أكتب إليكم لأنّكم غرباء
أتعرفون لماذا أكتب إليكم؟ لأنّكم غرباء. غرباء لا أعرف أسماءكم ولا أرى وجوهكم ولا أسمع أصواتكم، ولست مضطرة إلى النظر في عيونكم ولا معرفة آرائكم وردود فعلكم.
أكتب إليكم كلّ شيء، ولا أخبّئ أمرًا، بلا خجل ولا وجل، كمن يفرغ نفسه من نفسه، كمن ينظّف بيتًا كان مهملاً لأعوام، كمن يطرد الغبار عن رفوف ذاكرته. أكتب لا كمن يخاطب صديقًا، ولا كمن يبوح أمام طبيب نفسيّ، ولا كمن تفيض بئر نفسه في لحظة غضب.
أكتب لأصبح أخفّ وزنًا، أكتب لأنّ الأصدقاء تعبوا من الاستماع، ولأنّ الأطباء النفسيين يأخذون أجرًا عاليًا.
أكتب لأنّ كلّ شيء يستحقّ الكتابة: حركة النملة على الأرض، رقص الشجرة عند الغروب، صباحات الأحد الساكنة والهادئة، رائحة الشواء عند الظهيرة، أنين المرضى في المستشفيات، نوبات الغضب والجنون، المطالبون بالحريّة والحقيقة وهم يخافون منهما، ألم المعدة عندما يعصرنا عصرًا، الرغبة في أن يمسك أحدهم يدك ليقول لك إن كلّ شيء سيسير نحو الأفضل، الخوف من الحرب في بلد لا هاجس لأبنائه إلاّ السهر والحرب، الأفكار التي تدور في الرأس بدءًا من العمل مرورًا بمشاهد سخيفة من الأفلام وصولاً إلى مأتم شاب.
كلّ شيء يستحقّ الكتابة. ليس بالضرورة لأنّه مهم، بل لأنّه عابر وهشّ ولا يمكن الإمساك به. ولذلك أكتب إليكم عنه، أنتم الغرباء الذين لا أريد أن ألتقي بكم لأنّي لا أعرف ماذا أقول لكم. لا أعرف كيف أدافع عن كلماتي أو كيف أشرحها أو أعلّق عليها. ومع ذلك فأنا لا أملك شيئًا آخر كأنّي فارغة إلاّ من الكلمات التي تهدر كشلالات جبالنا التي تذهب هدرًا إلى البحر ولا تجذب إلاّ المتفرّجين ولا يستفيد منها إلاّ بعض المزارعين.
أكتب إليكم لأنّكم غرباء لا تعرفون الناس الذين أكتب عنهم، ولا تعرفونني فلا تعنيكم إذاً المشاعر التي تنتابني والهواجس التي تتآكلني ولن تبحثوا عن وسيلة كي تخففوا عنّي. وأنا أيضاً لا أريد أن أعرف شيئاً عنكم، فالمعرفة التزام، وأنا أتعبتني الالتزامات التي أعطيتها صحّتي وعاطفتي.
فلتمتدّ المسافات بيننا، ولتصل كلماتي التي تحكي عنّي وعن الذين أعرفهم عبر الرمال والهواء ووسائل الاتصال الحديثة. وليبق الأمر هكذا.
لا أريد وجوهًا جديدة تنظر إلى حزني، ولا أريد أصواتًا جديدة تسدي إلي النصائح، وتصف لي مباهج الحياة. ولا أريد علاقات جديدة فيها انتظار وتوقّع وخيبات.
أحبّكم لأنّكم غرباء عابرون لا تعنيكم آلامي إلاّ بمقدار الوقت الذي تستغرقه القراءة. أحبّكم لأنّكم لا تتظاهرون بالاهتمام ولا تسعون إلى مدّ يد المساعدة. أحبّكم لأنّكم بعيدون فلا أنتظر منكم إلاّ وقتاً قليلاً للقراءة ولو من باب الفضول، لا تتعاطفون خلاله ولا تشفقون بعده ولا تتساءلون عمّا بعده.
اقرأوا وامضوا كما أقول كلمتي وأمضي. اقرأوا وتابعوا أعمالكم اليوميّة المعتادة، واضحكوا، وتمسّكوا بالحياة بأسنانكم ومارسوا هواياتكم فأنا لا أريد أن تغيّر الكتابة فيكم شيئًا ولا أن تضيف إلى ما عندكم. فكلّكم أكثر ثقافة منّي وأكثر علمًا منّي وأكثر بلاغة منّي وأكثر عمقًا منّي. أنا أريد من الكتابة أن تشفيني أنا، أن تسمح لي بالجلوس على قارعة الطريق في بلاد غريبة لأتحدّث عن نفسي كالمجانين أمام من لا يعرف لغتي ولا يعنيه أمر تشرّدي ولا يكترث لدموعي وابتساماتي.
أكتب لأشفى. لا لأعالج مسائل فلسفيّة أو لغويّة أو اجتماعيّة أو قوميّة أو وطنيّة. وكيف أفعل ذلك وأنا مشغولة حتى النفس الأخير بما تركه كلّ ذلك عليّ. فلم يعبر شيء إلى جانبي إلاّ وترك أثره عليّ. ولم أقرأ كلمة إلاّ وحفرت أحرفها في مكان ما من نفسي. ولم أسمع شيئًا إلاّ واستعدته ولو بعد زمن.
كلّ شيء عابر، ولكنّ كل هذه الأشياء تبدو كأنّها تلتصق بي وحدي كأنّ في جسمي مغناطيسًا يجذب كلّ ما يعبر أمامه، أو كأنّ في عقلي لاقطًا يتمسّك بأبسط الذبذبات. ولا أخلص منها كلّها إلاّ بالكتابة.
أيّة معاناة هذه؟ أن تكون الكتابة ملجأي وصليبي. أختبئ فيها مما أظنّ أنّني أهرب منه فإذا أنا مسمّرة عليه. وإكليل الشوك يدمي رأسي ويملأ عينيّ بالدم.
لأنّكم غرباء أخبركم ذلك. أفكاري مجرّد رسالة في قنينة ضائعة في محيط، مجرّد كلمات على حائط في مدينة تقاوم بالشعارات، مجرّد خربشات في دفاتر المراهقة التي لا تريد أن تنتهي. مجرّد صرخات في واد لا يقيم فيه إلاّ الصدى.
لا أريد أن أنقذ العالم، لا أطمح إلى البطولة، لا أريد أن أموت شهيدة ولا أن تتقطّع أوصالي. لا أريد أن يكتب التاريخ اسمي، ولا أريد أن أنال جوائز، ولا أريد أن يعرفني أحد. أريد أن أشفى.
لا أريد أن أمحو الأميّة، فقد علّمت أعداداً لا تحصى من التلاميذ ولا ثقة عندي بأنّهم صاروا أناسًا أفضل.
لا أريد أن أستمع إلى مآسي الآخرين لأنّ الذين استمعت إليهم تركوا لي مآسيهم وعبروا.
لا أريد أن أحرّر الوطن لأنّي أنا نفسي اعتدت العبوديّة والكآبة وأدمنت الأنين.
أكتب لكم لأنّ مشاكلي لا تعنيكم ولن تؤرق مضاجعكم ولن تسدّ قابليّتكم عن الأكل. فأنتم غرباء والأمور الأكثر أهميّة لم تحرّك فيكم عصبًا فهل سيعنيكم أنّ ثمّة امرأة تجترّ آلامها وأحزانها وكلماتها وتكتب عتها لترتاح.
لأنّكم غرباء لا أخجل من نقاط ضعفي ولا أبحث عن الكلمات في المعاجم لأبهركم ببلاغتي. ولا أخطّط ولا أرسم أهدافًا ولا أفكّر في قارئ معيّن.
أكتب لأنّي وبكلّ بساطة لا أعرف أن أفعل شيئاً آخر.
http://mariekossaifi.blogspot.com/2010/01/blog-post_02.html