باقة ورد للمحامين السوريين الثلاثة
زين الشامي
هيثم المالح، أنور البني، مهند الحسيني، هم ثلاثة محامين سوريين يقبعون الآن في السجن، لأنهم دافعوا عن حقوق الإنسان وحق التعبير ووقفوا ضد الانتهاكات التي يتعرض إليها السجناء. لهؤلاء أقدم باقة ورد بمناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة، هذا أقل ما يمكن فعله اليوم، وهو ضروري حتى نقول لهم إننا لم ننسَ، وإن أمثالهم يستحقون منا الانحناء لقاماتهم.
منذ أعوام قليلة زرت المحامي والشيخ الجليل هيثم المالح في مكتبه في منطقة البرامكة وسط دمشق للمرة الأولى، وفيما بعد تكررت زياراتي له، حدثني عن تجربته بعد اعتقاله عام 1980 وحتى العام 1986، وكيف كان السجناء السياسيون في تلك الفترة يتعرضون إلى الضرب بالكبل الكهربائي خلال ممارستهم «الرياضة الصباحية» في فصل الشتاء القارس حيث كان يقف في آخر الرتل عنصر من الشرطة العسكرية ويضرب بقوة كل سجين تأخر عن اللحاق برفاقه ولم تسعفه قواه في الهرولة. كان هيثم المالح يتحدث فيما عيناي كانتا مسمرتين على لوحة للعلم السوري مشغولة بالخرز، سألته عنها فقال إنه تعلم «شكّ الخرز» في السجن وصنع لوحات فنية عدة من بينها تلك اللوحة.
علاقة هيثم المالح مع قضايا الحق والظلم علاقة طويلة تمتد إلى عام 1957، حين بدأ عمله كمحامٍ ثم قاضٍ بعد عام، إلى أن أصدرت السلطات السورية في العام 1966 قانوناً خاصاً سُرح بسببه من عمله فعاد إلى مجال المحاماة ومازال محامياً حتى الآن.
منذ العام 1989 يعمل هيثم المالح مع منظمة العفو الدولية، وقد ساهم مع آخرين بتأسيس الجمعية السورية لحقوق الإنسان، وقد اعتقل مرة أخرى منذ شهرين، رغم أنه على مشارف الثمانينات من العمر، وذلك على خلفية حوار هاتفي أجرته معه إحدى الفضائيات، وقد انتقد المالح في حواره الوضع السوري الراهن ودعا إلى محاربة الفساد.
وقبل اعتقال المالح بأشهر قليلة، قامت نقابة المحامين السوريين بشطب المحامي مهند الحسيني، رئيس المنظمة السورية لحقوق الإنسان، من فرع نقابة محامي دمشق، أي بعد أيام من اعتقاله على خلفية نشاطه الحقوقي في الحقل العام وحضوره جلسات محكمة أمن الدولة العليا لمعتقلين سياسيين. ووفق تقارير إعلامية، وجه نقيب المحامين الفرنسيين كريستيان شاريير بورنازي رسالة شديدة اللهجة إلى نظيره السوري وليد التش احتجاجاً على موقف نقابته من قضية الحسيني، جاء فيها: «إن شطب المحامي مهند الحسني من فرع نقابة محامي دمشق من قبل مجلس نقابتكم يعد عملاً شائناً أحرص على الاحتجاج عليه باسم نقابة محامي باريس».
لم يتسنَ لي اللقاء بالسيد الحسيني، رغم أنني كلمته على الهاتف مرات عدة، فالانطباع الذي تشكل عندي عن هذا المحامي أتى من صوته الناعم والهادئ حين كان يسرد أفكاره، أيضاً كان شخصاً بمنتهى الأدب والأخلاق، لدرجة أنني لم أتوقع يوماً أن يُعتقل بسبب الاحترام الشديد الذي كان يبديه لمحدثيه مهما كانوا.
المحامي الثالث هو أنور البني الذي رأت السلطات السورية وضعه في السجن إلى جانب المجرمين والحرامية واللصوص، فيما شخصيات ومنظمات ومؤسسات دولية عدة، تكرمه تقديراً لعمله الاستثنائي ولتضحياته من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان السوري على مدى أعوام طوال. وللحقيقة فإن صوت «الصديق» أنور القوي والجريء، وفي كل مكان كنت ألتقيه، كان يكسر الصمت الذي يخيم على واقعنا المزري منذ أعوام طوال، وإذا كان لبعض الدول أحزابها وجبهاتها المعارضة، فإن أنور كان وحده يشكل حزباً وجبهة لطالما أقلقت وأخافت المؤسسات الأمنية كلها.
لقد بادر أنور إلى تأسيس «المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية» وأنشأ مركزاً لحقوق الإنسان في دمشق، بمساعدة من الاتحاد الأوروبي من أجل دعم عمل المدافعين عن حقوق الإنسان، وترأس «لجنة تحرير السجناء السياسيين». وكان عضواً فعالاً في «جمعية حقوق الإنسان السورية» إلى جانب المحامي المخضرم هيثم المالح.
أنور البني أيضاً هو ابن عائلة سورية مسيحية أصيلة تميزت بوطنيتها وتضحياتها في قضايا الحرية والديموقراطية، وقد أمضى أبناء هذه العائلة يوسف وأنور وأكرم وابراهيم وسحر حتى الآن ما مجموعه أكثر من نصف قرن في السجون السياسية. في هذا السياق لابد من الإشارة الى أن شقيقه أكرم البني، الكاتب المتميز والناشط الفاعل في لجان إحياء المجتمع المدني، هو الآخر معتقل حالياً من ضمن معتقلي إعلان دمشق.
منذ نحو شهر مُنح أنور جائزة «اتحاد القضاة الألمان لحقوق الإنسان»، وقد منحها له اتحاد القضاة الألمان في احتفال كبير خاص أُقيم في العاصمة الألمانية برلين.
وبهذه المناسبة، أعربت وزيرة العدل الألمانية سابينا لويتهويزر عن تضامنها الكامل مع المحامي السوري المعتقل أنور البني. كما استقبل رئيس الدولة الألمانية هورست كولر، في قصر الرئاسة، كمال البني الذي تسلم الجائزة عن شقيقه.
أيها المحامون الثلاثة، كل عام وأنتم بألف خير. مثلكم فقط من يعيد الاعتبار إلى مهنة المحاماة رغم الدرن والأورام كلها التي أصابتها تحت خيمة «الحزب الواحد».
منذ أكثر من نصف قرن، ومثلكم من يثبت لنا أن في سورية ما يستحق الاحترام.
الراي