كلمةُ يدي ليستْ ملْكِي
نصر جميل شعث
أيّ كلمةٍ، عاديّة أم مقدّسة، غائبة. لا حُضور لها سوى في التأويل لدى نظريات القراءة الحديثة. حضورها، بالأحرى، داخل سياقٍ فكريّ أراد إفراغَ ذاتِه، والرضا بالفراغ وفن التأويل كسياسةٍٍ تدنو -لتبتعد- من سلطة السياسةِ؛ المُعرَّفةِ بـ”فنّ الممكن”. وتبتعد -لتدنو- لتفكّكَ بـ”إرادة القوّة” وبسياسات “اللعب الحرّ” والجادّ. حيث التفكيكُ هُو هذه اللعبة الجادّة؛ التي ستُغري وتُوسّع مِن مَدارك السياسة. ولعلّ من مُتطلّبات فنّ القراءة والإدراك داخلَ مجريات السياسة والتفكيك؛ أن نهربَ، أن نتجاوزَ عالمًا كهلاً من السؤالِ ومعصية الأرضيين؛ عالمًا أحوج ما يكون إلى تبدّي الحقيقة والظهور.
إنّ كلّ حقيقةٍ راقصة هي ليست حقيقة؛ حتى وإن كانت ثمّة مومس، في العيون، ترقص، وتُوهمنا بأنها حقيقةٌ ومنال ممكن، بإشارةٍ ما. النار، أيضًا، في العيون، ترقص. وإنها حقيقة. النارُ ترقصُ في الماء، والنارُ تموتُ بالماء. وكلّ سمكةٍٍ في نُزْهَتِها ونَزاهة حركتِها هِي حقيقةٌ. ولا يراد أن نفهم أنّ نفيَ الحقيقة عن المومس الراقصة يدعونا لأنْ نَعْرفَ الحقيقةَ من كونها هذا الشيء والتصوّر الثابت؛ إنما يُراد لنا، وحسب، أنْ نَعيَ ونُميّزَ بينَ إدّعاءِ المُومس وبين طبيعة السمكةِ الراقصةِ في طبيعة الماء. هذا الوعي والتمييز المتطلَّب إذا يحصل، فهو من الحقيقة. وإذا أُهْمِلَ، وبات في الإغراء والسياسة الميكيافللية؛ فسيكونُ ضدًّا للحقيقة. وكيف سيتصرّفُ الوعيُ حينَ تَغدُو المُومسُ سمكةً، والسمكةُ مومسًا، والرقص خطابًا؟!
بهذا السؤال، بهذا المِعول السَّامّ، كانَ مَقتلُ البنيوية. وكان تفكيكُ وتَجاوزُ الفرقِ العقلانيّ؛ حيث تزويج المومس للسمكةِ، بشهادة الجذور الأمفيدوكليسية الأربعة: النار، الماء، التراب، والهواء! وفي هذه القرابة الشبقية والفنتازية والسوريالية هَدمٌ للمنطق وإخلالٌ بالقيم وأخلاق الطبيعة. لكن، لن يكون بمقدور المومس ولا السمكة أن تَتَعرّى من كونها قيمةً بنيوية غائيةً. وإذ يتّخذها -الآن- التفكيكُ قيمةً له؛ فلن يكون لنا أن نَقرأ هذا الأخذَ إلا بصفته تموضع التفكيك في القيمة. أي قصد الاعتراف بغائية التفكيك. إنّ غاية التفكيك هي التفكيك، والتفكيك هو التفكيك. لكنّ هذا ليس شبيهًا بمحاولة من فسّر الماء بالماء بعد جهد وعناء. إنّ الإجابة عن سؤال: أين نجد التفكيك؟ نجده في العلامة، في المومس، في السمكة، في اللذة والغاية. وبذلك سيظهر هذا التواطؤ بين دعاة البراغماتية ودعاة التفكيك؛ وهو ما سوف يستعيدُ حضورَ الخصوم: الغائية البنيوية الأدبية والفلسفة المثالية.
إنّ السمكةَ في البحر هي ملك بقائها، السمكة في يدي هي ملكُ بقائي. والحال، أنّ إمكانيةَ السمكة سوف تفضي إلى تمثيلية الجسد. أو أنّ الإمكانيةَ تُطوّرُ حضورَها؛ لتَظهرَ بصفتها منفعةً في متناول الجسد. أو لتسخو، هذه الإمكانية، بإقامة السمكة ذاتِها في التمثّل؛ تصويرًا لمِثالِ الحيازة والملكية لدى البشري. هذا اليقين المثاليّ الأخير، سوف يَظلّ عُرضةً لنهبِ واستعمال التفكيك؛ ذلك لأنّ السمكة (العلامة) لا تتقن أداء الثبات في حوزة، وفي خيالات، يدي. يدي التي أنظرُ إليها -الآن- بِصفتها بحرًا.
كلمةُ يدي هي لَيْستْ ملكي، ذلك أنّ السمكة اللعوبَ تلعبُ في يدِ التأويل. إنها ستظهر تتقدّم، على سبيل الإغراء، لقارئ يقرأ، في حُضورهاِ، تملّكَ اليدِِ للحياة، بقوة الغريزة، أو بـ”إرادة القوة” ، أو بقوّة الحبّ، بمعنى الأنانية، منظورًا في هناءة القوة الإيروسية.
للقارئ، هذا الجدول:
وقد تثبت الإدانة بحقي، لكوني أعيّن السمكة، أي قد يدينني قارئ – الآن- بالانحياز إلى عالم البحر؛ إذ أتوجّه -كما ترون- بوعيي وحواسيّ وذاتي الشاعرة لجماليات ومضامين البحر. في مقابل تركي عالمَ البرّ. لكنني أودّ من القارئ أن يَعي حقيقةَ ما أفعل في مقالتي الحالية، وإنني لأدرك تمامَ الإدراك أنّ مطالبتي القارئ بأن “يعي حقيقة ما أفعل ” لا تروق للتفكيكية. إذ قد ينبغي عليّ، لكي لا يصار إلى ذكر الحقيقة والوعي؛ ألا ألمّح بالغائية والبنيوية لا من قريب ولا من بعيد ؛ حفاظًا على عقلية التفكيك. لكن أليسَ من الجنون الواضح والخَوَت (الأخوت: هو المجنون في اللغة الشامية المحكية) أن يَغضّ التفكيكُ عقلَه وعينَه عن كوني أني أنا الذي أكتب الآن وأتوجّه بوعيي وحواسّي وذاتي الشاعرة للبحر، قادمٌ من التراب؟! وسأظلّ أنا أنا إقامتي في التراب. فإنني كائن ترابيّ، إذا ما استعنا بالأصول اللاهوتية. لكني، في الوقت ذاته، كائن متعالٍ، نرجسي جوزائي، وذلك بحسب تصنيف عالم الأبراج. وهكذا أبدو بالغ الحيرة و توجهاتي غير ثابتة، ومختلفَ الأمزجة: مائي، ترابي، ناري، هوائي!
وأنا حيث إقامتي في التراب، وحيث أني كائن ترابي، لا مائيّ، مجازٌ مرسل علاقتي جزئية (تجسيد) بالتراب(تجريد). أما الترابُ، فإنه ذلك المجاز المرسل للجزء (أنا الميتافيزقي، والترابي المُجسّد معًا). فكلانا ندلّ على بعضنا. لكنّ عقلية التفكيك ترفض هذا الحضور وهذا الدليل. حيث يظهر المجاز بوصفه الأداة الدالة على الحقيقة. وهذا إنما يشّكل صفعة مقوّضة للغياب، للتفكيك. والذي، بدوره، سيقوّض أناي المتعالية، كينونتي الهوائية، نرجسيتي. وسيفعل ذلك ضدّ كوني كائنًا ترابيّا لاهوتيّا، أي كائنًا مُتطلّعًا إلى السماء.
أنا، الآن، واحدٌ مطلٌّ على مسرح البحر الأزرق. والأزرقُ غواية الشعراء، على سبيل التجريد. الأزرق خلاص الشعراء. وأما على سبيل التجسيد، فأكيدٌ: إنّ الغوايةَ سمكة. وسنظلّ نرى إليها بِصفتها المجازَ المرسل. إنّ التجريد هو الاسم المؤدّي للخلاص، للميتافيزيقا، للماهية. والتجسيد هو ذلك الاسم الذي يُعرّف ويسمّي الوضع، والشيء(الصورة). وهنا، وفي الوقت ذاته، سنحايث التأنيث، بصفته تجريدًا، في السمكة. وفي الوقت ذاته، فإنّ السمكةَ هي الكناية والاستعارة. وهي المجاز المرسل (المُجسّد: المُعرّف والمُسمّي الحسي والتجريبي) بصفتها كائنًا مائيّا. وطبيعة الماء طاهرةٌ وصافية وشفافة. لكنها قابلة للتكدّر. وهنا، دعوني أمثّل الحقيقة بالسمكة، وهي في طبيعة الماء. ودعوني أقول: إنّ السمكةَ والماء معًا نصّ، في يدِ التأويل. في إمكانية القبول. قبول التأويل. الخطاب، بالأحرى.
إنّ مِنَ الضرورة بمكان، أن نَذْكُرَ أنّ التفكيكيّة التي أخذَتْ على عاتقها تقويضَ الميتافيزيقا، هي، بلا شكّ، فلسفة التجسيد، فلسفة الأرض؛ بدءًا بنيتشه ومتابعة لديريدا. إنها، إذًا، تقوم على مبدأ ماديّة الدالّ. ولا تسمح له بأن يؤولَ إلى معنى أو دليل أو مثال متعال. هذا، إذاً، يكفل بالعودة إلى الأرض (التراب، والبحر معًا) بما هما هذان البعدان أو المسرحان الوضعيان(السياسيان، الأحرى). حيث سيسعى التفكيك إلى نزع موضوعية التقابل عنهما، أي نزع الصفة البنيوية. وذلك بإبدال “بُعد” بـ “فضاء”. فضاء “اللعب الحر”، فضاء الاستعارة والكناية والمجاز. حيث رفاهية الشعر.
وإذا كان الإبدال والإحلال يَعْبُر القدرة إلى التفكيك، وبالتالي التحرّر من المرجع والغائية، وقدرته على الاستعانة بالشعر من أجل عيش التفكيك؛ إذا كان ذلك الأمر صحيحًا، وحقيقةً؛ فإنه ليس صحيحًا ولا حقيقةً أنّ الشعرَ حليفٌ ومتواطئ جَسور ضدّ الحقيقةِ، يكرمه ديريدا بالبديل. ليس صحيحًا ولا حقيقةً؛ لأنّ أيّ شعرٍ – ببساطةٍ وبوضوح وغائية – لا ينطلق من ” بُعدٍ إلى “بٌعد” وراء الأبعاد، فهو لا يعدو كونه لغةً بدينةً بلهاء!
إنّ البنيوية أو – بالأصح: إنّ الغائية هي حضور الإثم مرفوعًا في التفكيكية، والذي سوف يظهر، دائمًا، في عمليات وسياسات اللعب. إذ يجدر بنا، هنا، أنْ نرى إلى التفكيكية بصفتها المومس الراقصة على كل الحبال، الهاربة من قوانين البنيوية والمكبوتة فيها، كإثمٍ يظلّ يَظهر كشبحٍ على هيأة رقصةِ ضمير حيّ. إنّ التفكيكية، إذًا، لمصابةٌ بـ”عقد بروميثيوس” وفق فلسفة النار لغاستون باشلار؛ الفيلسوف الذي يرى “أنّ النارَ والحرارةَ تمنحان وسائل التفسير في مجالات متنوعة، لأنهما بالنسبة لنا، فرصة لاستحضار ذكريات حية دائمًا. وتجارب شخصيّة بسيطة وحاسمة. النار، كما يرى باشلار، إذًا، ظاهرة متميزة تستطيع تفسير كلّ شيء. وإذا كان كلّ شيء يتغيّر ببطء يعني الحياة، فإنّ كل شيء يتغيّر، بسرعة، يعني النار. فهي فوق حية. حميميّة وكونية. إنها تعيش في قلوبنا، تعيش في السماء. تصعد من أعماق المادة وتمنح نفسها كعاشقة. إنها تنزل من جديد في المادة وتختفي. خفيّة ومحتواة كالكراهية، كالثار. وهي الوحيدة من بين كلّ الظواهر، التي تستطيع أن تتلقّى بوضوح التقيمين المتناقضين: الخير والشر. هي، إذًا، أحدُ المبادئ لتفسير الكون”.( غاستون باشلار، عقدة برميثيوس”، الفصل الأول من كتاب: “فلسفة النار” لباشلار، ترجمة: محمد صوف، الكرمل، عدد 30، 1988، ص193.) وكما بدا لنا، فالنار عند هذا الفيلسوف هي موضوعٌ للمعرفة الموضوعية.
ديريدا الذي رأى في الشعر حليفًا جماليًّا موضوعيًّا، للمصادقة على مقترحاته ومحايثتها في الحليف؛ إنما يدعوننا إلى الوقوف على إرادة النجاح الفكري والحضور من خلال هذا الشكل الجمالي الأرضي، وقد فعل ذلك بالنسبة للفلسفة والنثر ونصوص الأرض. ومن ذلك نفهم أهمية الشعر كأرضٍ لإقامة الفكرِ والسياسات، بصفته الأرض أحد المنطلقات التي يكمن فيها الفكر، ويشبّ عليها. وهذا إنما يقرّبنا أكثر من تعامل هايدغر مع القصيدة بصفتها اللغة – الأرض الثرية بالفكر، وإمكانياتِ التأويل. لكن، إذا كنا سنديدن الشعر بشيء، فإننا ندينه لكونه هو القادر، دائمًا، على إنتاج الميتافيزيقا والمتواطئ الكليّ الرغبة معها. فإذا قلنا اللغة الشعرية، فإننا، في الحال، نشير إلى مساعي القرابة بين الكائن البشريّ والكائن الميتافيزقي {الله}، حيثُ يتوسّط الشعر بين الشاعر المعروف والمدان بالنقصان، وبين {الله} الغائب الحاضر المتعالي المحايث في الوسيط. ولعله ليس هنالك من رمزٍ أكثر ميتافيزيقية من “التفاحة”، هذه العلامة الميتافيزيقية، والأخلاقية، والجمالية. هذه العلامة الشكلية، الحسية، اللاهوتية، الفردية، والإناسية. إنها ذلك الوسيط المشترك “العقلحسي” بين الجمال والقبح، بين الرضا والندم، بين الشكل والمضمون، بين الوعي والحس، بين الحقيقة والمجاز، بين الكناية والاستعارة، بين المثال والتمثل، بين العلّة والمعلول. وإذا كانت النار عند باشلار هي موضوع للمعرفة الموضوعية، فإنّ “التفاحة” هي المثالية الموضوعية والموضوعية المثالية معًا! هي الميتافيزيقا اللطيفة والجبارة في آن.
* شاعر وناقد فلسطيني .
النص مجتزأ من كتاب جديد له قيد الانجاز
عن العدد الأول من مجلة انزياحات اليمنية
موقع جدار