لبنان والتوجّه السوري الجديد
منى فياض
في الندوة التي أقامها مركز عصام فارس في بيروت حول القرار 1559 في أواخر العام 2008، خلص الباحث السياسي بول سالم إلى أن التوجه السوري لم يعد تجاه لبنان، كما كان سابقا،ً بعدما لم يعد النظام السوري مهووساً بلبنان وبضرورة البقاء والوجود فيه، ولم يعد لديه رغبة قوية بالعودة إلى لبنان.
لكن إذا كانت العودة السورية فيزيائيا إلى لبنان لم تعد واردة، فلأسباب لا تتعلق بعدم الرغبة السورية تحديداً، ذلك أن التطورات الأخيرة تدعم وجود هذه الرغبة، وعدم القدرة على التخلص منها، إن في العودة، أو في التأثير على الأحداث والسياسات اللبنانية. فزيارة الرئيس الحريري الى دمشق، التي يمكن تشبيهها بالتراجيديا الإغريقية، أعادت كل هواجس وتفاعلات المرحلة الماضية الى السطح. وسوف تكون امتحاناً قاسياً لجمهور الحريري بالذات، ولجمهور 14 آذار الأوسع من أجل القبول بنوع من استعادة نفوذ ما.
وكان لافتاً وصف العلاقات بين المجتمعين بأنها «شخصية»، في الوقت نفسه الذي جاء فيه أنه تم التركيز في هذه الزيارة على العلاقات المستقبلية، وتفعيل المؤسسات بين البلدين وترسيم الحدود. وربما يوحي ذلك بأن المرحلة الجديدة سوف تؤسس لعلاقات يتم التأكيد على أنها ستكون بناءة وإيجابية وتسهم بتفعيل عمل المؤسسات بين البلدين بعد أن تتم تصفية الأجواء على المستوى الشخصي بين الرئيس السوري ورئيس الحكومة اللبناني على طريقتنا العربية التقليدية أي «عفا الله عما مضى».
لكن تصويب نمط العلاقة يظل رهناً بمدى قدرة الرأي العام اللبناني الذي شكّل جمهور انتفاضة 14 آذار، وما تبعها من نضالات، أن يظل فاعلاً ومتيقظاً لكي لا ينزلق سياسيوه مجدداً في استعادة النمط القديم من العلاقات التابعة والدونية، أو الاستقوائية ويخضعهم للمساءلة والمحاسبة الدائمتين.
وموضوع العلاقات اللبنانية السورية يعدّ من الموضوعات المستعادة التي تبحث عن إطار لحل متوازن، لكن النقاش المستجد حول القرار 1559 الذي تم تطبيق بندين اثنين منه من أصل البنود الأربعة: الانتخابات الرئاسية وانسحاب القوات غير اللبنانية (باستثناء الغجر وشبعا)، بينما يظل عالقا موضوع الميليشيات المسلحة، ونشر سلطة الدولة على الأراضي اللبنانية كافة، يطرح تساؤلات عدة.
ومن غير الواضح أسباب استعادة النقاش حول هذا القرار، والذي تزامن مع زيارة رئيس الجمهورية الى واشنطن، واستبق زيارة الحريري إلى دمشق، هل من أجل منع تدخل مجلس الأمن في العلاقات بين لبنان وسورية؟ وهذا مطلب يصعب تحقيقه، فجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة خاضعة لقراراتها و«منع هذا التدخل» غير خاضع لمزاج الدول. أم إن اثارته من أجل إرجاء إعادة طرح موضوح السلاح خارج المخيمات، بخاصة مع تصريح أحمد جبريل عن ضرورة نقل هذا الملف الى طاولة حوار، إسوة بسلاح حزب الله، أم لأمر آخر؟
وصحيح أنه طالما طرحت مسألة العلاقات بين لبنان وسورية منذ لحظة الاستقلال، بسبب عامل الجوار الجغرافي والتداخل التاريخي. لكن هذه المسألة تبدو موضوعاً ملحاً للبنان حالياً، لأنها تتعلق بتمتين سيادة الدولة واستقلالها، إلا أنها ليست مشكلة لبنانية سورية حصرية، والتعامل معها يقع في إطار إشكالية أعم تتعلق بعلاقات الدول العربية فيما بينها، لجهة ترسيخ مفهوم وواقع الدولة الوطنية وحدودها ومصالحها على مستوى العالم العربي. لذا، ومهما كانت الأسباب الكامنة خلف هذه النقاشات، فلا يمكن فصلها عن الإطار الأعم الذي يحدد وحده العلاقات والمصالحات بين الدول العربية.
ولقد سبق أن تم الربط بين صدور القرار 1559 وبين الخلاف الأميركي/ السوري الذي استجد حول الموضوع العراقي بعدما تم اجتياحه من قبل القوات الأميركية في العام 2003. وتظل هذه مسألة خلافية حتى الآن بين النظامين السوري والعراقي، من ضمن إشكالية العلاقات الحدودية والتدخلات السياسية والأمنية بين الدول العربية التي لم تنتظم بعد كما يجب، منذ تكوّن هذه الدول الوطنية في القرن الماضي. ومع وجود محاولة للقيام بتنظيم العلاقات التعددية بينها منذ مشروع الأربعينيات الذي قادته مصر والعراق وترجم ببروتوكول الاسكندرية في العام 1944 والذي تأسست بموجبه جامعة الدول العربية التي يترجم تعثرها تعثر العمل العربي المشترك واستمرار الصراعات والتشرذم العربيين بشكل دائم والمعبر عن نفسه بالمحاور والاستقطابات المتنقلة.
فالدولة الوطنية العربية تعاني الإشكاليات تقريباً: لنذكر مشكلة الحدود بين مصر وفلسطين في غزة، وبين اليمن حالياً.. والسعودية في إطار العنف المتبادل مع الحوثيين. وكانت حرب صدام حسين على الكويت، لأنه اعتبرها جزءا من العراق. من دون أن ننسى النزاع الحدودي بين الجزائر والمغرب والتوتر بين سورية والعراق.
إن الحديث عن «وطن عربي»، أو «عالم عربي»، يوحي بوجود نوع من وحدة عربية، أو بأن هناك شعبا عربيا واحدا موزعا على دول وطنية لاتزال تعتبر مصطنعة وطارئة. لكن لنسأل أنفسنا عن النزاع الأخير بين مصر والجزائر، بسبب كرة القدم، والذي أفلت أنواعاً من العنف والعنصرية غير متوقعة بين شعبين عربيين شقيقين، وكاد الأمر يتحول الى نوع من حرب اقتصادية ودبلوماسية حقيقية بينهما. وفيما يتعدى استغلال الأنظمة للأزمة وهروبها إلى الأمام من محاسبة جماهيرها لها على أدائها، أو غوغائية الجماهير، أوالتعصب العنصري، والانفلات الاعلامي، وأهمية الرياضة وما شابه.
لنسأل أنفسنا على ماذا يدل هذا النزاع؟ أليس على أن الشعوب العربية هي «شعوب عدة، وليست شعباً واحداً»!! وأنه على الرغم من وحدة اللغة والدين، فإنها تمتلك خصوصيات مناطقية وجغرافية وثقافية متعددة، وهي تغيرت واقعياً وصارت تشعر بالانتماء إلى دولها الوطنية قبل الانتماء الى وهم «الشعب العربي الواحد»؟ أولم يترافق وجود الجيش السوري في لبنان وانسحابه فيما بعد (مهما كانت وجهة نظرنا حول الموضوع) بتعميق الانتماء لدى المواطن السوري الى دولته ونظامه من جهة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللبناني من جهة ثانية؟
المشكلة أن الواقع والممارسة يتغيران قبل أن نعي ذلك على مستوى الأفكار والإيديولوجيا. على كل حال قد يكون الحل بالتسليم والقبول بوجود الدولة الوطنية العربية وبتدعيم حدودها ومصالحها المشروعة وخصوصياتها كخطوة أولى مساعدة للتوصل إلى إرساء تعاون حقيقي فيما بينها في إطار الجامعة العربية يمكنه أن يؤدي إلى نوع من اتحاد عربي متين ومنتج وفاعل، فلا نظل ننعى الجامعة العربية وحدود فعاليتها بانتظار الاجماع المعطل للحلول الممكنة. على كل حال تمثل تجربة مجلس التعاون الخليجي خطوة رائدة في هذا المجال، ربما يجب العمل على تصدير هذا الأنموذج وتقليده كخطوة أولى. وفي هذا ما يساعد لبنان وسورية.
أوان