صفحات مختارة

الإسلاميون والديمقراطية… الائتلاف والاختلاف

د. عمّار علي حسن
لا تصلح الأجوبة المباشرة والبسيطة والسهلة لإسعافنا في الرد الكافي والشافي على أسئلة من قبيل: هل ينسجم الإسلام مع العلمانية أو الديمقراطية؟لأن هذه التساؤلات لا تبدو بطبيعتها من متاع الروح اللطيف، بل هي من رواسب التاريخ الغليظ، أي أنها مستغرقة في علاقات القوة، وتوازناتها الآنية والبعيدة، وفي الصراعات الاجتماعية التي تتفاعل في مجتمعاتنا، وفي عنف صدام القوى المادية التي تتحرك في حياتنا وحولنا بلا هوادة.
وانبثاقاً من هذا التصور الكلي والنظري توزع المجيبون على سؤال من قبيل: هل يمكن بناء تيار إسلامي ديمقراطي؟، إلى فريقين، الأول يؤكد استحالة ذلك، بدعوى أن هناك أسباباً هيكلية كامنة في بنية الخطاب الديني والسياسي للجماعات السياسية ذات الإسناد الديني، تجعلها، بحكم طبيعتها العقدية، عاجزة عن الانفتاح الكامل على قيم الديمقراطية. أما الثاني فيرى أن ذلك ممكن، إذ لا توجد، في نظره، معوقات نظرية أو عقدية تحول دون اندماج التيارات الإسلامية السلمية في عملية التطور الديمقراطي، والفيصل الأساسي هنا هو مدى تمتع البيئة الاجتماعية والسياسية المحيطة بهذه التيارات بالديمقراطية.
وهنا يجب أن نفرق بين “الصراطي والتاريخي” في الإسلام، فالأول يؤكد أنه لا شيء في تعاليم الإسلام وعقائده يشير إلى إمكانية انسجامه مع الاستبداد والفساد، والثاني يقول بوضوح إن المسلمين قد انسجموا أو توافقوا بسرعة مذهلة مع مختلف النظم. وفي حقيقة الأمر، وحسب كتاب “نحو تيار إسلامي ديمقراطي” الذي حرره الدكتور عمرو الشوبكي، فإنه لا يوجد خطاب ديني معادٍ بحكم طبيعته للديمقراطية، أو غير قادر، لأسباب بنائية، على التحول في اتجاه تبني الديمقراطية والتعددية الحزبية، والنضال السلمي، حتى لو ظلت هناك قوى هامشية ترفض الديمقراطية، وتمارس العنف، ستكون في ذلك مثلها مثل قوى يمينية أو يسارية هامشية ومتطرفة، واقعة خارج قيم التوافق العام في المجتمعات الديمقراطية بأوروبا.
إن الحديث عن مشكلة بنائية، تباعد بين الإسلام والديمقراطية، وتقربه في الوقت نفسه من العنف، هو محض افتراء على هذا الدين، الذي يجعل من “التفكير ضرورة”، ويترك الباب واسعاً أمام الاجتهاد، ويجعل وزر المظلوم الساكت على الظلم مثل وزر الظالم، ولا يجعل طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ويجعل العبودية لله، وليست للبشر، ويجعل من الإنسان خليفة لله في الأرض، فليس لأحد أن يستعبده أبداً، وليس من حق أحد أن يغل يده إلا بحق.
كما أن مفهوم السياسة في الإسلام، يحيلها إلى الرشد، ويضفي عليها طابعاً أخلاقياً، بحيث لا تصبح “فن الممكن” أو “لعبة قذرة”، كما هو معتاد في القراءة الميكافيللية للسياسة، بل تبقى دوماً هي استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل.. وتدبير المعاش مع العموم على سنن العدل والاستقامة.
إن ما ران على حالنا من تكلس ليس لعيب بنائي في الإسلام لكنه تقاعس من قبل المسلمين أنفسهم، الذين ارتضوا أن يدفنوا رؤوسهم في بطون بعض الكتب الصفراء، وأضفوا قداسة لا شعورية على بشر أمثالهم من الفقهاء الأوائل، واكتفوا بما جادوا به وبعضه لا يصلح لزماننا هذا.
وقد حاول بعض المجددين إصلاح الخطاب الديني من داخله، وآخرون اعتقدوا في إمكانية أن يرشح عطاء الغرب الفكري والسياسي والاجتماعي على التصورات الدينية المصرية، فيحرر ما اتصل منها بالحركة والسلوك خارج طقوس التعبد وجواهر الاعتقاد من ربقة الماضي. ولكن أتباع الفريق الأول لم يتخلصوا بالكلية من تأثير بعض النصوص البشرية المتراكمة على هامش النص المؤسس، من خلال مسيرة التأويل والتفسير وتبرير الاستشهاد والإحالة.
أما أنصار الفريق الثاني فباعدوا في كثير من طروحاتهم بين المتاح والمفترض، أي بين ما يتبناه الناس وما يفرضه النهوض بواقع الحال والأفكار. وهذا حوّل مشاريع هذا الفريق إلى “آراء نخبوية”، لم تخرج كثيراً من قمقمها، وأصيب أصحابها مع الأيام بنوبات من الاكتئاب والانسحاب جراء الشعور بعدم الجدوى، أو الخوف من اتهامهم بالمروق والفسوق إن لم يكن “الكفر الصريح”.
وتسود بين هذين الفريقين لغة من النبذ والتجاهل، بما يرمي بهما في فلك صراع يشتد أواره أحياناً ويخفت أحياناً ولكنه لا ينتهي أبداً، بدلا من أن يحدث النقيض، وينشأ نوع من “التكامل” أو “التنسيق” تحت راية “التسامح” وتقبل “الآخر” والإيمان بضرورة “الحوار” حتى بين الأضداد. فمن شأن هذا التنسيق أن يفتح ثغرة في هذا الجدار الأصم، الذي يحول دوماً، دون تجديد الأفكار الدينية أولا، ثم تجذيرها في الذهنية والنفسية الشعبية ثانياً، بحيث تكتسب “شرعية اجتماعية” تجعل المنافحين بها والمدافعين عنها في مأمن من رميهم بالفسوق، وهي التهم التي طالما بذرت خوفاً في قلوب كثير من المصلحين، فانطووا على ما في قرائحهم، والتزموا الصمت، خاصة أن التشريعات والقوانين السائدة، فيها من المواد والبنود ما يضع هؤلاء في موضع المساءلة، ناهيك عن المؤسسات الدينية الإسلامية التي تمارس نوعاً من الرقابة على ما ينتج من أفكار، وتجد دوماً من الناس أكثرية تسمع لها، مهما كانت آراؤها، حيال بعض القضايا، قد جانبها الصواب، وتجد من السلطة دعماً، في أغلب الأحوال، لأن الأخيرة تستمد جزءاً كبيراً من شرعيتها من ادعاء الاهتمام بالدين والعمل على نصرته.
وفي كل الأحوال فإن الإسلام في نصه المؤسس وهو القرآن الكريم كرس مبادئ ناصعة للعدل السياسي والحرية الإنسانية، لكن الذين جعلوا من “التدين” مجرد أيديولوجيا قدموا رؤى وتجارب مشوهة، غلب عليها الاستبداد وجنحت إلى العنف، الأمر الذي جعل كثيرين يسيئون تقييم علاقة الإسلام بالحريات العامة، خالطين بين الدين الإسلامي في استقامته وبين أشكال التدين، التي طالما حولت تأويلات النصوص الإسلامية الأساسية إلى رؤى ظلمت الحرية، فظلمت الإسلام في الوقت نفسه.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى