صفحات سوريةميشيل كيلو

اسباب عجز الاحزاب عن مساعدة مجتمعاتها

null
ميشيل كيلو
يعرف من كان مثلنا، عضوا في حزب شيوعي عربي، هذه الجملة عن السلطة ويحفظها عن ظهر قلب، ويؤمن إيمانا لا تشوبه شائبة بصحتها. إنها جملة تنسب إلى لينين، اكتسبت مصداقية هائلة خلال فترة طويلة تقارب القرن، دون أن يشكك أحد في صحتها أو يطرحها للمناقشة، مع أنها قيلت في لحظة محددة وأسهمت في نقاش محدد، ولم يطلقها صاحبها لتكون حكمة سياسية خالدة لا يأتيها الباطل من أمامها أو من خلفها أو من بين يديها.
قال لينين ليلة الثورة، قبل بدئها بساعات، وخلال اجتماع عاصف للجنة الحزب المركزية عقد لمناقشة ما إذا كان يجب إسقاط النظام بالثورة المسلحة: لو قمنا بالانتفاضة البارحة لكنا مستعجلين، وإذا قمنا بها غدا سنكون متأخرين . الانتفاضة الليلة أو لا انتفاضة، والسلطة هي مسألة السياسة المركزية فلا بد من أخذها بالانتفاضة المسلحة.
هذه الجملة، المرتبطة بوضع فائق التحديد والتعين، هو الانتفاضة المسلحة الهادفة إلى الاستيلاء على السلطة في ليلة محددة وميزان قوى ملائم ربما لساعات، تحولت إلى قانون مطلق الصلاحية والصحة، يغطي جميع حالات السياسة وأوضاعها، منذ اليوم السابق لتكون الحزب السياسي إلى الزمن التالي لاستيلائه على السلطة، يتطلب الإيمان بصحتها تحول الثوري إلى درويش يذكر نفسه لحظة بلحظة أن السلطة هي مسألة السياسة المركزية، وأن مهمته الوحيدة، الأولى والأخيرة، هي الاستيلاء عليها . هذا الفهم الغريب يدخل إلى رأس لثوري فكرة خاطئة تزين له الاعتقاد بأن أخذ السلطة ممكن دائما وفي أي وقت، بغض النظر عن وضعه الخاص ووضع حزبه، وموازين القوى السياسية والاجتماعية القائمة في وطنه، ونمط الوعي السائد بين أفراد وطبقات مجتمعه، وقوة السلطة القائمة أو ضعفها؛ فإن تخلى عن الإيمان بمركزية السلطة في السياسة، وأحجم عن العمل اللحظي للاستيلاء عليها، خان الثورة وتخلى عن دوره فيها.
لن أناقش هنا ما ترتب على هذه الفكرة من هوس سلطوي وتشوه سياسي قاتل، ومن اعوجاج في خط الأحزاب العربية، التي ظلت تكرر مقولة لينين، حتى رسخ في عقلها أن لمسألة السلطة أولية مطلقة في جميع الظروف والأحوال، وأن كل شيء يجب أن يسخر لحسمها: من شكل التنظيم، إلى نوع وسوية الوعي المعرفي والأيديولوجي والسياسي، إلى العلاقات والتحالفات السياسية والطبقية، إلى خطة الحزب الاستراتيجية والتكتيكية، التي لن تكون، ولا يجوز أن تكون، غير نسخ أمين لخطة البلاشفة الروس، أو قراءة لا تعرض نموذج الثورة السوفييتية، الذي اعتبر الشكل الوحيد الممكن لأي ثورة بإطلاق، لأي تعديل محلي، ما دام التعديل، أي تعديل، ومهما كان طفيفا وبرانيا، يمس بنقائه ويشوهه. هكذا، اخترقت مسألة طرحت في لحظة محددة، كل زمان ومكان، وغدت عابرة لجميع الأوضاع ومستقلة عنها، واكتسبت قداسة أيديولوجية أفقدتها عقلانيتها، وحالت بين أنصارها وبين مناقشتها أو الشك فيها، فصار الحزبي عامة والشيوعي خاصة درويش سلطة، مع أنه لم يبذل في الواقع أي جهد لإقامة الشروط الضرورية التي تؤسس للحظة تجعل السلطة مسألة السياسة المركزية، واكتفى بترديد هذه المقولة في نقاشاته وسجالاته، وباستخدامها للمزايدة على الغير.
والآن: هل كان لينين سيقول إن السلطة هي مسألة السياسة المركزية، وسيدعو إلى أخذها بانتفاضة مسلحة، لو كان حزبه غير مسلح، أو غير مؤهل للقيام بانتفاضة؟. وهل كان من الممكن أن يقول عام 1897، عندما أسس فريق عمل فكري ونضالي ضم قبضة من الأشخاص شكلوا فيما بعد نواة تنظيمية وفكرية للحزب العمالي، إن مسألة السلطة هي مسألة السياسة المركزية، فإن لم نأخذها الليلة نكون متأخرين؟. ألم يقل إن الوعي والعمل النضالي والعلاقة بينهما هي المسألة التي يتوقف عليها نوع ومستقبل الحركة السياسية للحزب العمالي وللطبقة العاملة، وتاليا للثورة المنشودة؟. لماذا لم يتحدث لسنوات طويلة، شملت معظم الحقبة الأولى من نشاطه السياسي والثوري، عن مركزية مسألة السلطة في السياسة، مع أنه كثيرا ما تحدث عن السلطة وشرّحها وبين طابعها ودرس آليات إعادة إنتاجها، وكتب كتبا مهمة عن الثورة واحتمالاتها ومراحلها ونمطها المحتمل أو المرجح في المجتمع الروسي المتأخر، والمجتمع الأوروبي المتقدم، وفي بلدان ‘الشرق’عموما؟. هل كانت مركزية السلطة غائبة عنه يومئذ، ثم اكتشفها قبل الثورة المسلحة بساعات، فصرخ في لجنة الحزب المركزية: مسألة السلطة هي المسألة المركزية في السياسة.
لنتأمل الآن ما حدث. قال لينين قبل ساعات من الثورة، ومن أجل إقناع رفاقه المعترضين عليها في قيادة الحزب (وهم معروفون بالأسماء وإن كانوا أقلية في اللجنة المركزية): الآن، قبل الثورة بساعات معدودة، بل وفي هذه اللحظة بالذات، مسألة السلطة هي المسألة المركزية في السياسة، فلا بد من حسمها الآن، في هذه اللحظة. البارحة لم تكن مسألة السلطة هي المسألة المركزية، التي يتوقف مصير العمل الثوري على حسمها، فلم نقل بحسمها أو ندعو إليه. أما في اللحظة الراهنة، فإنها لن تحسم أبدا إذا لم تحسم الليلة. إنها في هذه الليلة بالذات مسألة السياسة المركزية، وستتحول، إن فوتنا فرصة حسمها إلى مسألة من مسائل السياسة المهمة دون شك، لكنها لن تكون لفترة قادمة لا يعرف أحد كم ستطول، مسألة السياسة المركزية، مسألة الثورة المباشرة؟!.
في كل عمل سياسي: هناك لحظة تطول أو تقصر تصير السلطة فيها مسألة السياسة المركزية. وهناك أيضا لحظات كثيرة لا تكون لها فيها الأولية، بل تكون الأولية للعمل الذي يتراكم حجرا فوق حجر ولبنة فوق لبنة، جاعلا من السلطة، في لحظة معينة، شديدة التحديد وعابرة، مسألة السياسة المركزية: هذه اللحظة هي لحظة الاستيلاء عليها، وليست أية لحظة أخرى.
عندما يقول حزب في طور التأسيس: إن السلطة هي مسألة السياسة المركزية، يكون حزب دراويش بلهاء لا يرون أولويات السياسة بصورة صائبة، ولا يعرفون أن مسائل الوعي والعمل والتنظيم تكون في هذه المرحلة هي مسائل السياسة المركزية والرئيسة، وأن مسألة السلطة تظل ثانوية الأهمية قبل تراكم نمط من التطور يفضي إلى ميزان قوى محدد يجعل الاستيلاء عليها ممكنا في لحظة بعينها، تصبح خلالها بحق مسألة السياسة المركزية. قبل اكتمال هذا التطور التراكمي، تتنوع مسائل السياسة المركزية بتنوع الأوضاع الملموسة، ونمط الوعي السائد، وشكل القطيعة الشعبية مع الأيديولوجيات المهيمنة، وأشكال التنظيم الحزبي والجماهيري، وصور تفاعل الأقلية الحزبية مع الأغلبية الشعبية، واستعداد المجتمع للتحرر من أحواله القائمة، ومواقف القوى السياسية، الرسمية والشعبية، من الحزب الثوري وبرامجه، ومواقف النقابات وهيئات المجتمع المدني والأهلي من النظام القائم واستعدادها للنضال في سبيل بديل له هو أو يشبه – البديل العمالي … الخ . في سياق هذا التطور التراكمي، تتعاظم أهمية السلطة كمسألة مركزية في السياسة، إلى أن تصبح مسألتها المركزية بإطلاق، لحظة الثورة . ومع أنها تبقى بعد الثورة لوقت غير قصير مسألة مركزية في السياسة، فإن مسائل أخرى تضاف إليها وتصير بمرور الوقت وتراكم التجربة مسائل مركزية بدورها، يتوقف عليها نجاح وفشل الثورة، منها نمط الدولة الجديدة، ونمط البناء الاشتراكي، وأشكال توزيع الدخل والثروة، ومشاركة ودور القوى العاملة في الحياة العامة والنظام السياسي، وعلاقات البيروقراطية الحزبية مع السلطة والمجتمع … الخ، علما بأن مركزية مسألة السلطة في السياسة تتراجع بقدر ما يتقدم البناء الاشتراكي، وتبرز أشكال حكم غير سلطوية، مباشرة وديمقراطية ولا مركزية، ترفع عن الإنسان عبء التعين بأي شيء من خارجه، وخاصة السلطة.
ثمة خط تطور يبدأ بمسائل سياسية مركزية لا تحتل مسألة السلطة أولية فيها . ثم تتصاعد أهمية السلطة كمسألة مركزية في السياسة بقدر ما تتراكم خبرات وتنشأ وقائع تجعل حسم مسألة السلطة أمرا قريبا أو محتملا، بناء على تحليل دقيق لموازين القوى القائمة. ثم، وفي لحظة معينة هي لحظة الثورة بالذات، تصير قضية السلطة مسألة السياسة المركزية بامتياز، لتبدأ بعد حسمها في التراجع، بقدر ما يتراجع ويتلاشى دور الدولة في الحياة العامة، ويبرز دور المجتمع المدني، مجتمع المواطنين الأحرار والمنتجين، كبديل لها، وينضج المجتمع الاشتراكي كمجتمع إنساني، تشاركي، غير دولوي.
ليست السلطة اليوم مسألة السياسة المركزية في وطننا العربي. المسألة المركزية هي الحريات، التي يتمكن المواطن بواسطتها من تغيير ظروفه في اتجاه يقربه من لحظة ثورية تبدو اليوم جد بعيدة، تصير السلطة فيها مسألة السياسة المركزية. وما لم تقلع الأحزاب والهيئات السياسية عن اعتبار السلطة مسألة السياسة المركزية بإطلاق، فإنها ستبقى غارقة في الدروشة الثورية والبؤس الأيديولوجي، وستظل عاجزة عن مساعدة نفسها ومجتمعاتها على إحراز أي قدر من الحرية والفاعلية، وعن تلمس الواقع وأوليات العمل العام بالصورة الصحيحة، التي اعتبرها شرط أية سياسة تستحق اسمها.

‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى