تجميل دمشق المتعبة… بالشعارات
زين الشامي
منذ أيام تناولنا في مقال هنا تحت عنوان «قصة مدينتين… برج دبي ومجمع يلبغا في دمشق»، قصة أحد المباني المهملة منذ أكثر من ثلاثين عاماً في قلب العاصمة دمشق، وهي المدينة المأهولة الأقدم في التاريخ، وأجرينا في ذلك المقال مقارنة بين ذلك المبنى وبين وبرج دبي، وكيف أن الإهمال حوّل ذلك المبنى إلى مكان كئيب ومتسخ وملجأ للصوص والحرامية ومتعاطي المخدرات في وقت كان يجب أن ينتهي العمل به منذ عقود ثلاثة، لكن، وبسبب الفساد المستشري في بنية المؤسسات السورية الحكومية وبسبب البيروقراطية، بقي هذا البناء من دون كسوة منذ أوائل الثمانينات وحتى يومنا هذا.
وقد أجرينا مقارنة بينه وبين برج دبي وقلنا إن في ذلك مثلاً مهماً يعكس قصة نجاح دولة الإمارات ونظامها الإداري ويعكس نجاحاً على الأصعدة كلها، فيما قصة ذلك المبنى المهمل في قلب دمشق يعكس قصة فشلنا. وقلنا أيضاً، إن ذلك المبنى كان هو الأكبر والأضخم في دمشق، وكنا نتوقع في الثمانينات أن يصبح من أجمل وأحدث المباني. لذلك كان هناك الكثير ممن فكر أن يأخذ «صورة» بجانبه ليضيفها إلى «ألبومه» الخاص، لكن أحد الأشخاص «الأكاديميين» رد علينا في مقالة خاصة، مستغرباً أن يفكر أحد في التقاط صورة قرب بناء اسمنتي، داعياً إيانا أنا وزوجتي والآخرين إلى أن نأخذ صوراً لنا في أسواق دمشق والجامع الأموي وقصر العظم، وربما في الزبداني وبلودان، وهي بالمناسبة جميعها معالم سياحية وتاريخية ليس للدولة أو الحكومة أو «حزب البعث» علاقة في وجودها.
ليس هذا فحسب، بل إن «الأكاديمي» التف عن الموضوع وحاول تلقيننا درساً عما حققته سورية ونظامها السياسي وكيف تلعب اليوم دوراً إقليمياً كبيراً باعتراف الجميع وكيف فشلت مؤامرة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش عليها وكيف أن الرئيس الفرنسي ساركوزي تراجع عن مواقف سابقة ضد سورية، وهو نفسه من طلب إعادة التواصل معها متلمساً أن تقبل التعاون معه.
إن هذا الرد من قبل «الأكاديمي» وأعتقد أنه أكاديمي ترعرع في أحضان وجامعات «البعث»، على مقالة لنا تحاول أن تضع الأصبع على الجرح وتسمي الأشياء بمسمياتها، لم يكن رداً مقنعاً، وهرب من جوهر المشكلة التي تتعلق بالأسباب التي جعلت مبنى ضخماً يقف اليوم وسخاً وكئيباً وعارياً وسط دمشق، رغم انتهاء العمل به منذ ثلاثين عاماً من دون أي حل لهذه المعضلة العمرانية التي تشوه جمال مدينة دمشق، فيما تستطيع دولة مثل الإمارات العربية المتحدة، ورغم أنها استقلت مطلع السبعينات، أن تحقق معجزات عمرانية واقتصادية كبيرة لفتت أنظار العالم كله.
هل هو النفط من يقف وراء ذلك، نقصد نجاح دولة مثل الإمارات فيما تفشل سورية في تحقيق أي معجزة عمرانية أو اقتصادية أو تنموية؟ لا بكل تأكيد، لأن هناك دولاً غير نفطية مثل سنغافورة وماليزيا وتايوان وغيرها، حققوا معجزات اقتصادية وتنموية من دون أن يمتلكوا ثروة النفط أو أي نوع من أنواع الثروات التي تمتلكها سورية.
لا يوجد أبداً ما يبرر تقاعسنا وتخلفنا وفسادنا وترهل أنظمتنا الداخلية. علينا الاعتراف بأننا لم ننجز شيئاً منذ عقود طوال، ومنها مشكلة رغيف الخبز الذي مازلنا وحدنا من بين شعوب الأرض، وربما كوريا الشمالية معنا، نقف طوابير ونقضي ساعات طوال على أبواب الأفران من أجل الحصول عليه، وهي المشكلة التي يتنكر وجودها، للأسف، «الأكاديمي» صاحب الرد.
صدقني أيها الأكاديمي، ان الدور الإقليمي وما يُحكى عنه في الاعلام الحكومي غير موجود إلا في رؤوس الذين يرفضون الحقيقة المرة ومن قبلوا على أنفسهم ان يدفنوا رؤوسهم في الرمال. إن هذا «الدور الإقليمي»، وحتى ولو كان موجوداً، فهو لا يطعم خبزاً، ولا يعيد كرامة المواطن السوري التي تهدر في السجون وعلى أبواب أفران الخبز وأمام محطات المحروقات حيث يقف السوريون في عز البرد هذه الأيام في طوابير ليستطيعوا تأمين بضعة لترات من المازوت لتدفئة أطفالهم. أنا أعرف أيها «الأكاديمي» أن عائلات سورية لا تملك ثمن الخبز ولا ثمن المازوت حتى، وصدقني إنهم لم يسمعوا بالذي تسميه «الدور الإقليمي»، وإذا سمعوا به فهو لن يطعمهم خبزاً ولن يدفئهم ولن يمنع فساداً قائماً، ولن يصلح قضاء غير عادل، ولن يعيد الاعتبار إلى التعليم والمدارس والمناهج والجامعات التي تخربت، والتي تزامن تخريبها مع بدء العمل في ذلك البناء المهمل وسط دمشق.
ولأنني دمشقي وتسري ماء بردى في عروقي، أرى جيداً وأعرف حجم الخراب الذي أصاب المدينة أكثر من غيري، فحول دمشق اليوم أكثر من 35 حياً فقيراً مما يسمونهم بأحزمة البؤس أو مناطق المخالفات، وفيها يعيش اليوم نحو أربعين في المئة من سكان دمشق، بسبب هجرتهم من الريف الى المدينة بحثاً عن فرص العمل. ولك أن تتخيل حجم البشاعة العمرانية والضغظ الهائل على البنية التحتية وحجم البطالة والجريمة المنتشرة في هذه المدينة، فيما القيادات السياسية والحكومية لا تفعل شيئاً، لا بل هي متواطئة ومشتركة في التخريب ونعرف جميعاً حجم الأموال التي يدرها تجار ومافيات العقارات على الطبقة الحزبية «البعثية» والحكومية.
نحن نعرف أن النظام الفاسد يحيط نفسه بطبقة من «أكاديمي ومثقفي السلطة»، الذين يكتبون مقالات طوالاً يومياً يمتدحون فيها سياسة هذا النظام، ويمتلكون القدرة على تزييف الحقائق، لكنني أود القول إن الأكاديمي والمثقف الحقيقي هو من يقف دائماً الى جانب الحقيقة، حقيقة الناس وأوجاعهم ويدفع الضريبة لقوله هذه الحقيقة، وليس من يجمّل القبح والخراب والفساد والفقر والبطالة وانعدام القانون، ويهرب باتجاه كلمات مبهمة وشعارات طنانة مثل «الدور الإقليمي».
إن مثل هذه الشعارات هي ذاتها من تبقي الجولان في أيدي الإسرائيليين، وهي ذاتها من جعلت أبناءنا يتركون المدارس، بحثاً عن فرصة عمل في شوارع بيروت وصيدا وطرابلس في لبنان، و«أكاديميينا» يهاجرون إلى هنا وهناك في بلاد الغربة بحثاً عن أي فرصة عمل، وهي الشعارات ذاتها التي تجعلنا في مؤخرة الدول والشعوب، وهي ذاتها من ستبقي بناء مجمع يلبغا وسط دمشق ثلاثين عاماً جديدة من دون أن ينتهي العمل به، ووقتها نكون ابتدعنا شعاراً جديداً على شاكلة «الصمود والتصدي»، أو «قلب العروبة النابض»، و«الصخرة التي تتحطم عليها المؤامرات الإمبريالية كلها»، أو «الدور الإقليمي والاستراتيجي» لنداري عجزنا وتقهقرنا وخرابنا.
الراي