صفحات ثقافية

النص الدرامي في مواجهة التكنولوجيا وما بعد الحداثة

null

مستقبل المسرح

أوسبالدو بييتيرا (*)

إذا نظرنا إلى تفكير واضعي النظريات الذين راهنوا على المستقبل، حتى الأكثر تبصّراً منهم، لنبهنا هذا إلى مدى قدرتنا على الوقوع في الخطأ وذلك لأن التطور التاريخي كان ينكر هذه الأخطاء دون رحمة. لذا، فنحن على اقتناع تام بأنه اذا كانت لدينا أية إمكانية لتقريب أي فكرة متصورة عن مستقبل المسرح، هذا سيتحقق فقط في حالة ارتباطنا وإلمامنا التام بالماضي والحاضر.

ومنذ بداية السبعينات ظهر وتطور في باريس وبرلين ونيويورك شكل يثير الجدل في كل من المسرح التقليدي والاتجاهات الحديثة على حدى ألا وهو: المسرح ما بعد الحديث. ولقد تزايدت هذه الظاهرة بدءاً من الثمانينات مع الاختلافات التي أضفتها عليها الخصائص الأقليمية في بعض المدن مثل بوينوس أيريس وسان بابلو. وفي بانوراما نهايات القرن العشرين، يمكننا ملاحظة الظهور المفاجىء للمسرح التقليدي وسيطرة المسرح الحديث فضلاً عن ضرورة ما أطلق عليه “المسرح ما بعد الحديث“.

وعادة ما يكون المسرح التقليدي ذا طبيعة تجارية مرتبطة بميول الجمهور، فهو مسرح مبني على نص درامي واقعي أو كوميدي أو هزلي والذي سيظل عرضه على خشبة المسرح ضرورياً. وصانعو هذا المسرح هم المخرج، غير المرئي على خشبة المسرح، والممثلون الذين يبنون تقنياتهم على قدرتهم التعبيرية وهم مُجازون من قبل النقاد والجمهور. وفي المجمل، فكل هذا يعمل على وتيرة واحدة رائعة يسيطر عليها مفهوم شامل وتناغم مسرحي مرئي وتطور مترابط الأطراف ويسمح في النهاية للجمهور أن يستنبط ملاحظاته، لذا فهو وطيد الصلة. وعالمه يشكل كوناً يمكن تفكيكه، ومناغمته وربطه بالجمهور من خلال تقديم طريقة اتصال لا تزال تحمل مفهوماً تعليمياً للمسرح.

أما عن المسرح الحديث، فيمكننا الاشارة إلى أنه يتمثل في ظاهرة فقدت خصائصها المتجانسة منذ زمن طويل. وعلى العكس، نستطيع أن نشير إلى احتوائه على الأقل على قطبين متنافزين بينهما مجموعة من الاختلافات يمكن من خلالها التمييز بينهما.

ففي القطب الحديث للمشابه للمسرح التقليدي، يمكننا ملاحظة تنوع المناظير بين مختلف المجالات الثقافية المحورية والهامشية، إلا أنه بإمكاننا إدراجه كله، مع الاعتراف بالتعددية فيه، تحت مسمى “مسرح الفن”. ولقد انسلخ هذا الاتجاه منذ حقب عديدة عن المسرح الواقعي التعليمي على الرغم من أن التطور الدرامي في نصوصه لا يزال يصبو إلى تكوين عمل واقعي اجتماعي. لذا، نستطيع أن نعرفه بأنه تصوير للمسرح التقليدي يحوله إلى منظومة شعرية من الدرجة الثانية عن طريق اضفاء طابع نفسي عليه. ولكن هذا يحدث دون المساس بمفهوم “تعليم الجمهور” ولكن من خلال إجراءات تستغل كل من المسرحية والفكاهة والتأثير وتكثيف النقد على الواقع الاجتماعي. فهو يبني مساحة تواصل بين القارىء ـ المشاعد وعالمه معبراً عن كونه المتردي والمفكك. فهو يزاول المسرح وكأنه وسيلة للالتزام… طريق يشبع المعرفة ويرفض استقلالية الفن عن المجتمع الحالي. هذه النصوص تربط السلسلة الاجتماعية بالجماليات وفيها يحدد السياق الاجتماعي النص المسرحي أكثر من أي وقت مضى ومخرجه عادة ما يعرض المسرحية بشكل تقليدي ملتوٍ معتبراً النص الدرامي سيناريو للعمل. فهو يتطلب منه إبراز وتطبيق لعمله محولاً إياه إلى شكل تقليدي لتحقيق أهدافه الجمالية بقصد تحويل لغة الكاتب التي تعتمد على الأسلوب اللغوي إلى لغة تعتمد على عناصر أخرى غير لغوية.

أما عن التمثيل، فهو يعتمد أساساً على التقنيات التأملية النفسية والستانيسلافسكية والستراسبورجية. كل هذه المصادر والأدوات المستخدمة في عمليتي خلق الشخصية وعرض العمل تخطو نحو الحقيقة وصدق العواطف.

الجيل الحديث

أما عن القطب الآخر الذي يتضمن “الجيل الحديث للرواد”الذي يعيد تشكيل خصائص رواد العشرينيات ولكنه لا يجذب انتباه السوق ولا يعتبر عملاً اجتماعياً، ظهرت في أوروبا وأميركا وفي أميركا اللاتينية في حقب تالية ثلاثة اتجاهات يمكن أن يطلق عليها اسم “الباراوكي الحديث”. وعلى الرغم من اختلافها من حيث التكوين والفكر الجمالي فيهم، إلا انها تشترك في هدفين: محاولة القضاء على الشعوذة اضافة إلى الانفصال غير المحدد عن المسرح التقليدي ومسرح الفن.

1 ـ المسرح الذي يعتمد على الأحداث والطقوس ويهدف إلى القضاء على أوهام المسرح في ما يتعلق بتقسيم المشاهد/ الجمهور. فهو يصبو الى خلق مساحة مفتوحة لا تكفيها الكلمة فضلاً عن إلغاء انفرادية الممثل مبدلاً اياها بفكرة الفرقة التي يجتمع اعضاؤها على نفس الفكر وعلى نفس طريقة التمثيل. ودائماً ما تتبنى الفرقة التخطيط للطرق المستخدمة للتعبير كما تنشئ بنية يقدم الممثلون من خلالها عناصر ديناميكية لا تعتمد كفاءتها فقط على قدرات الممثلين من موهبة أو ميول شخصية، بل تعتمد أيضاً الى حد ما على علاقة كل مخرج مع الآخرين ومع الفرقة بوجه عام. فيتحول المخرج إلى كاتب العرض ويعتمد على وحدة الفاعل والتعبير المسرحي المتخصص والاستخدام الدلالي للغة.

فهي محاولة لإيجاد أسلوب جديد للتعبير للممثل من خلال معايير التكوين فضلاً عن اعطاء الأولوية للأخلاقيات. وعند عرض هذه النوعية من الكتابات على خشبة المسرح، يذوب النص السابق حتى يأخذ طابع السيناريو: فالعرض المسرحي يحول اللغة التي تعتمد على الأسلوب اللغوي إلى لغة تعتمد على عناصر أخرى غير لغوية. فكل من المخرج والممثل يحلون محل الكاتب قائمين بنفس دوره.

2 ـ المسرح البرشتي الألماني الذي يدور حول أوهام المسرح من خلال التغريب والملحمة في مشاهد يُروى ويعاد فيها بناء الماضي كنظام مستقل يؤثر جزئياً على دواخل الحبكة المسرحية. وبذلك، تتكون بنية على شكل مربعات ينتج من خلالها نوع من الإخراج الذي يعتمد على فكرة الوحدة العضوية للعمل.

وتستخدم تطبيقات التاريخ المسرحي بهدف بناء العمل وادخاله في مقارنة مع الواقع. فالمسرح من وجهة النظر البرشتية يجب أن يكون ممتعاً فضلاً عن وظيفته التعليمية مما يتطلب وجود متلقٍ مسترخٍ غير منبهر بالعرض.

3 ـ مسرح اللامعقول: يحاول هذا الاتجاه عرض سخافة الوجود الانساني مرتكزاً على المفهوم الدلالي ومعتمداً على طريقة التمثيل لتقوية المعنى. إلا أن هذا النوع، من وجهة النظر الدرامية، لم يكن سوى محاولة عميقة للتغيير من خلال مبدأ إهمال الحبكة والحوار والصراع الاستاتيكي وتغيير مظهر الشخصيات على خشبة المسرح وتجاهل مناهج الواقعية والملودراما فضلاً عن افتقاره الى التآلف اللغوي وانكار العناصر المساعدة على التواصل وغياب التطور الدرامي للفرضية الواقعية في مسرحياته. كما يتسم أيضاً بالعرض وأدوات العرض اللامعقولة ووجود الشخصية فائقة الوصف دون الاعتماد على خواص نفسية وفكرة العودة إلى الصفر التي تميز تصميم الحبكة وتعدد الأشكال الخطابية. أما عن المنظومة الشعرية للمسرحية، فتسيطر عليها النسبية والذاتية والغموض والسخرية في التعبير عن تشاؤم الكتاب في تأملهم لواقع ما بعد الحرب ثم الحرب الباردة بعد ذلك.

ما بعد الحديث

أما عن الاتجاه الذي ظهر في أوروبا وأميركا في السبعينيات ثم بدأ انتشاره في اميركا اللاتينية بدءاً من الثمانينات، الا وهو المسرح ما بعد الحديث، فلم يشارك في القفزات المستحدثة التي اتصف بها المسرح السائد في ذلك الوقت. فالمسرح ما بعد الحديث ينقذ التجريد اللغوي وذوبان الشخصية بوصفها نسيجاً سايكولوجياً من اللامعقولية. إلا انه يختلف عنه بشكل اساسي في عدم محاولته اظهار اي شيء. فهو يعتبر ان دلالة النص، يجب ان تتبنى اتجاهاً بعيداً تماماً عن المشاهد نظراً لان العرض يقدم بطريقة غير كاملة ومعقدة. فما على الشخصية الا ان تتلفظ بالخطاب غير المكتمل والمفكك من الناحية النفسية. كما يتعارض عالم هذا النوع من المسرح مع مبادئ العقل، فهو عالم، اضافة الى افتقاره للتطلعات، فهو ايضا يبدو لنا وكأنه ينقاد وراء نقيصة العواطف والمشاعر الرأسية. كما نجد خصائصه معبراً عنها من خلال تقسيمات الحبكة التي تتعارض مع تطلعات الكمال رغم انها تنتمي الى الريادية الحديثة والمسرح اللامعقول اضافة الى انها تحمل في جعبتها تغييراً قطعياً لمفاهيم العرض المسرحي.

ويمكن القول بأن المشتغلين في هذا المسرح يعتمدون على جماليات العدمية، فهو مسرح لا يخجل من اختلافه ويرفض مجتمعنا. وبوصفه شاهداً على تفكك المجتمع وانعدام التواصل بين الناس والاستهلاكية الشرسة والعنف الشديد وغياب الحب (وهو من خصائص الحياة في العصر ما بعد الحديث)، فهو اضافة الى ذلك وبسبب ذلك، متداخل في نسيج السياق الاجتماعي وتحفظ الليبرالية الحديثة التي دمرت قواعد الحياة الاجتماعية. والنتيجة الحتمية لهذا الوضع هو تكوين صورة جمالية زائفة تنفصل عما عداها. فهو يحاول التوفيق بين النقيضين مع معارضته لاستخدام الجماليات. كما يلاحظ التعبير عن التطلعات الحديثة في النص وما وراء النص ليثبت بذلك انه حتمياً مجدد. هؤلاء الكتاب والمخرجون متناقضون وهم على دراية بهذا، فهم معارضون للرواد لأنهم يرفضون الفكرة الأساسية لجيل الرواد الا وهي: الايمان بخلق فن جديد في مجتمع اخر بديل. ومع رفضهم للرواد، يحاولون في نفس الوقت ان يكونوا محوراً للتجريب.

وبالطبع، فبالنسبة للمؤمنين بهذا الاتجاه، فهو يخطو الى مرحلة تغيير كامل في نظام المسرح العالمي: فلقد انتهت “الحداثة”، وبالطبع ليس من أهدافهم نقد الواقع وذلك لأن اساليب المسرح السابقة بالنسبة لهم تعد “مفيدة” فقد كأداة للخلط وتعدد التداخل النصي. فهم لا يستغنون عنها الا انهم يذيبونها في بناء اساليبهم.. يستخدمونها للقيام بأشياء أخرى. فالنص في هذه الحالة يشبه العلبة الفارغة، فهو منعدم الفضاء الزمني، ذو ملامح طفيفة عن المكان الا انه يستخدم اداة “الطلاقة اللفظية للغة مستقلة تسمح بتحقيق المستحيل” (كريسينسكي، 1989). وعلى هذا النهج، يقوم “مبدأ المعارضة” بقلب مفهوم الاتصال المحدد ويحقق عنصر الصدمة والمفاجأة وغير المعقول والخيال والغموض. والنتيجة تكون القضاء على المرجعية التوافقية واستقلالية النص الدرامي.

أدى هذا النوع من المسرح الى خلق نوع جديد من المخرجين الذين يجيدون التغلغل في عناصر النص. وبالطبع يفقد المخرج، طبقاً لهذا المفهوم، المسؤولية الشاملة عن العمل ليرتكز على المسؤولية التقنية، وبذلك، يفتقد الاخراج مركزيته ويعلي من دور الممثلين وبقية العناصر المكونة للعمل المسرحي، ويتطلب العرض المسرحي الاحترام المفرط لتفسير المشاهد وللنظرة المحايدة للنص، فلا نجد فيه “ترجمة لمعانيه”، فهو محيد: وقد يكملها المشاهد او لا حيث يظل التصرف التمثيلي متخفياً وراء التعليق على الأحداث.. وراء المجهول وغير المحدد.

الا ان الاخراج يظل في المقدمة دون المساس في نفس الوقت بعمق العمل. فهو يقوم بعرض مسرحي “دون مفهوم محدد” حيث يترك شخصياته تتحدث دون وجود نظرة شاملة.. دون الوصول الى المفهوم العدمي للتواصل المسرحي (دي مارينيس، 1986)، الا انه يعتمد على نسبية تكاملية او جوهرية “تحيل الدلالات المسرحية والادراك الثقافي للعرض الى المستوى الثاني مستغلاً بذلك مشاعر ورؤية المشاهد احادية الجانب“.

خاتمة

يثير التساؤل حول مستقبل المسرح شيئاً من القلق نظراً لأن المستقبل بالنسبة لنا يعد منطقة شائكة. فنشعر اننا اضافة الى عدم القدرة على رؤية خفاياه، نعجز عن اطلاق العنان لخيالنا كي يصور لنا مستقبلاً مختلفاً عن حاضرنا. فالبعض يقول اننا بالفعل قد بدأنا في مرحلة مستقبل المسرح منذ السبعينيات أو الثمانينات. واذا كان الحاضر يختلط بالمستقبل، فالمشكلة بالنسبة لنا تكمن في الوصول الى تعريف نوع من المسرح القادر على مصالحة الحديث بما بعد الحديث، ليس بوصفهما عدوين متنافرين، بل لكونهما مكملين، احدهما للآخر.. مسرح قادر على مقاومة عملية الاستئناس التي عانى منها مفهوم “مسرح الفن” و”المسرح الباروكي الحديث”. يرتكز هذا المسرح، الذي تكثر نماذجه في الأرجنتين وبلاد آخر في اميركا اللاتينية، على النظرة المبهمة للواقع الاجتماعي. فيعمل على هدم الأسلوب الحديث للعرض المسرحي مع الاحتفاظ ببعض جوانب منهجيته. كما يحاول خلق نموذج مسرحي يعاد فيه إعمال الخطاب الحديث من خلال التغلب على المتناقضات الآتية: الشكل والمضمون، الواقعية والشكلية، وأخيراً الثقافة العليا وثقافة الشعب. وفي هذا النسق، الذي نطمح ان يتحقق في المستقبل، ستصبح الحداثة مشروعاً غير مكتمل وسيصبح من الضروري، كما ذكرنا آنفاً ان تستثنى من الاستئناس. وبالطبع، فان مقاومتها تكمن في مضمون اجتماعي محدد وتمارس هذه المواجهة ضد الثقافة الرسمية. الا ان المسرح المعاكس لم يتخلَ عن فكرة المسرح النقدي، بل انه يحاول اعادة صياغتها في بوتقة “المسرح ما بعد الحديث”. كما يجادل في مفهوم المسرح الحديث لعدم سيطرته الكاملة على كل من الشخصيات والحبكة فضلاً عن غياب الربط بين ما هو حديث وما هو تقليدي. كما يعترض على انكاره المتشدد للماضي وارتباطه الشديد بالتحديث الثابت وجعل كل ما هو حديث نموذجاً مطابقاً للقواعد العقلية رغبة منه في التقليل من قيمة الثقافة.

حدد جينكس قواعد للهندسة المعمارسة يمكننا تطبيقها كي نقترب الى ذلك النوع من المسرح الذي نصبو اليه في القرن الحادي والعشرين: فهو يتسم بنظرته المزدوجة، فينظر في اتجاهين في آن واحد: الأول هو اتجاه القواعد التقليدية للتطور البطيء والثاني هو المعاني الخاصة بهذا الصدد والموجهة نحو قواعد الاحتراف والموضة المتغيرة.

كما يناقش المسرح المعاكس المناخ العدمي المنغلق في المسرح ما بعد الحديث والذي سبق ان قمنا بتحليله. الا ان تشاؤم هذا الاتجاه ينحصر تدريجياً من خلال اعادة التصديق على المسرح الشعبي ومدلوله. وفي ما يتعلق بالمسرح الشعبي، فان انفراده وتميزه يأتيان من مخالفته للنهج التقليدي من حيث وصفه لجانب لم يطرح من قبل على خشبة المسرح.

ان القراءة في تحديات المسرح الشعبي في الماضي تحمل معاني ودلالات كانت في ذلك الوقت متقلصة نظراً للسيطرة الكاملة للعقل.

وبناء على هذا، فانه ينبغي لهذا المسرح ان يحمل على عاتقه شكوك النقاد والمحللين والعاملين بمجال المسرح في مواجهة نصوص قد تأكدت صحتها.

وفي النهاية، فاننا نرى ان التغيير الذي احدثه دخول النصوص الدرامية والجديدة (منذ السبعينيات حتى الآن) سيستمر ويتعاظم في المسرح في مجال النقد والتحليل. بمعنى انه سيتم توسيع المجال الذي سيعاد فيه خلق العرض المسرحي وسيتم التفكير فيه لذاته. فلقد سمح لنا المسرح ما بعد الحديث بملاحظة المناظير الحديثة التي كانت ترضينا حتى امس بشكل نقدي مختلف، فأصبحنا نتعمق في حدودها وتكتسب نظرة اشمل تجاهها بالاضافة الى ان هذا الموقف يشمل ايضا المحللين والنقاد… هذا الخروج النصي يسمح لكل منا ان ينشئ “تاريخه” الخاص دون افتراضات او اهداف خيالية تحثنا على الايمان بأن المسرح “سينقذ العالم”. فنحن نتجاوز قوانين الجبرية في التوصل الى تحديد وظيفة الناقد والمؤرخ.

تحاول البانوراما المعروضة حتى الان اعطاء فكرة عن المسرح في اميركا اللاتينية عامة وفي الأرجنتين خاصة في نهايات القرن العشرين وهي الفترة التي بدأ فيها دخول بعض القطاعات الجديدة لمجال المسرح، وان صح التعبير، فهي عناصر ترتبط بالتكنولوجيا الحديثة.

وفي رأيي الشخصي، فانه على الرغم من ان الكلمة منذ اواسط القرن السابق تتهم بعدم كفايتها بوصفها اداة لادراك العالم والتواصل معه، الا ان انكارها يؤدي بالمسرح الى صمت لا يمكن الاستعاضة عنه بالصورة وحدها ولا بربط الصورة بصوت او فيديو، الخ..

ولكن المؤكد هو ان الجمهور يسعد برؤية صورته منعكسة على خشبة المسرح، كما يحتاج اجتياح العولمة التي تسود العالم اجمع الى نماذج جديدة تعبر عنها، الا ان التكنولوجيا لا تستطيع ان تحل محل علاقة المشاركة.. علاقة الحب والكراهية التي يثيرها وجود الشخصيات مجسداً في حضور الممثل على خشبة المسرح او في النص حيث يترجم نظرة كونية شاملة لشخص يلتقطها شخص آخر الا وهو الجمهور.

لذا، فيحتاج الفن من المبدع الحقيقي ان تكون له القدرة على انتهاك بعض القواعد، ان يصاب ببعض الهذيان او الجنون.. وقد يؤدي بنا الزمن الى الاستعانة بعناصر أخرى نضفيها على ما اطلقنا عليها اسم المسرح منذ العصور اليونانية ومع ادراجها على المسرح، سوف يصبح استخدامها عادياً بالنسبة لنا.

الا ان هذا سيحدث في عصر آخر… في المستقبل الذي اعتقد انه سيستمر في مرحلة التشكيل يوماً تلو الآخر.

نعم، اعتقد ان مستقبل المسرح سيستمر في مرحلة التشكيل يوماً تلو الآخر.

ملاحظات:

1 ـ يؤكد فينتر (26:1994) ان المسرح في السبعينيات لم يهدف الى تدمير الحركة المسرحية، بل كان يحاول من خلالها ان يحلل الظروف المحيطة بالعرض المسرحي، اي الظروف السمعية والبصرية الخاصة بعملية العرض المسرحي ذاتها. وينتمي هذا المسرح الى العصر ما بعد الحديث حيث انه لا ينكر اهداف المسرحي التاريخ لايمان اعمى منه بالتطور او بأسطورة ما كما كان الحال مع جيل الرواد، بل انه يصور العناصر المكونة لعملية العرض المسرحي بطريقة مؤثرة. اذن، فهذه العملية لا تدمر، بل انها تحقق غرضها الخطابي في حركة بنائية.

(*) مسرحي أرجنتيني


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى