منابع الإرهاب’ وعقاب 675 مليون آدمي
صبحي حديدي
بعد أن أوحى بممارسة النقد الذاتي العلني، وكان في الواقع يُبلغ المؤسسة الأمنية الأمريكية بأنها خسرت جولة مع إدارته الجديدة، وبالتالي ينبغي أن تصير أبعد من ذي قبل عن إرث سلفه جورج بوش ونائبه ديك شيني شيخ صقور الجمهوريين، قطع الرئيس الأمريكي باراك أوباما خطوة إضافية على طريق صياغة عقيدته الأمنية الخاصة، واتخذ الإجراء الدراماتيكي الذي لم يسبقه إليه أحد من ساكني البيت الأبيض: وضع قرابة 675 مليون آدمي مسلم، في الغالبية الساحقة، فضلاً عن بضعة ملايين من المسيحيين المواطنين في دول عربية أو مسلمة أو مسيحية تضمّ رعايا مسلمين، على لائحة ‘الإرهاب الدولي’. وإلى جانب كوبا وإيران وسورية وليبيا المصنّفة أصلاً في عداد ‘الدول الراعية للإرهاب’، أضافت إدارة أوباما تصنيفاً جديداً هو ‘الدول الميّالة إلى الإرهاب’، شمل السودان والجزائر والعراق ولبنان والمملكة العربية السعودية واليمن والصومال، فضلاً عن أفغانستان والباكستان ونيجيريا.
وفي حصيلته المتنوعة، الديموغرافية والجيو ـ سياسية والتاريخية، لا يحيل هذا الإنتقاء إلى شذرات من فلسفة المحافظين الجدد حول أنساق الوقاية من ‘الإرهاب’ عن طريق سدّ منابعه أو تجفيفها نهائياً، فحسب؛ بل هو إعادة إنتاج، مقنّعة في قليل أو كثير، لعقيدة جيمس وولزي، المدير الأسبق لوكالة المخابرات المركزية، حول ‘الحرب العالمية الرابعة المفتوحة’. وخلال حقبة غزو العراق واحتلاله، كان وولزي قد عرض عقيدته في اجتماع شهير (كشفت النقاب عنه دورية Executive Intelligence Review آنذاك)، حضره اثنان من عتاة ‘مجلس سياسات الدفاع’، هما بول ولفوفيتز وإليوت كوهين، وملخّصها ببساطة هو التالي: الحرب الباردة كانت الحرب العالمية الثالثة، وأمّا حرب الولايات المتحدة ضدّ الإرهاب، فإنها الحرب العالمية الرابعة. هي طويلة الأمد، وقد تستغرق مائة عام، وتنبسط على مستويات إقليمية وقارّية؛ كما أنّ أشكال القتال فيها لا تقتصر على العمل العسكري، بل تنطوي على مختلف أنماط التدخّل، بما في ذلك الإنقلابات العسكرية والاغتيالات الفردية؛ وأمّا العدو فيها، فهو واحد وحيد: ‘الإسلام السياسي’.
من جانبه كان ريشارد بيرل، أحد كبار مهندسي غزو العراق، قد أعلن أنّ تلك الحرب المفتوحة لن تقتصر على العراق، ولن تتوقف هناك، مستبعداً أيّ دور لمجلس الأمن الدولي فيها، لأنّ هذه الهيئة ‘خُلقت لإدارة نزاعات كلاسيكية مثل دخول أفواج من دبابات البانزر الألمانية إلى الأراضي الفرنسية، وهي مؤسسة عاجزة عن التعامل مع المشكلات الأصعب لعصرنا، مثل الإرهاب أو انتشار أسلحة الدمار الشامل’. وبالطبع، كان ذلك التبشير بالذات هو الذي يتغنى بقرابة 1000 قاعدة عسكرية أمريكية منتشرة هنا وهناك في نحو 100 بلد على الأقلّ، نصفها لا ‘يجفف منابع الإرهاب’ بقدر ما يمنح أعداء الولايات المتحدة الفرصة تلو الفرصة لتفجير المزيد من تلك المنابع!
ومن جانب آخر، كان السير مايكل هوارد، المؤرّخ البريطاني الأخصائي بتواريخ الحروب، قد اعتبر أنّ الصراع ضدّ الإرهاب ليس حرباً، وسخر بالتالي ممّن يتشدّقون بالقول إنها ‘حرب عالمية’، وأعاد التشديد على حقيقة مزدوجة، ليست البتة جديدة: أنّ أمريكا ترى نفسها في صفّ الخير ضدّ الشرّ، كالعادة، وأنّ خصمها الفعلي هو الإسلام المتشدد وليس أيّ مفهوم مجرّد لـ’الإرهاب’. وقد تساءل هوارد عمّا إذا كانت تسمية ‘الحرب’ تمنح الفريق الثاني، أي ‘الإرهابيين’ أنفسهم، صفة شرعية تستوجب حصولهم على الحقوق، مثل خضوعهم للواجبات، المنصوص عنها في المواثيق الدولية الخاصة بالحروب؟
كذلك تبدو انتقائية أوباما الراهنة بمثابة ارتداد عن نظرية ‘التفاحات الفاسدة’ التي سبق أن طرحها المؤرخ الأمريكي الشهير بول كنيدي، المعروف ببصيرة ثاقبة في شؤون صعود وانحطاط القوى العظمى، ولاح أنها لقيت بعض القبول لدى فريق الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون. وكان كنيدي قد اعتبر أنّ المكسيك والبرازيل والجزائر ومصر وجنوب أفريقيا وتركيا والهند وباكستان وأندونيسيا هي دول أقرب إلى ‘تفاحات فاسدة’ سوف تلحق الأذى بصناديق الستراتيجيات الكبرى المرسومة للقرن الراهن. أو هي، في بُعد آخر للمسألة، قطع الدومينو التي قد تودي بكامل شروط اللعبة، كما كان سيقول رجال من أمثال دوايت أيزنهاور أو دين أشيسن أو هنري كيسنجر أو زبغنيو بريجنسكي؛ أو، ثالثاً، ‘الدول المحورية’ كما جادل الجغرافي والستراتيجي البريطاني هالفورد ماكيندر في مطلع القرن.
وليس الأمر أن كنيدي يناهض نظريات الدومينو القديمة في غمرة مقترحاته الجديدة، بل قد يكون العكس هو الصحيح. ذلك لأنّ التركيز على قطع الدومينو الجديدة، وبينها بعض كثير من القطع القديمة للتذكير، يمكن أن يخدم الستراتيجيات الراهنة والمستقبلية للولايات المتحدة أكثر مما كانت عليه الحال أيام نظام القطبين والإستقطابين، خصوصاً وأنّ أحداً لا يبدو اليوم مُلزَماً بملء الفراغ على قاعدة ‘الموت ولا الحمر’ التي هيمنت على عقود الحرب الباردة. الفارق بين الأمس واليوم هو أنّ التهديد الشيوعي لم يعد الشبح المرابط على الأسوار، المتأهب للإنقضاض والتخريب إذا ما غفلت عين ‘الحارس الأمريكي الساهر على الحرية والديمقراطية والأمن’. التهديد، هذه المرّة، يأتي من الداخل، والداخل وحده تقريباً. يأتي ولا يتوقف عند حدود البلد المحوري، بل يتعداه إلى أكثر من جوار، بالضرورة الناجمة عن طبيعة انبثاقه من عوامل مكوّنة ليست داخلية على الدوام: الزيادات الهائلة في أعداد السكان، موجات الهجرة، التدهور البيئي، الصراعات الإثنية، انعدام الوزن الاقتصادي… وما إلى ذلك.
ويسرد بول كنيدي المعايير والخصائص التي تسمح بتحديد الدولة المحورية، فيشير إلى عدد السكان، والموقع الجغرافي الهامّ، والإمكانات الاقتصادية، واحتمال ولادة الأسواق الكبرى، والحجم الفيزيائي، وسواها. هذه جميعها عوامل كلاسيكية تساعد في تعريف الدولة المحورية، ولكن المعيار الأهمّ هو قدرة تلك الدولة على التأثير في الإستقرار الإقليمي والدولي، بحيث يكون انهيارها بمثابة تقويض لعدد كبير من المعادلات السياسية والإقتصادية والأمنية والإثنية والثقافية. وضمن هذا التعريف سارع كنيدي إلى التحذير من خطأين: اعتبار اللائحة مقتصرة على هذه الدول وحدها (إذ قد تتبدّل، أو بالأحرى ينبغي أن تتبدّل، اللائحة)؛ وانقلاب نظرية التفاحات الفاسدة إلى ‘مزمور’ مقدّس شبيه بنظرية الدومينو (لأنّ منظورات هذه الدول المحورية يمكن أن تتقاطع وتتباين كثيراً، في واحد أو أكثر من المعايير المشتركة).
الجزائر، وهي اليوم على لائحة أوباما، تشغل موقعاً جغرافياً بالغ الحساسية، ومستقبلها السياسي يحظى بأهمية فائقة في حسابات دول أوروبية حليفة مثل فرنسا وإسبانيا، والمسّ باستقرار البلد يهدد أمن حوض المتوسط بأسره، وأمن الأسواق الدولية للنفط والغاز. كذلك فإنّ انهيار النظام سوف يسفر عن تكوين قاعدة لاحتضان التيارات الأصولية العالمية، وتطوير شروط المجابهة بين الأصولية والعلمانية من جهة أولى، وإعادة صياغة العلاقة بي التيارات المعتدلة والراديكالية ضمن الحركة الإسلامية الواحدة من جهة ثانية؛ فضلاً عن امتداد الفيروس إلى الجوار ميمنة وميسرة (مصر، تونس، ليبيا، المغرب)، وفي العمق الأفريقي المسلم.
كذلك فإنّ وصول نظام راديكالي معادٍ للغرب إلى السلطة سوف يعني تهديد حاجة فرنسا وإسبانيا وإيطاليا إلى موارد الجزائر من النفط والغاز، وتهديد الإستثمارات الأوروبية الواسعة، الأمر الذي سيلحق الإضطراب بالأسواق العالمية، ويهدد المصالح الأمريكية. كذلك سوف تضطر الطبقات الوسطى العلمانية إلى الهجرة الكثيفة، وستضطرب من جديد سياسات الهجرة في دول الاتحاد الأوروبي.
تركيا ليست على اللائحة، ولكنها تعاني من وضع قلق يضعها في مصافّ الجزائر، رغم أنها تتفوّق في أهمية الموقع الستراتيجي، والقدرة على التأثير في عدد كبير من الدول، على مبعدة آلاف الأميال من البوسفور، بوصفها نقطة تقاطع بين الغرب والشرق، الشمال والجنوب، والمسيحية والإسلام. ولكنّ تركيا تعاني من صعوبات مزمنة تقلق الكبار مثلما تصبّ الزيت على حرائق دول محورية غير بعيدة. ثمة ضغوطات سكانية وبيئية، وتحديات إثنية حادّة، وصحوة إسلامية أصولية، وتنافس مع اليونان، وتوتر (سابق، ولكنه يظلّ كامناً قائماً) مع سورية والعراق حول اقتسام مياه الفرات، وطموح إلى لعب الورقة التركية العتيقة في آسيا الوسطى. ذلك يقتضي الحفاظ على تركيا مزدهرة وعلمانية وديمقراطية، والحرص الشديد على عدم توليد تركيا منقسمة على نفسها بفعل حروب أهلية دينية وإثنية، أو تركيا طامحة إلى استعادة الماضي الإمبراطوري، أو تركيا لا تنضوي جيداً في التصميم الإستراتيجي المعتمد من قبل الولايات المتحدة وحلف الأطلسي.
وتحليل كنيدي للدول المحورية الأخرى لا يخرج عن هذا المنهج العام، وهو في النهاية يوصي راسمي السياسات الأمريكية بالوقوف في موقع وسيط بين مجازفتين خاطئتين: بسط طبقة رقيقة من النفوذ الأمريكي على سطح واسع من الكرة الأرضية، أو الإنعزال ولملمة النفوذ والتمترس خلف أسوار المحيط. وبين هذَين الخيارين، يبقى أنّ العقاب الجماعي لـ 675 مليون مواطن، ينتمون إلى دول ذات أنظمة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية مختلفة، أو غير متطابقة في الحدّ الادنى الذي يسوّغ حشرها في سلّة أمنية واحدة، هو ارتداد صريح (مأساوي، كما يتوجب القول) عن تلك الفلسفة الشاملة (الكاريكاتورية، كما يتوجب القول هنا أيضاً) التي اعتمدتها إدارة بوش الابن في النصّ الشهير المعنون ‘ستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية’، والذي نُشر في خريف 2002. هناك كان النصّ يحثّ على دعم ‘الحكومات المعتدلة والحديثة، خاصة في الشرق الأوسط والعالم المسلم، بما يضمن أنّ الشروط والإيديولوجيات التي تروّج للإرهاب لن تجد أرضاً خصبة لدى أية أمّة’.
وفي وسع المرء أن يستعيد أكثر من برهة أمريكية خاصة، ذات وظائف متناقضة متقلّبة، في ما يُسمّى ‘الحرب على الإرهاب’، بينها مثلاً ذلك الوعيد الشهير الذي أطلقه وولزي من حرم جامعة كاليفورنيا، ربيع 2003، ضدّ ‘أضراب مبارك’ و’العائلة الملكية السعودية’، من أنّ عليهم أن ‘ينرفزوا’ بشدّة لأنّ أمريكا تعتزم، بعد احتلال العراق، الانفتاح على الشعوب المقهورة في الشرق الأوسط، وخوض الحرب العالمية الرابعة معها، كتفاً إلى كتف! كذلك يحقّ للمرء أن يستعيد الطبعة الخاصة من ذلك ‘الإنفتاح’ على الشعوب، حين عقدت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس (وليس مسؤول أيّ جهاز أمني أمريكي) اجتماعاً مع رئيس مجلس الأمن الوطني السعودي الأمير بندر بن سلطان، ومدير المخابرات العامة المصرية اللواء عمر سليمان، ومدير المخابرات في دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ هزاع بن زايد، ومدير المخابرات الأردنية محمد الذهبي.
وإلى هذه وتلك، يواصل أوباما تضخيم واحدة من مفارقات التاريخ الراهن لعلاقة الولايات المتحدة مع عالم الـ 675 مليون مسلم: أنّ أمريكا تتوسع شرقاً صوب ديار الإسلام، بعد أن اختلقت أصولياته وصنّعته وصنّعتها عدوّاً بديلاً للعدوّ الأحمر، من جهة؛ ولكنها، من جهة ثانية، توصد أبوابها أمام قاصدي أمريكا من أبناء تلك البلدان، سواء أضمروا العداء، أو هاموا عشقاً بما تمثّل من قِيَم وأمثولات. أم أنها ليست مفارقة أبداً، وهي محض صيغة جدلية بسيطة متكاملة، للعلاقة الواحدة إياها؟
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –