كليشــــيه
عباس بيضون
عشر سنوات تقاس بالعدد ولا نجد لها قياساً على شيء آخر، لن نستطيع الاستمرار في الفصل بين الثقافي من ناحية والسياسي الاجتماعي والتكنولوجي العلمي من ناحية اخرى. لن نستطيع من المحل ذاته الاستمرار في الفصل بين الثقافي والأدبي فنقول مجدداً ان حالنا في الثقافة غير حالنا في السياسة والاجتماع والتكنولوجيا والعلم ونقول مجدداً ان حالنا في الأدب غير حالنا في الثقافة، مشروعنا السياسي لا يزال هو التحريري التحديثي الاستبدادي او التوليتاري هكذا كان المشروع الناصري وعلى هذا جرت كاريكاتوراته وعلى رأسها الكاريكاتور الصدامي. مشروع بسماركي عاش حلماً قصيراً ذهبياً قبل ان يتحول الى مسخرة وزاد انحداراً بتقادم الزمن اذ تحول إنجيل التحرير الى جملة حروب أهلية، مع ذلك فإننا لا نستطيع ان نتكلم بطريقة اخرى عن مسارنا الثقافي.
هناك بالتأكيد مفكرون رغم إننا لم ننتج فيلسوفا واحداً والأرجح انهم يتكلمون في فراغ، مما يجعل من الفكر نفسه عملاً مأسوياً، هناك أدباء وهناك فنانون. ليسوا أفضل نهاية. هناك أفراد يتكلمون في فراغ اذ ان الزمن لا يؤثر كثيراً في ذلك. لا يعني العام الجديد ولا العقد الجديد جديداً حقاً. هناك انتكاسات حتى بالمعنى الكمي وتراجعات الى الخلف، الاشياء تذهب وتزول والناس يذهبون ويزولون بدون ان يؤسسوا شيئا. ثمة دائماً البدء من جديد او استئناف البدء على حد وضاح شرارة. لكن هناك ايضا ومن الناحية الاخرى مراوحات في المطرح ذاته وركود مستأنف دائماً، وهناك في الوقت ذاته تهاوي وتبدد ما بدا وكأنه يبنى على شيء او يؤسس شيئاً. لا زال طه حسين على سبيل المثال في الذاكرة. انه هنا ليذّكر احياناً بأنه لم يستكمل وربما لم يتخط ولا زالت اطروحته في المأزق نفسه.
انقطع بالتأكيد حبل في الفكر السياسي او انبت ما بدا في يوم حبلاً والأرجح اننا لم نبتعد كثيراً عن الأوائل في هذا المجال. ثم اننا ننتبه فوراً الى ان ما بدا موجة في الكتابة المسرحية قد اختفى منذ وقت ولسنا متأكدين الآن إذا كنا نملك فعلاً مسرحاً. لا نبالغ في تقدير شيوخ الموسيقى الراحلين لكننا لا نعرف اليوم إذا كان هناك بعد موسيقى. نعرف ان ثمة تجارب لكنها تجارب احادية، اقتراح واحد وبسيط في الساحة وهو نفسه يراوح. تقاعد فجأة شعر التفعيلة واظن ان قصيدة النثر قد لا تنحو من نهاية مماثلة وليس السبب استنفاذ شكل ولا إيقاع، السبب هو نفسه. العجز عن التأسيس الفعلي والعجز عن التراكم والعجز عن الاستمرار. السبب هو نفسه وبلغة اخرى، نجد هنا وهناك تجارب وأفراداً لكن الصعب هو إنشاء سياقات. سياقات من الفكر مثلها مثل تلك السياقات المفتقدة في السياسة والاجتماع. ليس العجز عن بناء الدولة ابن ساعته ولا هو بسبب عثرات جانبية، انه بنيوي انطولوجي، إذا راجعنا على سبيل المثال ما يقوله قادة مصر عن هزيمة الـ67 كما قدمها تلفزيون الجزيرة نفهم اننا في درجة الصفر من هذا البناء، وان ما يحصل ليس سوى ارتجالات بائسة بل ما يحدث هو كل شيء الا الدولة. هذا ما كان مشروعنا الدولتي التحديثي العسكري الأول وقد بدا بعد الكشف عنه مجرد صبيانيات، لن يكون الأمر مختلفا تماما في نطاق الثقافة وفي نطاق الفكر وحتى في نطاق الإبداع.
انها تجارب مفردة وانهم لأفراد ونحن غالبا ما نؤثر الكلام عنها وعنهم. السؤال هل يمكن ان يبقى هذا التفرد دون سقف، الا يتأثر بدون ان ندري ويدري بالسقف الذي لكل محاولاتنا، لشروط الانتاج الثقافي والسياسي والاجتماعي اذا كانت صناعة المجتمع وصناعة الدولة وصناعة العسكرية وصناعة الاقتصاد هي في الدرجة الصفر او ما يساويها فلماذا ننتظر من الأفراد، ولماذا ننتظر من الإبداع الأدبي والفني، ولماذا ننتظر من الفكر ولو كان لافراد قلائل ان يخرج عن هذه الشروط، لماذا ننتظر منه ان يتنزه عن الارتجال والخبط والكسل والمحدودية التي هي سقف كل ممارستنا، أليس علينا ان نتوقف عن تمجيد أفرادنا المبدعين وان نراهم ايضا في ضوء ظروف قد لا تساعد على انتاج ذي ديمومة وفعالية.
ثم لماذا لا نتوقف عن الكلام عن أفراد فيما نعلم ان هؤلاء يتكلمون في فراغ وانهم لا يلقون اصغاء حقيقيا من أي نوع، وانهم في الغالب يستغرقون في العزلة بقدر ما نستغرقهم فرديتهم واستقلالهم. لماذا لا نتكلم عن الأغلب الأعم، عما يستمر ويتواصل ويتقاطع ويسمع ويلقى جواباً. أليس هذا هو ما يشكل، على نحو ما، حياتنا السائرة. أليس هو ما يشكل بالفعل اجتماعنا وثقافتنا وخطاباتنا من أي نوع. لندع «الأفراد» لحالهم، قد يكونون طفاوات لا نعرف كيف نشأت، وربما تعلقت علينا من تجارب لا يمكن إعادتها. ماذا في الأعم الأغلب، ماذا في السائد، هنا لا يكاد السياسي يتباين عن الثقافي، هنا لا يختلف الاجتماعي عن الفني والفكري والنظري. إذا تأملنا هنا وجدنا ان عشر سنين او مئة سنة ليست سوى أعداد، أن الجديد وهم وان نصوصا أصلية او مرجعية نشأت في يوم ولا نعرف متى كان، لكن نعرف ان ثمة أولية للأشياء للخطابات من كل نوع. أوليات للخطاب السياسي، للخطاب التحديثي، للخطاب الإصلاحي، للخطاب القومي للخطاب الديموقراطي. هناك أوليات لا نعرف متى نشأت ويصعب ردها الى واحد او اثنين، بل يصعب ردها أي أفراد فحسب. اذ يغلب على الظن انها نشأت من مخاض تقاطعت فيه ركاكة المثقفين مع انشاء المدارس (بما هي عليه الأمس واليوم) مع دوران الصحف (بما هي عليه الأمس واليوم) مع دوران الميديا التلفزيونية وغير التلفزيونية، مع الأحزاب والاتجاهات، مع ترجمة مبسطة وسطحية للعصر وتحولاته منذ الثورة الفرنسية حتى القضية الفلسطينية، مع نزعات ونعرات تترجم نفسها بصياغات مموهة، مع مفاهيم موروثة او رمانطيقية، مع ادقاع متزايد حتى بالقياس الى الماضي. كل هذا اغلب الظن قاد الى إنشاء نماذج اولى. غدت بطريقة او بأخرى أصولا، ودارت دوران الحقائق التي لا يأتيها الباطل والبداهات والمسلمات التي لا تحتاج الى دليل. هذه النماذج التي يتم انتاجها جميعاً بالمنطق نفسه والآليات ذاتها هي التي باتت سقف الكلام، وما الكلام من بعدها سوى تبسيط واستعادة. هكذا ينشأ الكليشيه من كل نوع كليشيه التحديث، وكليشيه التحرير وكليشيه التحرير وكليشيه الاستقلال وكليشيه الديموقراطية. كليشيهات على كليشيهات مما يدعو الى السؤال إذا كان الجديد هو تقريباً التراجع ام التآكل أم الركود.
السفير الثقافي