صبحي حديديصفحات مختارة

أفلام البروفيسور

صبحي حديدي
ذات يوم، غير بعيد تماماً، اعتبر الكاتب والمعلّق الأمريكي آدم شاتز أنه إذا قرّرت هوليود إنتاج فيلم عن غزو العراق، فإنّ دوراً ما لممثّل مساعد ينبغي أن يُسند إلى البروفيسور الأمريكي ـ اللبناني الأصل فؤاد عجمي، لأنه بالفعل ‘حكاية نجاح أمريكية كلاسيكية’. ولم يكن شاتز بحاجة إلى اقتباس أمثلة تبرهن على خصوصية ذلك النجاح، فالبروفيسور حاضر هنا وهناك في وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى، لا يخيّب الظنّ البتة كلما انتظروا منه النصح والمشورة، بعد التحليل والتفلسف، حول شؤون الشعوب العربية والمسلمة، وشجونها، وما يحدق بالغرب من أخطار جسيمة جرّاء التهاون في إغماض العين عن، أو إرخاء القبضة إزاء، حركاتها وسكناتها.
لكنّ استرجاع واقعة أو اثنتين لا يضرّ، هنا، بل لعلّه ينفع من قبيل الذكرى والاستذكار. ففي أطوار التحضير لعملية ‘عاصفة الصحراء’، استُدعي البروفيسور عجمي إلى البيت الأبيض، لاجتماع مع الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، وذلك من أجل ‘تثقيف’ الأخير سياسياً وسوسيولوجياً حول الذهنية العربية إجمالاً، وحول شخصية صدّام حسين بصفة أخصّ. حين انتهى الاجتماع، قيل إنّ بوش خرج مكفهرّ الوجه، مضطرباً ومتعجباً، فقال لمساعديه ما معناه: يا إلهي! أراهن أنّ ألدّ أعداء العرب من الإسرائيليين ما كانوا سيصوّرون لي الشخصية العربية على هذه القتامة!
في عهد بوش الابن، وعلى سبيل إيضاح الخطوط الكبرى لعقيدة غزو العراق، سخر الرئيس الأمريكي السابق من ‘خرافة الشارع العربي’ الذي يمكن أن ينتفض ضدّ الحرب، واستشهد بعبارة للبروفيسور عجمي يقول فيها إنّ العراقيين في البصرة وبغداد سيخرجون زرافات ووحداناً لاستقبال الفاتح الأنغلو ـ أمريكي، راقصين مهلّلين دامعي الأعين فرحاً! خلال الفترة ذاتها، وبعدها، لم يكلّ عجمي ولم يملّ في اجتراح أوصاف لغزو العراق لم يكن المحافظون الجدد أنفسهم قد تجاسروا على نحتها: هذه ‘حرب نبيلة’، ومن الطبيعي أن تنطوي على بعض ‘الفشل النبيل’، وهي ‘أنبل تعريف للقوّة الأمريكية’، و’أنبل تجليات البراءة الأمريكية’… وعلى الشاشات، سوف يظهر البروفيسور مراراً وتكراراً، وسيردّد والدموع تكاد تطفر من مقلتيه: ‘إنّ قَدَر هذه القوّة العظمى (أمريكا) أن تقيم الخفارة في ذلك النوع من العالم (العربي)’!
قبل هذه وتلك، كان عجمي ـ الشيعي، ابن بلدة عرنون في جنوب لبنان ـ قد ضنّ على الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982 بصفة ‘الغزو’، فلم يستخدم في تسميته سوى مفردة واحدة وحيدة: ‘الحملة’! كانت تلك انعطافة فاصلة في حياة البروفيسور الأكاديمية والسياسية والإعلامية، وليس الفكرية لأنّ البضاعة التي كان يسوّقها لم تكن تدّعي أيّ فكر في كلّ حال، فانتقل من الخوض في أسرار غياب الإمام الصدر، وعلائم المحنة العربية، وجراح بيروت (موضوعات مؤلفاته السابقة)، إلى الأدب العربي، وإلى الشعر تحديداً، لكي يضيف المزيد فالمزيد على تشخيصاته السابقة لاعتلال الجسد العربي، وانكسار الأحلام الوردية، واندحار العرب. وهكذا، في كتابه الشهير ‘قصر أحلام العرب: أوديسّة جيل’، 1999، سرد عجمي تأملاته حول المأساة وراء انتحار خليل حاوي، وموت بلند الحيدري في المنفى، وأحاسيس الهزيمة النكراء والنقد الذاتي العنيف في قصائد نزار قباني وأدونيس، وتواطؤ الشعر مع الحجارة في مثال محمود درويش (قصيدة ‘عابرون في كلام عابر’ تحديداً، التي تطوّع عجمي بترجمتها على نحو أسوأ بكثير من الترجمة الرسمية الني ناقشها الكنيست الإسرائيلي ذات يوم).
كتابه الأحدث في تشخيص أمراض هذا الشرق الرجيم، وشطره العراقي تحديداً، صدر سنة 2007 بعنوان ‘هدية الغريب’، وبلغ ذروة غير مسبوقة من حيث مزج الابتذال بالتوابل الاستشراقية، والتلفيق التاريخي بالأساطير الشعبوية، والكوابيس الفعلية بالاستيهامات الميتافيزيقية، والسياسة الخارجية للقوّة الكونية العظمى بطرائق علاج أمراض الرهاب من الإسلام والإرهاب الذي لا يمكن إلا أن يكون مسلماً… وبالطبع، لم يغفل عجمي فبركة خلطة خاصة تجمع بين المطرب ناظم الغزالي وحسرة العاشق على جسر المسيّب، والشاعر بدر شاكر السيّاب في انتظار مطر يأتي ولا يأتي، وما بينهما تبرير جرائم سجن أبو غريب لأنها… واحدة من نفقات صناعة الحرّية!
وقبل أيام، في صحيفة ‘وول ستريت جورنال’ الأمريكية، دون سواها، نشر البروفيسور مقالة قصيرة، لكنها لاهبة مشتعلة مضطرمة، ضدّ السياسة الخارجية الراهنة للرئيس الأمريكي باراك أوباما؛ كما ذرف، في طيّات أخرى من سطورها، دموع الحنين إلى أيام الرئيس السابق جورج بوش الابن: ‘نصغي إلى أقوال إدارة أوباما وأنصارها، فنخال أنّ أعداءنا هم ديك تشيني ودونالد رمسفيلد، وليس دعاة الإرهاب وأدمغته’. ويتابع البروفيسور: ‘في عهد أوباما انسحبنا من العالم الخارجي. وبتنا أصغر لأننا قبلنا بذلك الخيار الزائف بين أعباء الداخل وأعباء الخارج، والعالم ما وراء شواطئنا أكثر خطورة وكَلْبيّة من إدبارنا وجَلْدنا للذات’.
مرارته كبيرة لأنّ المستبدّين لم يعودوا يحسبون حساباً للبيت الأبيض، والديمقراطيين في إيران كفّوا عن انتظار الأمل من واشنطن، والسياسة الخارجية الراهنة باردة الدمّ لا حرارة فيها… وكأنّ نقيض هذا كلّه كان سمة السياسة الخارجية في عهد الإدارة السابقة. أليس البروفيسور جديراً حقاً بدور الممثل المساعد الذي اقترحه له شاتز، بل بجائزة أوسكار خاصة للتمثيل، داخل التمثيل؟
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى