ثورة مظفّرة على الفقراء

لؤي حسين

لئن صح تصوير الوضع القائم في سوريا اليوم بالقول إن الأمور «فلتانة»، فإن هذا الانفلات لزمام الأمور ليس سوى أمر طبيعي يحصل دائما مع كل ثورة في صبيحة قيامها. فغالبا ما تتشارك جميع الثورات في قاسم مشترك هو الفلتان، تظل الحال عليه إلى أن تستقر أوضاع سيطرتها السياسية والاقتصادية؛ فهي إذ تهدم البنى والقوانين البائدة تحتاج لبعض الوقت، حتما، كيما تصوغ قوانينها وتعيد بناء توازناتها الاجتماعية من جديد. وما يجري في سوريا اليوم من انفلات لزمام الأمور على الصعيد الاقتصادي والمعيشي والاجتماعي والتنموي والإداري ما هو إلا دليل جلي على قيام ثورة حقيقية بكل معنى الكلمة: ثورة على الفقراء (ليس المقصود بالفقراء الشعب لا صراحة ولا مداورة).

لا ينتقص من قوام هذه الثورة السورية الجديدة غياب الإعلان رقم واحد ولا إعلان حالة الطوارئ أو الاستنفار الأمني. فمثل هذه الإجراءات تقوم بها الثورات عادة خشية الثورة المضادة من قبل الذين أطاحتهم أو من أنصارهم، إلا أن ثورتـ«نا» ليست في هذا الوارد، فهي ثورة مقلوبة: يقوم بها المسيطرون على المسيطر عليهم المسلوبي القوى والتنظيم؛ فلا خوف عليها، خاصة أنها، كأغلب الثورات، ليست وليدة اللحظة بل تم التحضير لها وإنضاج ظروفها منذ بعض الوقت لتكون ثورة مظفّرة تعود فيها سيطرة الأغنياء الصريحة؛ وفعل العودة هنا لا يرجع للأغنياء بل للسيطرة، فالأغنياء المسيطرون الآن غير الأغنياء الذين أطيحوا على أيدي قادة ثورات «الكادحين وصغار الكسبة»، التي كان من بينها ثورة 8 آذار عام 1963 (بغض النظر عن تصنيفات تعتبرها مجرد حركة). فبواسطة هذه الثورات تمكّن فقراء سوريا من إطاحة الأغنياء وسلبوهم القوة والثروة والتنظيم والأيديولوجيا والإدارة والاقتصاد، وأعاد قادتهم تشكيل الدولة بما يتناسب مع تأمين عوامل بقائهم في السلطة وبما لا يخل بخطابهم وبوعودهم التي أطلقوها. وقد احتاج استقرار واستتباب الحال إلى انقلابات داخل دائرة السلطة، التي كان من شأنها، أيضا، فرض هيمنة أيديولوجيا الفقر ليتمكن قادة السلطة من كنز ثروات مكّنتهم، أو مكنت أبناءهم، من تحرير السوق مجددا، وذلك من دون أن يتمكن الفقراء من فرض سيادتهم على الدولة.

إن ما يجري الآن ليس ثورة مضادة (فقد انقضت فرصتها منذ عقود)، على الرغم من مشاركة بعض أبناء أغنياء الأمس بها، ممن وجدوا سبلا «عصرية» لإقامة تحالفات مع الماليين الجدد، بل إنه ثورة جديدة كل الجدة تقوم بها السلطة لإنهاء كل أشكال الصراع بين الأغنياء والفقراء، معتبرة أن أزمنة الصراعات الاجتماعية ما عاد لها وجود داخل البلاد السورية، ليقتصر الصراع فقط بين الوطن و«أعدائه» ممن يتآمرون لإسقاط السلطة. لهذا انعدمت الآن جميع المصطلحات التي تذكّر بالصراعات الاجتماعية، واستعيض عن الطبقات بمصطلح الوحدة الوطنية وعن الفقراء بمصطلح المواطنين وعن الأغنياء بالمستثمرين. وعمّت الأخوّة والوئام بين عموم الشعب السوري وما عاد يوجد تناقض بين مصالح الغني والفقير: فجميعهم مواطنون لهم ذات الحقوق، للغني كامل الحق بالغنى وللفقير كامل الحق بالفقر.

لم تكتف الدولة بالتخلي عن حماية الفقراء، ولم تكتف أيضا بتركهم منذ بضع سنوات لقمة سائغة بين أنياب الماليين ينهشون لحومهم بعد أن هبشوا ثرواتهم الوطنية، فقامت اليوم بسلبهم الدعم على المحروقات من دون تعويض أو تدبير لشؤونهم (كل التدابير التي اتخذتها الحكومة لا يمكنها أن تشكل أي تعويض مادي أو معنوي). وقد كان هذا الدعم بمثابة حصة الفقراء من الثروة الوطنية (توزع بشكل شبه مباشر) في مقابل نيل الحصة الأكبر بما لا يقاس لقلة من مسؤولي السلطة. على أن المرجح أن الموارد العامة قد نضبت ولم تعد تكفي الماليين المسيطرين، ما اضطر السلطة إلى سحب الدعم لتعويضهم خساراتهم، على الأقل من الناحية المعنوية، إذ ليس من العدل (حسبهم) أن يستفيد الفقراء من الدعم على المحروقات بمقدار الأغنياء. ليتسبب هذا الإجراء بجعل الفقراء السوريين في مهب الريح من دون حماية الدولة، فكأنهم مقيمون في هذا البلد وليسو أهله، يكسبون بقدر ما يعملون من دون أي تأمين أو ضمان.

فقراء سوريا الآن من دون دعم، هو من حقهم وليس هبة ولا مكرمة من السلطة، يملأهم الخوف من يومهم قبل غدهم، كاليتامى الذين فقدوا الأب المعيل، يشعرون أنهم فاقدو الرؤية والصواب، فاقدو الحامي والضامن، فاقدو القيادة والدليل، غير مصدقين بأن السلطة أطاحتهم بعد أن تخلت منذ بعض الوقت حتى عن أيديولوجيتهم. وهذا ما فعلته أيضا جهات وقوى سياسية وثقافية من خارج السلطة لطالما ادعت طوال عقود تمثيلها للفقراء (كل منهم يختار ما يناسبه من الفقراء: عمال، فلاحين، كادحين…)، لكنها تخلت عنهم الآن، أو على الأقل لم تعد تضع قضية الفقراء والقضايا الاجتماعية على سلم أولوياتها، واستبدلتها بقضايا أكثر عصرية: المواطنة والديموقراطية والحقوق السياسية…، معتبرة أن الاهتمام بالصراع الاجتماعي انتهت موضته ولم يعد يأتي أكله، خاصة بعد سقوط المنظومة الاشتراكية، التي كانت تهتم بهذا النوع من الصراعات، لم يعد يتوفر الاهتمام بقضايا الصراعات الاجتماعية، فالغرب بعد أن بقي وحده منتصرا برأسماليته وديموقراطيته لا تجذبه هذه الصراعات ولا يهتم بها وبالمشتغلين فيها. لهذا اضطر قادة السياسة عندنا إلى ملاقاته حيث يهتم بـ«الديموقراطية» وشعاراتها.

الفقراء السوريون اليوم (وغدا أيضا) من دون حد أدنى من الأمن الاجتماعي، ومن دون قادة أو قيادة، وحتى من دون أيديولوجيا تجمعهم وتكون صوتهم في مواجهة السلطة الغنية. وما عادوا يعرفون حلا لقضاياهم إلا من خلال الحل الفردي، الذي تكرس لديهم على أنه الحل الوحيد والصحيح، فأخذوا ينهشون أكتاف ومؤخرات بعضهم بعد أن أدركوا أن كل ما يقال عن تدارك الدولة لتبعات رفع أسعار المحروقات (المازوت بنسبة 257٪) أو عن تدابير تعد السلطات المختصة (الحكومة وفريقها الاقتصادي) أنها ستقوم باتخاذها لحماية «المواطنين»، كل ذلك ليس غير سفاسف لن تؤثر ولن تغير في مسار سقوطهم إلى الحضيض.

لن تتمكن السلطة من الوفاء بأي من وعودها التي تطلقها الآن في أتون ثورتها، ففي لحظة كهذه سيكون من الطبيعي أن تقول أي كلام بهدف تهدئة خواطر الناس، الذين لا يعرفون أن السلطة ملتزمة بتنفيذ توصيات صندوق النقد الدولي.

بعد إتمام ثورة السلطة الغنية على الفقراء وتكريس انتصار الأغنياء الصريح على الصعيد السياسي والسيادي «قد» تفرج السلطة عن الحقوق والحريات، لأن توافرها عند الناس لن يشكل بعدها أي تهديد أو قلق، و«قد» تطلق قانون أحزاب «عصريا» لن يتمكن من الاستفادة منه إلا الأغنياء «العصريون»، ليقتصر دور الفقراء فيه على بيع أصواتهم للأغنياء، أو ممارسة «حقهم» في الاختيار بين من يعدهم بفتات أكثر.

لهذا فإن واجب القوى والجهات والشخصيات الوطنية أن تعيد وضع الهم الاجتماعي في أعلى سلم أولوياتها، وتعود وتتبنى أيديولوجيا الفقراء (وليس الفقر)، ليس بقصد استقطاب الناس في مواجهة السلطة بل من باب تحمّل المسؤوليات التاريخية. وهذه الأيديولوجيا يجب ألا تكون انقلابية أو ثورية، وليس لها أي طابع عنفي أو انتقامي أو إلغائي، بعد أن تبين أنه في العصر الرأسمالي لا يمكن لطبقة أن تنهي أخرى. وغاية الطموح بين أيدينا الآن هي تحقيق أكبر قدر من العدالة في تقاسم الثروة الوطنية والفرص، تقوم على عدم القبول بالفقر أو التباهي به كما حصل أيام «أيديولوجيا التعتير» حيث كان يتم التباهي بالفقر وازدراء الغنى.

([) كاتب وناشر سوري