صفحات مختارة

ألف فتوى وفتوى لفؤاد مطر: أهي “ديموقراطية” الإستبداد أم إستبداد التخلف؟

جوزف باسيل
قد يكون صعباً أن تحوط كتاباً من أربعمئة وخمس وسبعين صفحة (“ألف فتوى وفتوى” لفؤاد مطر عن الدار العربية للعلوم ناشرون) في موضوع شيّق وشائك يقارب موضة العصر وهي الفتاوى والفتاوى المضادة، بعدما فلت غارب المُفتين، فلم يعد هؤلاء مفتين، بل صار أي شيخ أو شويخ تحت أي خيمة، أو “دكتور” يفتي، وأحياناً في ما يعلم أو لا يعلم ايضاً.
كتاب قراءته روائية فيها طرائف وأخبار ومُلح، تسلي وتغضب وتستفز، منها تاريخي وواقعي ومنها افتراضي. حتى صار الافتاء من أهم المهن وأكثرها دراً للأموال. وبعدما كان الافتاء يقتصر على مراكز دينية أو مرجعيات محددة، وكان من يفتي يخاف “غضب الله” اذا خالفت فتواه النص أو السنّة أو الائمة المعترف بفتاويهم واجتهاداتهم أو المرجعيات المتلزمة، أو حتى المنطق، صرنا نسمع فتوى في كل صغيرة وكبيرة، ليست خارج كل تلك الحدود، بل خارج المنطق والسياق التاريخي، وقد تبلغ أحياناً حدّ الغرابة أو التفاهة!
لكن من الجيد أن تخضع الفتاوى للرأي والرأي المضاد، مما يعزز حرية المناقشة ضمن حدود الشريعة، فينتج ما سمّاه فؤاد مطر “ديموقراطية الفتاوى”! علماً اننا مع ان تبقى موضوعات الافتاء محصورة في من يحملون لقب “المفتي” أو في هيئات دينية مشهود لها، كالأزهر في مصر ودور الافتاء في الدول السنية أو في المراجع العليا لدى الشيعة.
“بيزنس” الافتاء
هذا الموضوع دفع بالسعودية الى عقد مؤتمر دولي للمفتين في رعاية الملك عبدالله بن عبد العزيز لوضع أسس لـ”بيزنس” الافتاء بعدما صار عملاً مزدهراً على الفضائيات والاذاعات يدرّ أموالاً طائلة. وحدد المؤتمر صفات المفتي ووضع آلية وضوابط للحد من فوضى الفتاوى العشوائية. أهم ما نصت عليه مقررات المؤتمر “التحوط البالغ في الحكم بتكفير أحد من المسلمين… والحذر من الفتاوى الضالة المضلة التي تدعو الناس الى سفك الدماء المعصومة بغير حق”.
وأصدر المؤتمر الذي اجتمع فيه 170 فقيهاً وعالماً اسلامياً لمدة أربعة أيام، 15 توصية للانظمة السياسية ووسائل الاعلام والمسلمين. ولفتني تحديد وزير الاوقاف والارشاد في السودان سابقاً الداعية عصام البشير، صفات المفتي ولو عموماً، بقوله “هو الذي يفتي بعلم يعصمه من الجهل وبورع يعصمه من الهوى وباعتدال يعصمه من أن يكون فريسة الوقوع بين طرفي الافراط أو التفريط أو الطغيان”.
كذلك لفتتني ثلاثة اسماء يرددها مطر، تتميز فتاويها بـ”سعة أفق” إذ تواكب العصر مستندة الى النص، فتثير حفيظة المتزمتين وتلقى ارتياحاً لدى الناس، وهي المرجع اللبناني الشيعي محمد حسين فضل الله وشيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي والزعيم الروحي لطائفة “الانصار” في السودان الإمام الصادق المهدي، وخصوصاً لجهة انصافهم المرأة.
الحقيقة ان المرء يستغرب، إذ يرى الى ظروف هذه الأمة التي تتعرض لأقساها في تاريخها، حيث تتربع الصهيونية في فلسطين منذ ستين سنة والاحتلال الاميركي للعراق، وهي لا تقل خطورة عن اجتياح المغول والتتار لبغداد ثم العثمانيين للمنطقة، والاجتياح الصليبي للساحل الشرقي للبحر الابيض المتوسط، وعلى رغم ذلك تجد مرجعيات هذه الأمة الدينية والسياسية تتلهى بقشور الدين وتتمسك بأذياله، وتبحث في فتاوى بعضها الدين منه براء وبعضها الآخر ينافي العقل وتطور الحياة. أليس التلهي بهذه القشور مؤامرة صهيونية تهدف الى شلّ العقل ومنع التفكير وتجويف الدين وهدم القومية؟ هذه الاجواء تذكّرنا بمحنة القسطنطينية يوم كان الاعداء يدكّون أسوارها، وأساقفتها وحكامها يتجادلون ويتقاتلون حول نوع الملائكة.
فتوى انفلونزا الخنازير للتشفي
في كتابه “ألف فتوى وفتوى! مسلمون في مهب فوضى الفتاوى” على مدى أربع سنوات ازدهرت فيها صناعة الفتاوى فدرّت الملايين على أصحابها ومحطات ابرازها، يجمع فؤاد مطر معظم الفتاوى التي أثيرت المناقشة فيها أو أثارت ضجة أو ردود فعل، فصارت أمراً مقلقاً، وخصوصاً لدى الاجيال الطالعة، أو الاجيال الأمية السابقة التي لا يساعدها وعيها وثقافتها وعلمها في تمييز الغث من السمين في هذه الفتاوى.
لكنه عن حسن نية وقع في الخطأ الذي ارتكبته السلطات المصرية – عن سوء نية – بأنها تذرعت بما يسمّى “انفلونزا الخنازير” والذي لا علاقة لتسميته بالخنازير، فلا هو يصيبها ولا تنتقل عدواه منها الى الانسان، كي تمارس الاضطهاد والطغيان على مواطنيها من الاقباط فتعمد الى القضاء على مزارع الخنازير التي يملكونها بتشفٍّ عنصري وحقد طائفي لا مثيل لهما في أي دولة. وأغفل مطر “فتوى” منظمة “الفاو” التي اصدرتها عقب اعلان مصر نيتها هذه، مستغربة هذا القرار وهازئة به وبمنفذيه، وموضحة ان الوباء لا علاقة له بالخنازير وليست هي سببه. وهل من يجرؤ على القول انها ليست عملية انتقام ذات خلفية طائفية مغرقة في التخلف. أرجو أن يلفت مطر الى هذا الامر والى بيان “الفاو” في طبعات لاحقة.
فتاوى غريبة عجيبة
يستحيل عرض مجمل الفتاوى الواردة في الكتاب، لكني سأتوقف عند بعضها وخصوصاً التي أثارت ردود فعل دينية واجتماعية أو التي أثارت العجب أو الهزء:
– فتوى ارضاع المرأة زميلها في العمل (5 رضعات) كي تصبح محرمة عليه، أصدرها عزت عطية رئيس قسم الحديث في كلية اصول الدين في جامعة القاهرة. ونوردها بنصها نظراً الى طرافتها وخطورتها اجتماعياً “ان ارضاع الكبير يكون خمس رضعات وهو يبيح الخلوة ولا يحرّم الزواج، وان المرأة في العمل يمكنها أن تخلع الحجاب أو تكشف شعرها أمام من أرضعته، لكن يجب توثيق هذا الارضاع كتابة ورسمياً، ويكتب في العقد ان فلانة أرضعت فلاناً”. هكذا تتحول المكاتب الى حاضنات للإرضاع. ولا مجال لمزيد لئلا ندخل في سفاهة هذه الفتوى. لكن من جملة الردود عليها، ان عطية سئل إن كان يقبل تطبيق هذه الفتوى على “حريمه”!
– فتوى التبرك ببول الرسول!
– فتوى بعدم جواز تصوير مشاهد الزواج والطلاق على الشاشة، رد عليه الفنانون بأنه “ارهاب فكري”.
– رفض حفلات اعياد الميلاد والزواج والمناسبات الخاصة. ورفض بعض التسميات للابناء والبنات.
– فتوى ان الربا سبب اساسي للأزمة المالية العالمية!
– فتوى اعتبرت دعوةً الى قتل مالكي بعض الفضائيات العربية (صالح اللحيدان) وأخرى بمعاقبة مقدمّي الابراج في الفضائيات “بالقتل بواسطة السيف”! (صالح الفوزان) وفتوى بتحريم المسلسلات المدبلجة لأنها “تحارب الله ورسوله” (عبد العزيز آل الشيخ).
وثمة فتاوى سياسية منها:
1- مفتي القدس عكرمة صبري يفتي بأن التخلي عن حق العودة محرم شرعاً، كذلك أخذ تعويض عن الارض.
2- فتوى رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوسف القرضاوي، وصاحب البرنامج الديني “الشريعة والحياة” الذي تبثه فضائية “الجزيرة”، حول “الغزو الشيعي للبلاد السنيّة” و”التبشير” فيها. ورد عليه التسخيري الايراني نائبه في الاتحاد.
3- خسر الحجاب في أندونيسيا وهو أكبر بلد مسلم، المبارزة السياسية على الانتخابات الرئاسية حين حاول المرشح الى الرئاسة استغلال حجاب زوجته وزوجة نائبه في مواجهة الرئيس الحالي، لكنه خسر وظهر الرئيس الى جانب زوجته الحاسرة الرأس.
4- فتاوى الانتخابات في لبنان.
فتاوى تخرج على التقاليد
نستخلص ان لا شيء يمنع شرعياً من:
– ان تفتي المرأة او ان تكون مأذونة، وفي التاريخ شواهد.
– ان تكون قاضية شرعية، وفي غزة عيّنت اسمهان وخلود للنظر في قضايا الاحوال الشخصية وابرام عقود الزواج.
– قيادة المرأة السعودية (حيث الخطر فيها فقط) السيارة، وممارسة الرياضة. بعد فتوى بتحريم النوادي الرياضية النسائية (عبد الرحمن البرّاك) وتحريم السينما. وكان التلفزيون محرماً سابقا!
– سمح القرضاوي بمصافحة الرجل للمرأة لأسباب شخصية – ما هو اساس منعها؟ – فاذا كانت ممنوعة لأسباب دينية، فكيف يسمح بها لاسباب شخصية؟ بشرطين: ان تكون هناك ضرورة، وحال امنت الفتنة. وضرب مثلا لفتواه زيارته قريته واهله.
موضوع التقارب والحجاب من الموضوعات الموسمية التي تثار موسما بعد آخر، بأسماء جديدة والعنوان واحد: مع او ضد، وهو يثار عالميا وفي الاعلام، وعلى رغم ان أسسه النصية ليست متينة، فانه صار عنوانا سياسيا لمواجهة الغرب، كما اعتبر في فرنسا رمزا دينيا هدفه التمايز.
ان شيخ الازهر محمد سيد طنطاوي طلب من فتاة صغيرة تدرس في الازهر نزع نقابها، لأنه ليس من الدين. واخيرا صدر في الصحف ان “جماعة اهل السنة” الصومالية المسلحة المتزمتة دينيا، تمنع النساء من لبس النقاب لأسباب ظرفية، هي ان انتحاريين تنكروا بزي فتيات. فاذا كان النقاب من صلب الدين، فكيف تستطيع اي جهة منعه؟
ثمة فتاوى متعلقة بالحياة الاجتماعية وشؤون المرأة والرجل، وبحقوق الفرد المسلم، فضلا عن امور متصلة بالمال والاعمال، بحيث يستطيع المسلم ان يعرف ما هو حاصل في عالم الفتاوى الجدية “وما هو متخم في دهاليز فوضى فتاوى تروّج لها الفضائيات ويتسبب ترويجها بما يوسع رقعة الصدمات الناشئة عن فتاوى بعض رجال الدين الى درجة تجعل المسلم او المسلمة يطرح بينه وبين نفسه تساؤلات من نوع: هل هذا طبيعي؟ وهل الدين الاسلامي مهتم بهذه الامور غير المنطقية؟”.
ويتحدث عن نساء مسلمات توصلن الى مراكز اساسية في الغرب على رغم انهن محجبات، ومنهن: داليا مجاهد المصرية في البيت الابيض، فرح بانديت الكشميرية في الخارجية الاميركية، سعاد عايدين المغربية واعظة للعسكريين الهولنديين المسلمين، اسماء عبد الحميد انتخبت عضوا رديفاً في المجلس البلدي لمدينة اودينسي الدانماركية، رشيدة داتي المغربية الاصل وزيرة للعدل في فرنسا، صارت عضوا في البرلمان الاوروبي، ثم عيّن ساركوزي نورا براح الجزائرية الاصل وزيرة دولة لشؤون المتقدمين في السن وذلك على رغم توجه فرنسا الى منع البرقع، وماهينو اوزديمير التركية الاصل انتخبت في البرلمان البلجيكي عن “الحزب الديموقراطي المسيحي”، وقارن بين قسمها اليمين وقد غطت رأسها، فيما منعت النائبة التركية مروى قاوقجي من اداء اليمين في برلمان بلادها عام 1999 بسبب ارتدائها الحجاب.
ويعرض مظاهر مختلفة تقرب بين المسيحية والاسلام، او بين السنة والشيعة او تظهر تسامحاً يليق بالديانات. كظاهرة الاب عفيف عسيران اللبناني الذي تحول مسيحياً في ستينات القرن الماضي ودخل الكهنوت وعاد الى موطنه في صيدا محتضَنا من اهلها السمحاء، مؤزراً لهم في محنهم.
ويلفت الى اهل مأدبا في الاردن الذين شيّدوا مسجدا سمّوه باسم “المسيح عيسى بن مريم” وزيّنوه بالآيات القرآنية عنهما، وذلك مبادرة منهم حيال المسيحيين الباقين فيها بعدما كانت مسيحية الطابع سابقا. وهي لفتة يشهد لهم فيها حفاظا على الاصالة العربية المشرقية الى اي دين انتمى اتباعها.
وفي لبنان يتشيع بعض السنة، ومنهم رئيسان سابقان للحكومة هما رياض الصلح وسليم الحص بسبب مسألة قطع البنات للميراث.
وثمة فتاوى تعبّر عن كراهية ومؤداها الفتنة وإن لبست لبوس الحرص على الدين، كفتوى السعودي عبدالله عبد الرحمن السعد بتحريم بيع العقارات من الشيعة، التي تصدى لها الناشط الحقوقي السعودي مخلف بن دهام الشمري، عارضا بيع بيته من شيعي.
اللافت ان مطر اورد نحو 85 صفحة بعنوان نماذج من المحلل والمحرم في الفتاوى الخمينية والسيستانية، تتناول شؤونا حياتية.
فتاوى مسيحية ويهودية!
جمع مطر فتاوى – كما سمّاها – من الديانتين المسيحية واليهودية، لا يخلو بعضها من الطرافة، فأشار الى فتوى للبابا شنودة بتحريم اكل لحم الخنزير مسايرةً للمسلمين، مما اثار ردودا عليه من الاقباط في مصر. وخالف شنوده فتوى اسلامية تعتبر الفائدة المصرفية “ربا”، معتبرا انها ربح يناله المودع بعد تشغيل المصرف لأمواله.
ويلتقي مع الفاتيكان والاسلام على رفض الاجهاض واعتباره عملية قتل، لكنه تميز بتحريم الاقباط من زيارة القدس.
وتتميز الفتاوى اليهودية بالطرافة، وتتفوق على بعض الاسلامية، فتظهر عنصرية وحقدا لم يخفف منهما التاريخ ولا الوجود في دولة متحضرة، فها هو الحاخام مانيس فريدمان الذي يعيش في اميركا يقول ردا على سؤال كيف يجب ان يتعامل اليهود مع جيرانهم العرب؟: “الطريقة الوحيدة لخوض حرب اخلاقية هي الطريقة اليهودية: دمروا اماكنهم المقدسة. اقتلوا الرجال والنساء والاطفال والمواشي. انا لا اؤمن بالاخلاقيات الغربية ان نحيا حسب قيم التوراة سيجعل منا نورا فوق رؤوس الامم المهزومة بسبب اخلاقيات فاسدة اخترعها الانسان”. الا يجب ان يحاكم هذا الحاخام بتهمة العنصرية؟
ووصلت الفتوى السياسية ولا سيما الانتخابية الى اليهود حيث افتى الحاخام عوفاديا يوسيف – صاحب الفتاوى المثيرة للجدال – بأن كل من يصوت لحركته “سيدخله الرب المرتبة الخامسة من جنة عدن”! ناسبا فتواه الى انها “رأي التوراة”، ثم افتى بـ”تكفير” افيغدور ليبرمان زعيم حزب “اسرائيل بيتنا”، فقال: “ان من يصوت لهذا الحزب يعترف ان ما بعده اثم، ولن يحظى برحمة خالق، وذلك لأن ليبرمان علماني يأكل لحم الخنزير ويشجع الزواج من غير اليهود ويكسر كل المحرمات”.
ويرفض الحاخام ياوفي عمار ان تؤبن الابنة والدها المتوفى، لأن “صوت المرأة عورة، وان كلام المرأة عن الميت لا يجوز طبقا للشريعة اليهودية”، وذلك لأن “الشيطان يرقص عندما تنوجد المرأة في القبور، لأن جسدها نجس ولا يجوز وجوده في القبر الا ميتا”. عجباً كم تلتقي هذه المفاهيم بالاسلامية مثيلتها.
تلمس خليل احمد خليل في مقدمة الكتاب اشكالية معاصرة مطروحة في العالم الاسلامي كله، وقد تذر بقرنها في الغرب، وهي عدم الفصل بين الديني والدنيوي في المجتمعات الاسلامية، وتالياً انتفاء فكرة المواطن حتى في مفاهيم الدولة. وإن وردت في الدساتير والقوانين ففي ذهن ارباب السلطة ثمة رعايا يحكمونها، بأي طريقة كانت، ومنها الاستناد الى فتاوى تخدم السلطات، وليس مواطنين يجب ان يخضعوا للقوانين المدنية إن وجدت وجلّها دساتير تعتمد على التشريع الاسلامي او توائم بينه وبين التشريعات المدنية.
ومن يمنع رجل الدين من الافتاء في ما لا علاقه له، اي الشؤون السياسية والوطنية؟ وهل يمتنع؟ واذا لم يمتنع، فكيف السبيل الى ردعه؟ وهو غالبا ما يفتي بما يرضي السلطات، الا اذا قصد الى اثارة البلبلة والتحريض على السلطة، فهو عندئذ يدّعي الدعوة الى سبل الله والى الدين الصحيح! متغافلا عن ان دعوته تهدف الى الاستيلاء على الحكم ويجب ان تخضع لما يخضع له كل انقلاب على الحكم.
السفير

هل تعكس كثرة الفتاوى مستوى الأزمة؟
مراجعة: ريتا فرج
لم يشهد التاريخ الإسلامي الحديث، تداخلاً كثيفاً بين الديني والسياسي، الإقتصادي والاجتماعي، مثل الذي يمر به في المرحلة الراهنة؛ فالعلائق الجامعة لكل هذه المعطيات وغيرها، في وقت يتجه فيه العالم المعاصر نحو التعولم على قاعدة جذب الثقافات الممانعة الأخرى نحو المركز، وما ينتج عنها من إيديولوجيات قاتلة وحروب كامنة بين رجال الدين والساسة، تشي بوجود أزمة تعيشها البيئات القلقة ومن ضمنها المجتمعات الدينية التي لا تجد جواباً لهمومها الحياتية، فتلجأ لرؤساء الإفتاء علَّها تلقى حلولاً لمعضلاتها المزمنة. غير أن مركزية الدين ورجالاته في ديار الإسلام المترامية على وقع الحالة المتشظية للعقل الجمعي، تخولهم بناء إمبراطوريات يتراكم فيها كم خيالي من الفتاوى، قد تبدو لبعضهم كأسطورة ألف ليلة وليلة، لما تحويه من تعدد يقدم جزء منه الحلول المنطقية لتساؤلات المسلمين.
السلطة، المرأة، الجنس، الفن، الغزو الشيعي، البورصة، تعدد الزوجات، الإمامة، العمليات الإستشهادية، الاستنساخ البشري، حق الزوجة في الهجر والإمتناع؛ هذه المحاور وغيرها الكثير، شكلت عملاً تأسيسياً وموسوعياً ربما يكون الأول من نوعه، لكتاب “ألف فتوى وفتوى”، التي تنوعت فصوله بتنوع الفتاوى، سعى من خلالها فؤاد مطر الصحافي والكاتب السياسي الذي كرس جهده الفكري لقضايا تختلف بكليتها عن مؤلفه النوعي، الى رصدّ مسألة الإفتاء وفوضاها المتجددة، معتمداً على المنهج التوثيقي والمقارن، مستخدماً آلية النسج الفكري المتقن، كمن يُحيك سجادة بأرق الخيوط. إن الإشكاليات التي يمكن الانطلاق منها للكشف عن فحوى الطروحات المقدمة في هذا الكتاب، يمكن تحديدها على النحو الآتي: ما هي المسببات التي أسبغت هذا الطابع المتنافر والمتناقض للفتاوى الصادرة عن بعض رجال الدين في الإسلام؟ وهل من الضروري وضع الضوابط للفوضى التي تعتري مشهدية الفتاوى؟ ومن هي الجهات الدينية المخولة بهذه المهمة الشائكة؟ وفي حال وجدت، ألا يتنافى ذلك مع رفض الإسلام للمؤسسة الكهنوتية القائمة على تراتبية هرمية كما هو الحال في المسيحية مثلاً؟ لا ريب أن الأسلوب الحذر الذي عالج فيه الكاتب هذه التساؤلات الإشكالية، سمح له بتصنيفها تبعاً للموضوعات التي قام بدرسها، دون أن يتخطى حدود المحلَّل المسموح به، بمعنى أنه قارع فوضى الإفتاء وقام بدراستها دون الخروج بنقده عن قدسية الفتاوى نفسها.
