صفحات ثقافية

عن المثقف المنحاز أو الحيادي أو المنزّه في الأزمات الكبري

null

بيروت تشتعل بالثقافة قبيل اشتعالها بالحرب كأن سباقاً خفياً يجري بينهما

بيروت ـ القدس العربي من ناظم السيد: نيسان يا أقسي الشهور . يقول إليوت في قصيدته الشهيرة الأرض الخراب . عبارة إليوت تجد ترجمة واقعية لها في لبنان. عام 1973 وقعت أحداث نيسان (ابريل) وأيار (مايو) بين منظمة التحرير الفلسطينية والقوي الوطنية من جهة وبين الجيش اللبناني من جهة أخري. كان مضي علي توقيع اتفاقية القاهرة التي تبيح للفدائيين العمل العسكري من لبنان أقل من أربع سنوات. كانت هذه الأحداث بروفة للحرب الأهلية التي اندلعت في 13 نيسان (أبريل) عام 1975. ثم جاءت عناقيد الغضب الإسرائيلية (عنوان رواية للأمريكي جون شتاينبك) في نيسان (ابريل) عام 1996.

سباق الأنشطة الثقافية

عام 2008 يستشعر اللبنانيون الخطر. ما إن يطل شهر نيسان (ابريل) حتي تنهض أنشطة واسعة مدنية وثقافية في ذكري اندلاع الحرب الأهلية. نشطاء مدنيون يسيرون تظاهرة ما بين كنيسة مار مخايل مروراً بالطيونة فبشارة الخوري وصولاً إلي الوسط التجاري، أي الخط الذي كان يُعرف بخط التماس الفاصل ما بين شطري العاصمة اللبنانية، الشرقي والغربي. رجال دين ومواطنون مسيحيون ومسلمون يصلون في كنيسة وسط البلد مبتهلين لتحقيق الوحدة الوطنية ودرء خطر الحرب المقبلة. منشّطو ثقافة يدفعون ببرامج أنشطتهم إلي الواجهة. كريستين طعمة تفتتح الدورة الرابعة من تظاهرة أشكال ألوان التي حملت عنوان أشغال داخلية ـ منتدي عن الممارسات الثقافية . شمل البرنامج (سبق أن قمنا بتغطيته) العديد من الأنشطة. غسان سلهب يعرض فيلمه بعد الموت الذي يتناول حرب تموز (يوليو) الأخيرة. ومثله فعل ماهر أبي سمرا في فيلمه مجرّد رائحة . جوانا حاجي توما وخليل جريج يعرضان فيلماً عن معتقل الخيام بعنوان عودة إلي الحاضر . ربيع مروة يقدّم للمرة الثانية لكم تمنت نانسي لو أن كل ما حدث لم يكن سوي كذبة نيسان ، مسرحيته التي نقد فيها الحرب الميليشياوية. زينة معاصري تعرض نحو 300 ملصق سياسي وحزبي مستمدة من الحرب الأهلية لمختلف الأحزاب والقوي السياسية والعسكرية. ملامح النزاع عنوان المعرض الذي اشتغلت عليه معاصري سيبدو راهناً كما يظهر من الأيام التي تلته. ندي صحناوي تقدّم تجهيزاً فنياً بالقرب من معرض معاصري (ستاركو، منطقة وادي أبو جميل أو الفنادق سابقاً) هو عبارة عن مئات مقاعد الحمّامات في إشارة إلي عيش اللبنانيين في الحمّامات أثناء اشتداد المعارك. هبة قوّاس تغني مع دادلي جانكي ترافقهما شعراً هدي النعماني وندي الحاج ورقصاً ميريللا في مسرح الأونسيكو. جليلة بكار والفاضل الجعايبي يعرضان مسرحيتهما خمسون وسط جمهور مكتظ في مسرح دوّار الشمس . بعدهما بأيام يحاضر نصر حامد أبو زيد عن الفن وخطاب التحريم في المسرح نفسه. لقمان سليم يقيم عبر أمم للتوثيق والأبحاث في حارة حريك، بولفار الغبيري، معرضاً بعنوان حلب قصدنا وهو عبارة عن محاورات بصرية من مخيم برج الشمالي. جمعية مقامات تنظم ما بين بيروت ورام الله مهرجان الرقص المعاصر . فرق من مختلف البلدان تزور بيروت وترقص. فرقة آلياس من البرازيل، الموجة السابعة للدانماركية ماري برولين، بالس للهولندية كريستينا دو شاتيل، بيج للإيطالية جوليا موريدو وغيرها الكثير. أيضاً كانت تانيا صالح تغني في مسرح بابل في الأيام الثلاثة الأولي من شهر أيار (مايو). وكذلك جواد الأسدي الذي حاضر عن المسرح العراقي قبل الغزو وبعده. بدت بيروت مشغولة بالثقافة أكثر من أي وقت مضي. بدا أن هذا الفعل الثقافي والمدني سيقف في وجه أي تطور دموي. بدا أن اللبنانيين أداروا ظهورهم للسياسة وللسياسيين. بدا أن الحرب لن تكون أكثر من لفظ. لكن الحرب وقعت أخيراً في 7 أيار (مايو). ما بدا فعلاً هو أن القوي المدنية بلا ثقل، بلا أثر، بلا قدرة، بلا اعتبار. لنقل إن هذه الفاعليات المدنية والثقافية بدت هشة ولو مؤقتاً.

بالكاد كانت جمعية شمس و مؤسسة المورد الثقافي تبدآن مهرجان الربيع الحافل بعروض الموسيقي والغناء والرقص والأدب حتي اندلعت المواجهات المسلحة. هكذا تم إلغاء عروض أمل كعوش (فلسطين) ونانسي نعوس وفرقة 4120 (لبنان، فرنسا) وكريستيل فرانكا (فرنسا) وفريشلي جراوند (جنوب أفريقيا) وخالد بن غريب (المغرب، فرنسا) وسيمون شاهين وفرقة القنطرة (فلسطين، الولايات المتحدة الأمريكية) وروني براك (لبنان) وأهداف سويف (مصر). وحده الإيراني كايهان كالهور قدّم عرضه الموسيقي في 8 أيار (مايو). هرب العازف من أوتيل دو فيل خلف منطقة رأس النبع وسط الرصاص ووصل مرعوباً إلي المسرح. لكنه تفاجأ أن جمهوراً ينتظره هناك برغم الاشتباكات. قدّم عرضه بنجاح ليدخل البلد في حرب فعلية وليس مجرّد مناوشات كما كان متوقعاً.

ليلة البحث عن شعراء المستقبل

الآن لا ثقافة في بيروت. السياسيون والعسكر أخذوا البلد إلي حيث يريدون. وليست الجماهير من هنا وهناك أقلَّ سوءاً. ما أظهرته التلفزيونات من وحشية ومن حشد، يصيب اللبنانيين بغالبيتهم. هل صحيح أن ثمة مواطنين هنا؟ أين هم المواطنون؟ بالتأكيد موجودون لكنهم قلة. ليس هذا موضوعنا. إذاً، لنعد إلي حال الثقافة.

الحدث الأبرز كان إحراق تلفزيون المستقبل وإغلاق جريدة المستقبل (استأنفا العمل الآن). أصدقائي الشعراء العاملون في الجريدة هربوا خفية تحت جنح الظلام. الأرجح هربوا خوفاً لأن الوقت ليس وقت أقلام بل وقت رصاص. الشاعر بول شاوول اختفي ليكتب بحرية. كتب شاوول عن الشارونيين الجدد . ابتعد الشاعر ليكون حراً بحسب علمي. الشاعر يوسف بزي حمل شنطة صغيرة وركب في سيارة الـ بي. أم مع زوجته الفنانة التشكيلية ريم الجندي وابنه عاصم تاركاً منزله في وطي المصيطبة إلي مكان مجهول. كتب يوسف أن المسحلين جاؤوا إلي بيته ثلاث مرات وسألوا عنه الجيران. الشاعر يحيي جابر بدوره غادر إلي مخبأ آخر. لكن ما إن وضعت الحرب أوزارها حتي عاد فريق العمل إلي الجريدة. كتب مقالات قاسية ضد حزب الله : الروائي حسن داوود، الشاعر بسام حجار، الشاعر فادي طفيلي والشعراء سابقو الذكر كتبوا مقالات حادة ومجروحة ومتألمة وصامدة لأن مكاتبهم تلك التي أحرقت. تحديداً مكاتبهم مع أقسام أخري من الجريدة.

سؤال المثقف

في ظلِّ هذا الوضع الأمني والسياسي العنيف والمأزوم، بدا المثقفون بلا وجهة تقريباً. بالطبع ثمة عدد من المثقفين انحاز إلي هذا الفريق أو ذاك، لكن الغالبية فضلت الصمت أو عدم الدخول في سجالات قد يستثمرها فريقا النزاع. هذه الحال دفعت بالزميل نديم جرجورة إلي كتابة مقال طويل في السفير حمل عنوان ماذا نكتب حين تُفتح أبواب الجحيم؟ .

اعتبر جرجورة أن الصحافة الثقافية متغربة عن الحدث الأليم. وببقائها علي حالها كما في أيام الهدوء النسبي، تظهر انكفاء ملتبساً في علاقتها المباشرة بالواقع المأساوي .

وذكر الناقد السينمائي أن صيف 2006، أي في حرب تموز (يوليو)، فضل البعض تغييب الصفحة الثقافية كلياً طوال أيام هذه المأساة الحادة ( المستقبل )، وتابع البعض الآخر عمله المهني كأن لا حرب ولا خراب ولا مزيد من الانقسام اللبناني الداخلي ( النهار ) . وإذ طرح جرجورة في مقاله المطول عدداً من التساؤلات، اعتبر أن المثقف ينبغي أن ينتصر للكلمة لأن مثقفين عديدين انحدروا بها (الكلمة) إلي المستوي السياسي اللبناني الرخيص والمبتذل .

مقال نديم جرجورة استدعي تعليقاً من الشاعرة جمانة حداد (رئيسة تحرير الصفحة الثقافية في النهار )، قالت فيه: لماذا، ذلك هو السؤال، لم أشرّع الصفحة الثقافية في النهار أثناء حرب تموز (يوليو)، مثلاً، لمئات النصوص التي كانت تصلني يومياً، تماماً مثلما كانت تصل إلي الصفحات الثقافية الزميلة، والتي كانت تطفح بالرثاء أو الغضب أو الاستنكار أو الحزن أو التحليلات أو الآمال أو المخاوف…الخ؟

لماذا آثرتُ الإصرار، باستثناء بعض المقالات والتحقيقات المرتبطة بما كان يجري، أن أواصل نشر كتابات حول روايات أو دواوين أو معارض تجري في العالم وما إلي ذلك من موضوعات كلاسيكية في كل صفحة ثقافية؟ وهل صحيح أن من يستمرّ في الكتابة عن الآداب والفنون والفكر والفلسفة في أوقات الحرب، إنما يفعل ذلك لأنه قام بـ اختيارٍ ملتبس للطريق الأسهل بالابتعاد المطلق عن الحدث، كأن الصفحة الثقافية تصدر في جمهورية أفلاطونية، بينما القرّاء المفترضون غارقون في أبشع لحظات عيشهم ؟ وهل صحيح أن من يتناول المناسبات الشعرية والأفلام السينمائية والمعارض والعروض، في ظروف مماثلة، إنما يفعل ذلك لأنه يريد أن يدّعي، بالقوّة، أن كل شيء يسير إلي الأفضل في أفضل العوالم الممكنة ، علي ما يقول كانديد، بطل فولتير الساذج؟ لا. ثم لا. أقلّه أستطيع أن أزعم أن هذا لا ينطبق عليَّ، كمسؤولة عن الصفحة الثقافية اليومية في النهار . لكني، في المقابل، سأعترف أني مذنبة . مذنبة برؤيتي الخاصة إلي الأدب والفن، رؤية ترفض تسخيرهما المجاني للسياسة، لأني أشتهي للصفحة الثقافية، كما أتصوّرها، أن تكون واحة منزّهة بقدر الإمكان عن وحول سياستنا اللبنانية ولوثاتها (وما أكثرها). وأنا أفعل ذلك، لا استعماء غبياً عن واقعنا، بل كتوق خلاصي مقصود وخبيث (نعم، خبيث) ومخطَّط له ومنفّذ عن سابق تصوّر وتصميم .

لا شيء في بيروت الآن علي الصعيد الثقافي. مقال نديم جرجورة وتعليق جمانة حداد ومن قبلهما مقالات الشعراء الأصدقاء تعكس الوضع: مثقفون منخرطون في النقاش السياسي ويعبّرون عن وجهات نظرهم بالانتماء إلي هذا الفريق أو ذاك، مثقفون صامتون ربما في محاولة لوزن الكلام، ومثقفون آخرون يرون أن الثقافة يجب أن تكون منزّهة أصلاً عن الحدث السياسي. وربما من نافل القول إن مساحة لبنان الضيقة (الأصح بيروت) وعلاقات المثقفين اليومية ببعضهم البعض، تمنعانهم من نقل المعركة إلي الصفحات الثقافية. سبب إضافي يُضاف إلي وجهات النظر حول دور المثقف في مثل هذه الأوقات الصعبة.

20/05/2008

القدس العربي


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى