إيران والتغيير من داخل النظام
سلام الكواكبي
فى إحدى الحلقات البحثية حول تطور المجتمعات المدنية العربية اعتبرت إحدى الزميلات من إيران أننى أميل للتحليل الثقافى فى طرح فرضية «قابلية» المجتمع الإيرانى للتغيير وللإصلاح وللتحول الديمقراطى بشكل أكبر بالمقارنة مع المجتمعات العربية الخاضعة لأنظمة الحكم الشمولى على مختلف أشكالها.
وفى مسار دفاعى حينذاك أمام هذه «التهمة» العلمية التى أنفيها قلبا وقالبا، توقفت أمام التجربة الإيرانية منذ بدايات القرن العشرين والتى عرفت فيها إيران دفقا من الأفكار الإصلاحية والتنويرية تمخضت عنها كتابات الإمام النائينى، التى دحضت أسس الاستبداد السلطوى والدينى وترابطهما العضوى فى بعض بقاع العالم الإسلامى إن لم يكن فى مجملها، وما أتى بعدها فى 1905 من ثورة الدستور (ما يسمى بثورة المشروطة)، والتى أسست لتيارات دينية ويسارية فاعلة فى المجتمع الإيرانى وضعت أسس الدور المحورى للحركات الاحتجاجية على مختلف ألوانها فى إنجاح صعود حكومة محمد مصدق التقدمية إلى السلطة بالطرق الديمقراطية، والتى ما لبثت مخابرات واشنطن ولندن أن ساعدت الشاه على إجهاضها خصوصا بعد تأميم النفط واستثماره من قبلها. أعمل الشاه قمعه المدعوم من القوى الغربية فى أوساط المجتمع الإيرانى طوال عشرات السنين، لكن ذلك لم يمنع من نمو الأفكار الاحتجاجية يسارا ودينا، فطورت الحركات السياسية الشيوعية من طبيعة نشاطاتها وعلى رأسها حزب توده الشيوعى، وكذلك، ازداد تأثير رجال الدين فى جموع العامة المتعطشة إلى التغيير والتخلص من الحرمان والقمع، وكان الشعار السائد حينها هو الاستقلال والحرية والعدالة الاجتماعية. ولقد تعاملت سلطات الشاه مع هذه الحركات الاحتجاجية بسلاحين فعالين تستعملهما بعض الأنظمة العربية حتى يومنا هذا وهما القمع حتى الثمالة والدعم الغربى غير المشروط، والذى يحمل عباءة حقوق الإنسان ولكنه يخفى رغبة أصيلة فى استقرار الحلفاء مهما تعنتوا فى قبول التغيير والإصلاح ومهما عاثوا فسادا وقمعا ما داموا قادرين على الحفاظ سياسيا واقتصاديا على مصالح حماتهم الديمقراطيين.
ولقد نجحت الثورة الإيرانية فى إسقاط الشاه لتقاطع عدة أسباب من أهمها تخل جزئى عن الحماية العمياء له من قبل الغرب إضافة إلى وجود قيادات كاريزمية للتحركات الاحتجاجية استطاعت بلورة مسار واضح للتغيير إضافة إلى لعب العامل الدينى دوره فى تحفيز بعض الهمم التى يرتبط وعيها بالخطاب الدينى، وكذلك، دور أساسى ومهم لعبه اليسار الإيرانى فى أوساط العمال والطبقة الوسطى، وتراجع تجار البازار عن دعمهم الأعمى لسلطة الشاه وربما لإحساسهم بدنو أجله ورغبتهم فى الحفاظ على مصالحهم بركوب الموجة المقبلة، وعوامل عديدة أخرى أدت كلها فى النهاية إلى عودة الإمام الخمينى بعد منفاه القسرى فى فرنسا وقيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ولم تلبث هذه الثورة بأن بدأت فى قتل أبنائها انطلاقا من تصفية الحزب الشيوعى، والانفراد بالسلطة السياسية المستندة إلى الشرعية الدينية، وتعميق مقولة ولاية الفقيه على الرغم من معارضة جزء لا بأس به من الأئمة لهذه الولاية ولكن الجناح المتشدد هو الذى فرض نفسه، وأما الجناح النقدى، وأقصد من رجال الدين، فقد احتفظ بالهامش الفعّال ولم ينكفئ تماما عن الإنتاج الفقهى مما أتاح وجود صوت موازٍ لم ينقطع يوما عن الاجتهاد.
ومن هذا المخاض كله، حفلت التسعينيات من القرن الماضى بحراك اجتماعى لا مثيل له فى الدول العربية المجاورة أو حتى البعيدة، وامتلأت الصحف بالتيارات كافة نسبيا مع قيود اشتدت لفترات وتهاونت لأخرى، وأنتجت السينما الإيرانية أعظم أفلامها فى ظل «الجمهورية الإسلامية» وكانت غالبيتها تعبيرا عن المعارضة الهادئة، والتى قدمت للعالم صورة غنية عن مجتمع غنى ثقافيا وروحيا بعيدا عن الصور النمطية، التى ساهم بعض الملالى فى ترويجها. إن الذى يقرأ ما احتوته الصحافة الإيرانية خلال السنوات الأخيرة ويشاهد ما عرضته أو لم تعرضه صالاتها من فن بصرى، ويجتمع بباحثيها المنهمكين فى مجال العلوم الاجتماعية، لا يمكن له إلا أن يذهب بالمقارنة إلى الدول العربية وحال الصحافة فى مجملها والفقر البصرى فى منتجها السينمائى، وقحط البحث بالمجمل وفى العلوم الاجتماعية بالتحديد. لكن الحياة ليست وردية كما يقول الفرنسيون، بل ساهم أفول التوجه الإصلاحى المتردد من على قمة الهرم السياسى بعد انتخاب الرئيس أحمدى نجاد فى تطور الممارسات الزجرية والقمعية تجاه المعارضة الوطنية وإصلاحيى النظام نفسه. وأثبتت «الثورة» الخضراء، والتى يسمها الإيرانيون الآن «قوس قزح» لشمولها على تيارات سياسية وإيديولوجية مختلفة، أن الإصلاح بات أمرا ملحا ولن تسكت هذه الجموع التى قامت بثورتين فى تاريخها الحديث على الأقل عن القيام «بثورة» ثالثة تعيد ما ضاع من أحلامها مع تطور التيولوجيا السياسية سلبا وعلى العكس من الآمال، التى ساعدتها فى الوصول إلى السلطة. وبالطبع فالمعارضة الإصلاحية ليست فى أفضل حالاتها، فهى تفتقد إلى التنظيم وإلى القيادة الكاريزمية على الرغم من بعض الرموز ككروبى وموسوى وخاتمى. ويبدو بالمقابل، أن تواصلهم مع القواعد الشعبية ليس كافيا ليشكلوا أملا قياديا بديلا. وفى تطور جدير بالاهتمام، وهو بنظرى يعتبر الأخطر بالنسبة لقيادات سياسية لا تعى مصالح مواطنيها، تمثّل بانضمام بعض المجموعات العمالية إلى الحركات الاحتجاجية من خلال شعارات مطالبية وليست سياسية تأتى لتعطى بعدا اقتصاديا واجتماعيا إلى جانب البعد السياسى مما يجعل من هذا الحراك شاملا.
إن التغيير فى إيران سيعتمد على عناصر النظام ذاته ولن يكون من خارجه، وذلك لما للثورة الإيرانية من شرعية حتى إشعار آخر رغم انحرافاتها وإقصائيتها وقتلها لأبنائها. وفى هذه السياق، وفى أبريل الماضى، أتاحت لى إحدى الندوات التعرف على نائب رئيس الجمهورية السابق السيد محمد على الأبطحى، والذى كان يفيض ودا وابتساما وإيجابية خلال حوار لم يكن بالسهل، وقد دافع عن الثورة وإسلاميتها أمام بعض الانتقادات التى أشارت عن حق إلى قيام هذه الثورة بخيانة بعض من دعاماتها وبعض من مبادئها. وها هو السيد الأبطحى الدمث يدفع ثمنا غاليا لانتمائه إلى التفاؤل ويحاكم بصورة مهينة ويدفع إلى التصريح بما لا يعتقد به أمام محكمة صورية تذكر بالمحاكم الستالينية. وبالتالى تتم إضافته إلى قائمة طويلة من ضحايا الثورة، الذين كانوا فى صلب شرعيتها. ولكن يبقى ضمن السلطة الحالية إصلاحيون وحتى فى الإطار المحافظ هناك إصلاحيون نسبيون، وفى القوات المسلحة هناك نوع من التذمر المحدود ولكن ذى الدلالات. وأهم ما يساعد التغيير فى إيران، هو عدم الرهان على التدخل الخارجى وهو الموجود فعلا لدى فئة محدودة تعمل على دعمها بشكل يسىء إليها وإلى كل معارضة وطنية حتما، قوى أجنبية خصوصا بريطانية وأميركية. ولكن ما شهدته طهران من احتجاجات، وكذا المدن الأخرى، هو تعبير داخلى عن تأجج التذمر والذى تقوده إن صح التعبير جهات داخلية لا تهدف إلى قلب النظام حتى إشعار آخر، بل إلى إصلاحه وفرض منطق دولة القانون والتداول على السلطة فى إطار ممارسة العملية الديمقراطية دون اللجوء إلى تزوير الانتخابات. إنه تغيير من الداخل ومن لدن المنظومة التى شاركت، بل أسست للثورة، وقادت حراكها الاحتجاجى. وهنا ترد إلى الذهن عبارة الإمام الخمينى أمام صحفى فرنسى قبل أن يعود إلى طهران ليقود الثورة وجوابا على سؤال حول طبيعة النظام الإيرانى، الذى سيلى إسقاط الشاه، إذ لم يتردد الإمام الراحل من القول بإنه «سيكون كما فى فرنسا»! لكن النتيجة اليوم لا تبعث على تأكيد هذا الحلم من الجانب الحاكم، ولكن المجتمع يتحرك وينشط ويجرئ ويتظاهر ويتذمر، وكلها إشارات إيجابية خصوصا أن ترافقت برغبات سلمية وإصلاحية لدى البعض من العقلاء فى قمة الهرم.
يا صديقتى، ثقى بأنكم السابقون ونحن، ربما… اللاحقون والمتأخرون دائما.
موقع الشروق