الجدار المصري!
أمجد ناصر
انقسمت بيروت في الحرب الأهلية قسمين: شرقية وغربية. في الشرقية كانت السيطرة للقوى ‘الانعزالية’، فيما تسيطر ‘القوى الوطنية’ على الغربية. دينياً كانت الشرقية مسيحية بالكامل، فيما كانت هناك أغلبية مسلمة في الغربية مع وجود عدد ملحوظ من المسيحيين. لم يكن الانقسام، على هذا النحو، في سائر انحاء لبنان، فمن المستحيل فصل القرى والبلدات المتداخلة، بعضها ببعض، على أساس ديني. كما أن الحرب، في نظر الطرف الأقوى والأكثر سيطرة على الوضع اللبناني (المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية) لم تكن طائفية. لم تكن دينية. فعلى رأس اثنتين من المنظمات الفلسطينية كان هناك قائدان يتحدران من عائلات مسيحية هما جورج حبش ونايف حواتمة، فضلا عن وجود قادة من خلفيات مسيحية في الحركة الوطنية اللبنانية أبرزهم جورج حاوي.
انقسمت بيروت الى قسمين. كان هناك فاصل بين البيروتين يسمى ‘خط التماس’. لكنه كان فاصلا وهميا. منطقة مهجورة بين شطري المدينة. لم يقم أحد ببناء جدار. لم يفكر أحد، أصلا، بوضع فاصل من هذا النوع. كان المواطنون يتحركون بين الشطرين من خلال معابر. لم تكن الحركة طبيعية تماما. غير أن الحركة ظلت موجودة حتى اثناء الحصار الاسرائيلي. كان هناك بعض الخجل حتى عند الذين يرغبون بالفصل والانعزال التامين.
‘ ‘ ‘
الجدار فكرة عنصرية. تقوم على وضع حد وفاصل. مرة بين الحضارة والبربرية ومرة باسم الدفاع عن النفس. سور الصين العظيم أنشئ لوضع حد لهجمات قبائل الهون البدوية التركية. تعاقب أباطرة على بنائه. لكنه لم يقض على التهديدات التي كانت تأتيهم من السهوب الشمالية. 6700 ألف كلم لم تقم بالغرض المنوط بها. ها هو السور مجرد ذكرى. مجرد أثر معماري نفذه أكثر من 300 ألف عامل صيني لا أحد يعلم كم منهم قضى نحبه.
‘ ‘ ‘
هناك جدران عنصرية من الكونكريت وهناك جدران فصل عنصري وهمية. لم يلق أي جدار فصل في العالم استجابة طبيعية من الحيز المقام فيه. كان هناك دائما من يخترقه. من ينقبه شبرا شبرا. جدار برلين اشهر هذه الجدران في العصر الحديث. لم يحل، بالمطلق، دون الذين يغامرون باجتيازه. بعضهم كان يفلح وبعضهم كان يقضي نحبه عليه. في فلسطين هناك أكبر جدار فصل عنصري في العالم. لكن الجدار أحدث استجابات عديدة بين كارهي جدران العزل. وها هو اليوم يكاد أن يكون أكبر جدارية لمناهضة الفصل العنصري. فضلا عن انه لم يمنع المقاتلين الفلسطينيين من القيام بعملياتهم وراءه.
ليس مستبعداً أن تكون فكرة فصل أحياء بغداد، بعضها عن بعض، اسرائيلية. فكرة ‘العزل’ يهودية الطابع. إنها، بوعي أو من دون وعي، ابنة ‘الاصطفاء’ و’الاختيار’ (شعب الله المختار)، كما انها ابنة ‘الغيتو’ الأوروبي الذي عاش فيه اليهود طويلا. لكن السني والشيعي في العراق لا يملكان فكرة ‘لاهوتية’ ولا إيديولوجية كهذه. لم يعيشا في ‘معازل’ فاصلة. لذلك لن يكتب لجدران بغداد الحياة. هناك مناهضة لها من الطرفين. هناك، أيضاً، من استفاد مما حلَّ بالجدار الاسرائيلي الذي يمزق أرض الفلسطينيين وحياتهم. فقد رأيت على شاشة التلفزيون رسامين عراقيين يحولون جدران الفصل في بغداد الى جدارية لفضاء أوسع. الرسم على الجدار هو، في نحو أو آخر، هدم له.
‘ ‘ ‘
أغرب جدارن العزل، الآن، هو الجدار المصري على حدود قطاع غزة. لم يقم الجدار حتى الساعة ولكن الأخبار تفيد أنه قيد البحث وربما العمل. لا أظن أن هناك غرضا ايديولوجيا من وراء هذا الجدار. لا أعتقد أن لدى المصريين فكرة عنصرية تجاه الفلسطينيين. فهو لن يكون جدارا يفصل بين الحضارة والبربرية ولا جدارا يعزل الأخيار عن الأشرار. إنه جدار سياسي، أمني، وقد يكون مجرد فزاعة لدفع ‘حماس’، القابضة على أعناق مليون ونصف مليون من الفلسطينيين، إلى إبداء مرونة أكثر حيال مبادرات القاهرة المنسقة اسرائيليا وأمريكياً. لمزيد من دبِّ الرعب في أوصال الحركة الاسلامية سمي الجدار فولاذيا. جدران العزل مشيدة، حتى الآن، من الحجر او الكونكريت. لكننا لم نسمع بجدار فولاذي. فهذه التسمية، التي لا أعلم من أطلقها، تنطوي على دلالة تفيد المنعة والاستحالة. فإذا كان الآخرون يقيمون جدراناً حجرية أو اسمنتية فنحن سنقيم جدارا فولاذياً! أي جداراً غير قابل للإختراق. ولكن هيهات. فنحن نعلم أن كل فعل يخلق رد فعل مناسبا له. فالحجر هناك من يفتته. والأسلاك الشائكة هناك من يقطعها. ولا بدَّ أن يكون للفولاذ من يذيبه. أو ينقب تحته. ثمة متاهة من الأنفاق، كما تفيد التقارير، تتمدد تحت خط الحدود الحالي. مع جدار ‘فولاذي’ ربما ستزداد هذه الأنفاق. ومثلما هو الأمر في البراكين التي تبحث عن خاصرة رخوة في الأرض فتنفذ منها قد يحدث الجدار ‘الفولاذي’ شيئاً كهذا عند شعب محاصر ليس لديه ما يخسره.
القدس العربي