأمة وتضعيف نفسيتها أمام أعدائها، وإشكالية القباضيات سـجانيه وهم في معاركهم نفاد قدرتهم على تحمل التوهين والتضعيف الذي يمارسه وهو يفي بما نذر إليه نفسه، ماضٍ إلى غايته يعرف الدرب والهدف.
كثيرة هي مشكلات هذا المالح وإشكالياته، ولكن مما لاشك فيه أن للحق وللحرية في بلادنا وأزماننا رجال يرفعون بنبلهم ونخوتهم وشهامتهم الهامات، ويمسكون بشموخهم وإبائهم وعزهم الرايات، ويضيئون بنور قلوبهم وعَزَماتهم الساحات. فلئن كان المجاهد عمر المختار أحد هؤلاء ممن انتدب نفسه للدفاع عن أرضه وعرضه أمام الطليان، وقاد المقاومة سرايا وكتائب ضد المحتلين، يساق إلى منصة الإعدام وهو ابن السبعين ليحصد عدوه من بعده الخزي والهوان، فماذا يمكن أن يحصد من يحصد من محاكمة عُمَرنا ومختارنا هيثم المالح ابن الثمانين الذي وهب حياته للدفاع عن حرية مواطنه وحقوقه بالكلمة، إذ يختطف بالقوة من أمام مكتبه على طريقة العصابات كما قال عن ذلك هو نفسه، ليساق إلى محكمة عسكرية محكومة بقوانين طوارئية تحكم البلاد والعباد استثناءً منذ قرابة نصف قرن وتهمته تضعيف نفسية الأمة وتوهينها لأنه يريد لمواطنه حريةً وكرامةً بسيادة القانون وقيام العدالة.
وبمناسبة الحديث عن محامينا المالح، فإننا نقدر لاتحاد المحامين العرب اجتماعه البارحة في دمشق تحت شعار تحرير الجولان وكافة الأراضي العربية المحتلة مسؤولية عربية، وإطلاقه الدعوات للدفاع عن قضايا الأمة. وإنما كنّا نتمنى على المجتمعين وقد أصبحت سوريا كما قال أحد الحضور بقيادة الرئيس بشار ودعمها للمقاومة وثقافة المقاومة قبلة رجال القانون وأحرارا العالم ، أن يتذكروا حرية مواطنيهم وكراماتهم وحقوقهم الإنسانية المهدورة لأن العمل لها في ميدانهم والدفاع عنها مسؤوليتهم الأولى، كما للجندي والمقاتل مسؤوليته في ميدان القتال، وأن يتذكروا أنهم مجتمعون في مكان ليس بعيد عن معتقل زميلهم وشيخ الحقوقيين هيثم المالح وغيره من رجال ونساء سوريا المعتقلين لنشاطاتهم الحقوقية والمدنية، وفي بلد محكوم بقوانين الطرأ والطوارئ منذ عشرات السنين، ونؤكد بأنهم مالم يتحملوا همّ الدفاع عن حرية مواطنهم والعمل لاحترام إنسانيته وتلك مهمتهم ورسالتهم، فإن الناس في شك من شعاراتهم وخطاباتهم ومحاضراتهم.
قد يكون ماقاله المالح لايعدل شيئاً ولا حتى عشر معشار ماقاله ويقوله آخرون في بلد آخر مثل مصر على صفحات الجرائد وفي الإذاعات والفضائيات والمظاهرات. فلماذا المالح من دون الناس يوخذ ويؤاخذ إذاً…!!؟ وإنما إذا علمنا أن محظورات بلدان الممانعة والمقاومة وضروراتها استبداداً وفساداً وامتهاناً وطقوساُ، وأن أنفلونزا ممانعينها ومقاوميها والعياذ بالله هي الحريات ودولة القانون والعدالة، وأن الحريات وحقوق الإنسان والدفاع عنها هي عشق المالح ومن معه، فلسوف نعلم يقيناً أننا في حال صعبة، وإنما بالأمل نحيا، وبالعمل الدؤوب نصل وإن متأخرين.
خاص – صفحات سورية –