في كتابه يصنف مطر الموضوعات التي إجترحها رجال دين متعددو الانتماءات المذهبية والدوغمائية، بطريقة تبدو كأنها حلول نهائية لتساؤلات المسلمين حول مجالهم الديني وما يتضمنه من معايير سوسيولوجية، ورؤيتهم للعالم الأرحب المحيط بهم على قاعدة يجوز أو لا يجوز، أو بتعبير أدق هل هذا محلَّل وذاك مُحرَّم؟ لكن الوجه الجديد الذي يمكن إستنباطه من هذا الكم المتنوع لتخريجات بعض المفتين، الاندهاش والغرابة التي ينصدم بها القارئ حين يسمع مثلاً بفتوى أصدرها الدكتور عزت عطية رئيس قسم الحديث في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر تُجيز إرضاع إمرأة لزميلها في العمل خمس رضعات منعاً للخلوة المحرَّمة؛ وثانية أفتى بها رجل الدين المغربي الشيخ محمد المغراوي تبيح الزواج من فتاة في التاسعة من عمرها، وثالثة خرج بها الشيخ يوسف القرضاوي تسمح التبرع بالاموال ومكاسب الفساد لصالح المجاهدين في فلسطين.
إن تشعب مشارب الافتاء وتنوعها، يستدركها القارئ في هذا الكتاب الموسوعي منذ اللحظة الأولى، ويشعر حين يغوص في معانيها، حدة الأزمة التي تعاني منها الجماعات الدينية ومن بينها المسلمين، سواء لجهة البحث عن غطاء شرعي يبيح بعض المحظورات التي إستجدت عليهم وفرضتها حركية الواقع، مما خفف من وطأة الحداثة الوافدة، أم لجهة الصدام الحداثوي الذي أنتج بدوره آراءا وأفكارا ترفض التعاطي مع الجديد وتنبذه مخافة إختراق المقدس أو الجدار الذي ابتناه علماء الدين في الإسلام مع إختلاف عمائمهم ورتبهم الفقهية؛ ونتساءل ما معنى هذه الفوضى العارمة للفتاوى؟ وهل يعبر ذلك عن إنعكاس لفوضى المجتمع والسلطة؟ طبعاً السياقات التي تطرق اليها الكاتب تعكس الوضع المأزوم الذي يعيشه بعض الإسلام مع ذاته ومع محيطه، بما تضمنته، من فتوى وفتوى مضادة، تحمل في طياتها معانٍ خطيرة، لا تمثل إلاّ رداً درامياً على تأثيرات الواقع المضطرب والقلق الذي تحياه الأمة الإسلامية، فإنحازت الى الجواب الديني لتأمين حماية مؤقتة؛ فبدل المراهنة على العلم الذي لا يتنافى أبداً مع الدين على حد تعبير باسكال، تستشرف مستقبلها من فتاوى الأئمة، من دون أن يتغافل ذلك عن وجود رجال الدين المتنورين والمعتدلين الذين يسعون لتجاوز الازمة.
عبر منظار النقد الخفي صاغ مطر ما أسماه ” فوضى الفتاوى”، بأسلوبه الروائي، مفنداً تشعبات الظاهرة، مستدركاً مخاطرها على الإسلام والمسلمين، وهو في أطروحته التي اتسعت لتنوع هائل للفتاوى غُب الطلب، قام بتوثيقها وتصنيفها وتحليل بعض جوانبها، ولكنه لم يتطرق الى العوامل التاريخية والمعاصرة التي أفضت الى هذه الحالة وأوقعت طالبي الفتوى في مهبها، ولم يحدد المؤشرات الكامنة لتفاقمها، ولو استدرك هذا الجانب لجاء كتابه أكثر شمولية، ولكنها في جميع الأحوال خطوة جريئة ولّدت مؤلفاً تأسيسياً لا مجال لإنكاره.

[ الكتاب: ألف فتوى وفتوى؛ في مهب فوضى الفتاوى
[ الكاتب: فؤاد مطر
[ الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى، 2009
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى