صفحات العالمما يحدث في لبنان

نادي الآباء المقتولين

دافيد شينكر
يوم السبت الماضي، سافر رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري إلى دمشق للإجتماع مع الرئيس السوري بشار الأسد، الرجل الذي يعتقد على نطاق واسع بأنه هو الذي أمر باغتيال والده رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. وكانت حادثة القتل عام 2005 قد أشعلت “ثورة الأرز”، حركة الإحتجاج الضخمة التي أدت إلى نهاية الإحتلال العسكري السوري للبنان الذي دام ثلاثين عاماً، وجلبت تحالف «14 آذار» الموالي للغرب إلى السلطة. وعلى الرغم من أن تحالف «14 آذار» قد انتصر مرة أخرى على المعارضة التي يقودها «حزب الله» والمدعومة من قبل إيران وسوريا في الانتخابات التي جرت في حزيران/يونيو الماضي، إلا أن حلفاء واشنطن في بيروت يواجهون الآن أزمة. وتمثل زيارة الحريري إلى دمشق عودة النفوذ السوري إلى لبنان، وربما، نهاية “ثورة الأرز”.
قبل ستة أشهر، كان يبدو أن تحالف «14 آذار» هو في موقف جيد. فقد نجح التحالف المستضعف في هزيمة «حزب الله» في الإنتخابات، وكان يبدو بأنه في وضع جيد لتشكيل حكومة. ولمكن عملية تشكيل الحكومة استغرقت عدة شهور صمدت خلالها المعارضة من أجل الحصول على تأثير كبير في مجلس الوزراء. وفي النهاية، عندما رأى الحريري أنه يواجه شبح قيام أعمال عنف من قبل «حزب الله»، فقد رضخ للضغوط واستجاب لمطالب المعارضة.
كانت التشكيلة الوزارية، التي تعطي «حزب الله» حق النقض على المبادرات الحكومية — بمثابة هزيمة سياسية للحريري. والأسوأ من ذلك، فبمواجهته ضغوطاً مستمرة من قبل «حزب الله» وحلفائه، اضطر الحريري إلى تقديم تنازل مشابه ومقيت في صياغة البيان الوزاري، الذي يوجه سياسة إدارته المقبلة. فبخلاف نص قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 – الذي ينص على “نزع سلاح جميع المجموعات المسلحة في لبنان” – اضطر الحريري إلى قبول صيغة توافقية تضفي الشرعية على أسلحة «حزب الله».
لكن هناك خطوة مضرة بصورة أكثر، فخلال عملية تشكيل الحكومة، أُرغم الحريري على قبول الشرط الذي يحتم عليه الذهاب إلى دمشق للقاء الرئيس الأسد.
لقد شكل «الحج إلى دمشق» منذ فترة طويلة شرطاً مسبقاً لكبار المسؤولين اللبنانيين الذين من المفترض أن يتسلموا وظائفهم. فخلال ثلاثين عاماً من الإحتلال السوري للبنان، كان السياسيون اللبنانيون – الذين عادة ما يعينهم نظام الأسد – يسافرون إلى دمشق لتلقي الأوامر وإثبات ولائهم للنظام السوري. وفي الآونة الأخيرة، ومنذ عام 2005 ونهاية الإحتلال السوري، يؤكّد مشهد الزيارة مجدداَ بصورة رمزية ديناميات العلاقات القائمة بين دمشق وبيروت.
قبل سنوات قليلة، كان من غير المتصور أن يجتمع سعد الحريري مع بشار الأسد. ففي عام 2005، اغتيل رفيق الحريري، والد سعد الحريري، في بيروت، ولا تزال سوريا – وحليفها «حزب الله» وفقاً لمجلة دير شبيغل – المتهمة الرئيسية في القضية. وعلاوة على ذلك، فخلال مقابلة أجراها بعد عامين من اغتيال والده، ادعى الحريري بأن دمشق، كانت مسؤولة عن اغتيال ستة من أعضاء البرلمان المنضوين تحت تحالفه «14 آذار». وقال: “إننا نعلم جميعاً بأن النظام السوري هو الذي يقوم بذلك”، وأضاف، “يجب اتخاذ إجراء ضد سوريا، كعزلها، لجعل السوريون يفهمون أن قتل أعضاء من البرلمان [اللبناني] ستكون له عواقب بالنسبة لهم”.
في عام 2005، قضت الأمم المتحدة بإنشاء محكمة دولية خاصة بلبنان لمحاكمة قتلة رفيق الحريري، وهي تعكف حالياً على إعداد لوائح اتهام. وبالنظر إلى الحساسيات التي تنطوي عليها، فإنه من الواضح أنه لو كان الأمر يتعلق بالحريري، لكان يفضل الإنتظار حتى إصدار لوائح الاتهام قبل أن يقوم بزيارته إلى دمشق. فليس لدى الحريري ميل كبير للإجتماع مع الأسد، الرجل الذي ُيفترض أنه كان قد أمر بقتل والده.
يقوم الحريري بزيارة دمشق مكرهاً. ففي تشرين الأول/أكتوبر المنصرم، سافر الداعم العربي الرئيسي لسعد الحريري، عاهل السعودية الملك عبد الله، إلى سوريا — وهو أول اجتماع من نوعه في دمشق منذ عام 2005 — وذكرت الأنباء بأنه قد توصل إلى اتفاق مع الرئيس الأسد للسماح بتشكيل حكومة لبنانية. وعلى الرغم من أنه قد تم قبول جميع مطالب سوريا وحلفائها في لبنان تقريباً والمتعلقة بتشكيل الوزارة اللبنانية — كما قال السفير السوري في واشنطن عماد مصطفى في الآونة الأخيرة مازحاً: “إنها بالضبط نوع الحكومة التي نعتقد أنها ينبغي أن تحكم لبنان” – إلا أن نظام الأسد أراد أن يقدَّم له تنازل إضافي آخر: قيام الحريري بزيارة دمشق. وقد وافقت السعودية على ذلك كتقدمة من أجل السلام.
ولكن الحريري ليس السياسي الوحيد فقط من تحالف «14 آذار» الذي سيحجّ إلى دمشق. فسوف يتبعه الزعيم الدرزي الغامض وليد جنبلاط. وقد كانت وجهات نظر جنبلاط المضادة لسوريا تتصدر عناوين الصحف بشكل روتيني في الفترة من 2005-2008. فعلى سبيل المثال، خلال كلمة ألقاها أمام معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى في عام 2007، حذر جنبلاط صناع السياسة الأمريكية من طبيعة نظام الأسد، حيث قال “يجب أن لا يُخدع أحد بأن آلة القتل [السورية] ستتوقف”. ونظراً لعدم وجود عقوبات فعالة ضد النظام السوري، عرض جنبلاط توصيته الخاصة لمسار العمل الفعال، وعبر عن رأيه قائلاً، “إذا كان بإمكانك أن ترسل بعض السيارات المفخخة إلى دمشق، لِمَ لا؟”
وخلال نفس الحديث في عام 2007، ناقش جنبلاط علاقته المأساوية والشخصية جداً مع نظام الأسد. حيث قال، “إني أعرف النظام السوري بشكل جيد ولديّ تجربة من التاريخ. فبعد كل شيء، كان والدي قد عارض التدخل السوري في لبنان، ولهذا السبب قُتل”. وبعد اغتيال كمال جنبلاط في عام 1977، اضطر وليد إلى إرضاء دمشق. كما قال في وقت لاحق: “عندما قتل والدي من قبل السوريين، كنت مضطراً للوصول إلى حل وسط يدعو إلى السخرية من أجل إصلاح [العلاقات] لأنني كنت بحاجة إلى حلفاء ولذلك، بطبيعة الحال، صافحت يد الأسد. أعرف أنه قتل والدي، لكنني حاولت أن أنسى ذلك لبعض الوقت”.
في أعقاب اغتيال الحريري عام 2005 واندلاع “ثورة الأرز”، اختلف جنبلاط مع دمشق. إلا أن جنبلاط — الذي أثبت على مدى عقود قدرة خارقة على توقع حدوث تحول في اتجاه الرياح السياسية — بدأ في الآونة الأخيرة ينأى بنفسه عن حلفائه في تحالف «14 آذار»، ويشير إلى رغبته في التقارب مع نظام الأسد.
وتتزامن استدارة جنبلاط نحو التقارب مع دمشق، مع عودة سوريا إلى لبنان والإنخفاض الملحوظ لإلتزام واشنطن تجاه تحالف «14 آذار». ويعكس تحول جنبلاط أيضاً اعترافه بموقف الدروز الذي يزداد هشاشة. فلا يزيد عدد أفراد الطائفة الدرزية عن 200.000 شخص في جميع أنحاء العالم. وعندما قامت الميليشيا الشيعية باجتياح بيروت في أيار/مايو 2008، كان الدروز الفصيل الوحيد الذي قاوم العدوان العسكري الذي قام به «حزب الله»، حيث حاربوا وقتلوا حوالي إثني عشر شخصاً من أعضاء ميليشيا «حزب الله» عندما كانوا يحاولون الدخول إلى جبال الشوف. لكن جبال الشوف اليوم محاطة بالقرى التي يسيطر عليها «حزب الله» الشيعي، ومن المرجح بأن جنبلاط يضع في حساباته بأنه من الضروري التقليل من حدة التوترات مع كل من الميليشيات الشيعية وسوريا لحماية طائفته.
وتحقيقاً لهذه الغاية، وفي أعقاب الانتخابات التي جرت في حزيران/يونيو الماضي، اجتمع جنبلاط مع زعيم «حزب الله» حسن نصر الله. وبدأ أيضاً يناقش علناً موضوع قيامه بزيارة محتملة إلى دمشق. وبالنسبة لجنبلاط، فالمسألة ليست ما إذا كان سيقوم بزيارة كهذه، ولكن متى سيقوم بها. إن حذره الوحيد هو أنه لن يكون الأول في اتخاذ هذه الخطوة. ولكي لا يعادي الطائفة السنية في لبنان (التي يتزعمها الحريري) على نحو غير ملائم، يقول جنبلاط أنه “سيزور سوريا فقط بعد قيام رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري بزيارته”.
وهكذا، فإن سعد الحريري ووليد جنبلاط زعيما “ثورة الأرز”، اللذان من المؤكد أن والديهما قد قتلا على يد سوريا، يقومان ببادرتي تحية لدمشق. وبالنسبة لجنبلاط، كان القرار عملياً. أما الحريري، فقد اتخذ القرار تحت ضغوط شديدة، ومحفوفة بانعكاسات سياسية. وسوف ينظر أنصار الحريري من السنة اللبنانيين إلى هذه الزيارة ليس فقط بأنها مذلة لهم، إلا أنها ستُفهم على الأرجح كتعبير عن قيام الحريري بإعفاء دمشق عن مسؤوليتها عن اغتيال والده، وهو تصور من الممكن أن يقوض الدعم [القائم] للمحكمة الدولية. وحاول الحريري التخفيف من الآثار السلبية [التي قد تنجم عن] زيارته لسوريا، لذلك قام بزيارة القاهرة والرياض قبل زيارته إلى دمشق، ولكن تلك الزيارات لن تخفف من حدة الأثر.
نظراً لقدرة المقاومة التي أثبتها النظام السوري، ربما كان مثل هذا التطور متوقعاً. فبعد كل شيء، وعلى الرغم من عدم حدوث أي تغيير ملموس في السلوك السوري، واستمرار تلك البلاد في انتهاك قرارات مجلس الأمن الدولي حول لبنان، تبذل أوروبا جهوداً كبيرة لتحسين علاقاتها مع دمشق. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2009، عرض الإتحاد الاوروبي على سوريا اتفاقية “الشراكة الاقتصادية”، بإزالة جميع بنود حقوق الإنسان بصورة أساسية من الإتفاق من أجل تلطيف شروط الصفقة لهذه الدولة السلطوية.
ويبدو أنه كان هناك تأثير أيضاً لزيادة الإنخراط الدبلوماسي والعسكري التي تقوم به واشنطن في دمشق، مما قلل من ثقة تحالف «14 آذار» بداعمه الأكثر تحمساً. ومع ذلك، ربما يبدو أن المواربة السعودية كانت العامل الرئيسي في قرار قيادة تحالف «14 آذار» بالعودة إلى دمشق. لقد كانت الرياض قوة رائدة في محاولة ثني دمشق من لعب دورها التقليدي الخبيث في لبنان. ومع ذلك، يبدو في الآونة الأخيرة بأن السعودية قدمت تنازلات حول لبنان من أجل تحسين علاقاتها مع سوريا.
وليس من الواضح تماماً لماذا قامت الرياض بعقد صفقة مع دمشق، ولكن يبدو أن القرار جاء نتيجة المخاوف بشأن إيران. وللتخفيف من حدة التهديد الذي تشكله إيران، تحاول المملكة العربية السعودية إبعاد سوريا عن حليفتها الاستراتيجية خلال الـ 30 عاماً الأخيرة، وكانت “الدفعة” التي أعطتها السعودية “مقدماً” في هذه المناورة الطائشة هي حلفاؤها اللبنانيون. ويتعلق هذا التغيير الجذري في سياستها تجاه سوريا، على الأقل جزئياً، بتصوّرها بأن موقف الولايات المتحدة تجاه إيران بات أضعف من قبل. وبغياب الثقة السعودية بأن واشنطن ستمنع إيران من أن تصبح نووية، فإن الرياض تحتاط للمستقبل.
بالنسبة إلى واشنطن ولتحالف «14 آذار»، بطبيعة الحال، لا يشكل التحول السعودي والزيارات الوشيكة التي سيقوم بها قادة كبار للتحالف إلى دمشق خبراً جيداً. وببساطة، يدل ذلك أن لدى سوريا باتت تملك فرصة جديدة للتأثير على الوضع الداخلي في لبنان. وللأسف، فإن هذا التحالف المؤيد للغرب، والذي جاء إلى السلطة على صرخة الحفاظ على “استقلال” لبنان، يبدو أنه قد دار دورة كاملة. وبالفعل يتدفق السياسيون من تحالف «14 آذار» إلى دمشق لكي يقربوا أنفسهم من الرئيس الأسد، كما أن الرئيس اللبناني بدأ يصبح زائراً روتينياً للعاصمة السورية. إن المأساة المستمرة في لبنان يمكن أن تنتهي في الأيام المقبلة، عندما يعقد نادي الآباء المقتولين اجتماعه المقبل في دمشق.
ديفيد شينكر هو زميل أقدم ومدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى