الانـتـــفـــاضــــة الـمــغــــــدورة؟
بين السجن الإقليمي والأسر الداخلي
زياد ماجد
مضت ثلاث سنوات تقريباً على 14 آذار 2005، خُيّل الينا أنها ثلاثة عقود لكثافة حوادثها وعمق دلالاتها، وتجسيدها كامل الأهوال التي يمكن أن تعصف ببلد تحكمه جغرافيته السياسية وتركيبته الداخلية بالترحال الدائم بين الأزمات. ولعل القراءة المركّبة لما جرى ويجري منذ ذلك اليوم المليوني المشهود في قلب بيروت (وأحياناً عشيته)، تفيد في إعادة رسم اللوحة الثلاثية المشهد التي نراها راهناً وما أفضى الى بهتانها بعد تألق وجيز.
المشهد الاول: لبنان بين العراقين
ليست مفارقة خالية من تبعات، أن العراق مثّل في لحظتيه الدراميتين الأخيرتين، لحظة حرب الخليج الأولى التالية لاحتلاله الكويت عام 1991، ولحظة حرب الخليج الثانية مع الاجتياح الأميركي البريطاني لأراضيه عام 2003، انطلاق ثم انطواء مرحلة بالغة الخطورة في التاريخ اللبناني المعاصر. ذلك أن التفويض الأميركي للنظام السوري بإدارة الشأن اللبناني جاء بعد الحرب الأولى ومشاركة الجيش السوري الى جانب الاميركيين فيها، ونهاية هذا التفويض جاءت بعد الحرب الثانية عبر تصالح الفرنسيين والاميركيين (إثر مشادتهم المرافقة لها) الذي أنتج القرار الأممي 1559.
وبين بدء التفويض وانقضائه، عاش لبنان أرذل العمر سياسياً، وأعيد تركيب مؤسسات دولته وفق مصالح النظام السوري وأهواء مخابراته. كما جرى تغيير بنية العلاقات الطائفية في سلطته، بحيث عُمِل على تهميش التمثيل السياسي المسيحي فيها وتعميق نتائج الديموغرافيا وما تناسل من الحرب الأهلية من خلل في التوازنات، وعلى توزيع الأدوار الداخلية والخارجية الجديدة بين سنّة وشيعة، في عمليات إعمار و”مقاومة” وتوزيع مغانم تتنافر وتتصالح دورياً، عشية صعود التوتر المذهبي في كامل المحيط.
كما شهدت الحقبة المذكورة تدميراً ممنهجاً لمساحات وطنية كانت الثمانينات قد بدأت بإنهاكها، كالجامعة اللبنانية والنقابات العمالية. وعرفت تسلّطاً على وسائل الإعلام وعلى العديد من هيئات المجتمع المدني، بالترافق مع تهميش للسلطة القضائية في وقت كان الفساد ينخر جسم الدولة ومشاريعها، يرعاه سياسيون وضباط أمنيون ويقتطعون منه موازنات تساهم في إعادة إنتاج نفوذهم في لبنان وفي الداخل السوري نفسه. وقد أدّى مجمل ذلك الى تقطّع أواصر الحياة السياسية والاصطفاف المواطني الضعيف أصلاً، والى استدامة حال من تعطيل المؤسسات الدستورية لصالح مراكز نفوذ وقرار خارجها. فصعُب تالياً التغيير من داخلها، تماماً كما تلاشى احتماله من خارجها، رغم الجهود المبذولة منذ منتصف التسعينات والمتصاعدة بعد العام 2000.
في العودة الى العراق وما مثّلته لحظتاه من بداية ونهاية، ينبغي التوضيح أن اللحظة الأولى كانت لحظة ضبط إقليمي ومفاوضات ومحاولات إقفال ملفات، وهو ما انعكس على لبنان استقراراً أمنياً واستبداداً سياسياً، في حين أن اللحظة الثانية كانت لحظة انكشاف وتبدّل في موازين القوى في المنطقة انعكست على لبنان تحريكاً جدياً للوضع السياسي ومحاولة سورية لمنع التغيير المتولّد من تقاطع المصالح بين داخل مجاهر برفض استمرار الهيمنة وخارج هائج ومُنهٍ كل تفويض سابق للهيمنة نفسها بإدارة ساحة حمّالة رسائل (أخطرها المتعلق بمزارع شبعا، حيث البريد الإيراني – السوري – الاسرائيلي ظل قابلاً للتوزيع، واغتال تالياً إنجاز التحرير وطنياً بمساهمة من الحزب المحرِّر نفسه)!
لذلك، لم يكن مستغرباً أن يحاول بعث دمشق الانقلاب على اللحظة العراقية المستجدة بإظهار تصميمه على طلب تفويض جديد، ليس عبر التعاون هذه المرة كما كان حصل قبل عقد ونيّف، بل عبر التصلّب والتهديد بالفلتان والشروع في إسالة الدماء ابتداء من العام 2004، وصولاً الى الذروة في 14 شباط 2005 مع اغتيال الرئيس الحريري، وما نتج منه بعد شهر – ممّا لم يكن في الحسبان – من طوفان بشري حرّر لبنان وابتلع كل محاولات الترهيب، بما فيها تلك التي اعتُمدت في 8 آذار، حين تظاهر “حزب الله” وشيعته (لنا عودة الى المعنى الداخلي اللبناني لذلك لاحقاً) لدعم المسعى السوري الفاشل في البقاء.
المشهد الثاني: بين أميركا وإيران، وإسرائيل والنظام السوري
يضاف الى “المدخل والمخرج” العراقيين المذكورين، وارتباطاً جزئياً بهما، مشهد ثان شديد التعقيد، هو مشهد الصدام الأميركي – الإيراني المنعكس على مراحل عندنا! فحربا أميركا في أفغانستان والعراق، أتاحتا لإيران اندفاعاً إقليمياً غير مسبوق. إذ بين تهاوي كل من حركة “طالبان” وبعث بغداد، تهاوى جدارا العزل الجغرافي والردع العسكري لها. وبين انتشار الأميركيين على حدودها وخرق نفوذها عبر القسمة الشيعية – السنية ودولارات النفط المتكاثرة، علق أعداؤها في مستنقعين عميقين أوقفا سطوتهم موقتاً، ووقع جميع دول المنطقة في ارتباك وخوف من مَدّين: مدّها وما يعنيه مذهبياً وسياسياً، ومدّ المحافظين الجدد قبيل انكفائهم وما يحمله من أدبيات وسلوكيات قد تنهي “ستاتيكو” الانظمة القائم منذ عقود.
على أن الانعكاس المأسوي للصراع الأميركي – الإيراني في المنطقة على لبنان، تمثّل في مستويين:
أ – مستوى تقديم الأوكسيجين للنظام السوري مالياً وسياسياً وإشراكاً في إلهاء الأميركيين في بغداد والرمادي وإقلاق المحيط العربي والتركي من الفوضى الدموية والمذهبية العراقية، وهو أوكسيجين مكّنه في الوقت عينه من تشديد هجومه المضاد على لبنان بعد انسحابه عسكرياً منه،
ب – مستوى الحرب بين “حزب الله” وإسرائيل، وما حملته من تدمير للبنان ومن ضرر على نسيجه الداخلي نتيجة أخطاء كبيرة في فهم مؤدياته الطائفية والوطنية بمعزل عن أمر عملياته الإقليمي الذي نجحت فيه إيران وحليفها اللبناني في فرض تراجع إضافي على أميركا وإلحاق هزيمة جزئية بحليفتها إسرائيل.
إثر ذلك، أطل الجزء المكمّل لهذا المشهد، والمتأتي من اكتشاف واشنطن لعقم “سياساتها العربية”، فاعتبر بعض إدارتها أن إعادة التموضع للإنطلاق من جديد تتطلب ولوج الباب الفلسطيني – الاسرائيلي بعد تجاهل له منذ نهاية عهد كلينتون، وبعد حصار للرئيس الراحل ياسر عرفات ودعم كامل لسياسات شارون – أولمرت منذ 2002، وبعد الانتخابات الفلسطينية وانقلاب “حماس” العسكري في غزة، فكان مؤتمر أنابوليس وما رافقه من معطيات إقليمية جديدة، منها معطيان إثنان يعنياننا لبنانياً:
– الأول، الانفتاح الاوروبي على دمشق بتشجيع من بعض الدول العربية ضمن مقولة مفادها أن الحوار معها أفضل من عزلها، وأن تطمينها قد يساهم في ابتعادها عن إيران، وهو ما شكّل عنصر دفع لدعوتها الى المشاركة في المؤتمر.
– والثاني، تأكيد إسرائيلي لا يحتمل اللبس لتفضيل الحوار مع النظام السوري على أي حوار مع الفلسطينيين، وتفضيل توسيع الدور السوري إقليمياً لطمأنة نظام الأسد الذي يبقى “أفضل من المجهول” (بحسب التعبير الإسرائيلي) والسعي من خلال لبنان تحديداً لإبعاده عن إيران، وتالياً قطع الصلة التي يؤمنها بين طهران و”حزب الله“.
في موازاة ذلك، كان الارتباك الاميركي تجاه إيران النووية في ذروته بين تقارير مخابراتية وسياسية متناقضة. وبرز موقف سعودي يؤثر تفضيل الانفتاح على طهران وليس دمشق. كما برز شكلان دوليان للتعاطي مع ملف المحكمة في جرائم الاغتيال تباطؤاً ثم تسريعاً منذ أيام، ولم يتّضح بعد مدى الرسوّ على وتيرة وعلى مستوى واضح من التعاطي الدولي القضائي والسياسي مع جرائم سياسية بامتياز.
المشهد الثالث: تهالك “الصيغة اللبنانية“
أعطى كل ما ذكر من معطيات إقليمية كمّاً من الإشارات المختلفة والانطباعات المتناقضة أحياناً لأطراف محليين ذوي مشروعية تمثيلية لا شك فيها، لكنها لا تغيّر من اضطرارهم الدائم للالتصاق بما يجري حولهم، ولا تعدّل من حجم ارتباط اكثرهم بمحاور وتحالفات يمكنها أن تشلّهم بقدر ما يمكنها مساعدتهم.
ولعل التخبّط في الاشهر الاخيرة هو خير دليل على ذلك، وخصوصاً في صفوف 14 آذار، إذ ان تكوين 8 آذار وارتباط “حزب الله” العضوي بإيران، وحلفهما مع النظام السوري، في ظل سياسة تقوم على كسب الوقت وتحسين شروط المواجهة أو التسوية يؤمّن نوعاً من الثبات، على الأقل منذ 2005.
على أن الأهم من ذلك ربما، في باب العلوم السياسية، هو ما يعيدنا الى البحث في مسألتين “جوهريتين” في العلاقات السياسية اللبنانية الداخلية.
الاولى، هي تلك المرتبطة بطائفية النظام وبنيته القائمة على تحاصص من خارج منطق “فصل السلطات” الذي يؤكّده الدستور. وهذه مسألة تحوّل على الدوام كل خلاف سياسي الى مدخل للصراعات بين قوى تمثل كتلاً طائفية كبرى مختلفة على خيارات السياسة الخارجية وأحجام التمثيل داخل المؤسسات. فيبدو الوصول الى تسويات لصراعاتها صعباً، ويصبح الجهد التسووي بحثاً عن مخارج تحدّ من أثر الخلافات على العلاقة بـ”الخارج” منصبّاً على إعادة توزيع الحصص الطائفية في مؤسسات الدولة (أي في “الداخل”) على نحو يعطل آلية اتخاذ القرارات فيها على أساس أكثريّ وأقلّي ضامناً عدم قدرة أي طرف على اتخاذ “مواقف” تقلق الأطراف الآخرين. وهو ما يمكن أن يؤدي، كما الآن، الى شلل كامل، والى انكشاف على وساطات ومفاوضات خارجية.
في هذا المعنى، تتحوّل “الديموقراطية التوافقية” اللبنانية الى مجال مساومات واختلافات، وتحدّ في الوقت نفسه عمل المؤسسات واحتمال إصلاحها والتأسيس لحل جذري للأزمات من خلال بناء دولة قانون تتعاطى واللبنانيين في وصفهم مواطنين بمعزل عن انتماءاتهم الطائفية أو ولاءاتهم السياسية، وتحدد بدقة موقع لبنان ودوره في المنطقة.
أما المسألة الثانية، فهي تلك المرتبطة بشكل التمثيل الطائفي الاستئثاري، المتأتي أحياناً من قانون الانتخاب الذي يعتمد نظام التمثيل الأكثري البسيط في دوائر واسعة، والمتأتي أحياناً أخرى من حدة الاصطفافات في لحظات الصدام السياسي – الطائفي. وهي مسألة بالغة الأهمية إذا راقبنا قدرة الممثلين الطائفيين على اتخاذ أي تموضع ثم الانقلاب عليه والسير الى سواه دونما خوف من خسارة جمهورهم أو حتى مساءلة هذا الجمهور لهم. ذلك أن الأهم في نظر الجمهور هو قدرة التماسك بين مكوّناته للمحافظة على جهوزية عددية صداماً أو تسوية مع جمهور طائفي متماسك آخر. وفي هذا ما يحرّر السياسيين من كل قيد مستند الى مشروعية تمثيلهم، وشروط تعاقدهم مع ممثليهم، وما يسري بالعدوى حتى الى القوى السياسية غير الطائفية، التي تفضل في الأزمات التبسيط في القسمة على التركيب أو التعقيد أو حق التمايز عن حليف هنا أو راع هناك خوفاً على التماسك العصبوي إياه، وإن على نطاق أضيق.
ولعل عطب انتفاضة الاستقلال التي أزهرت ربيعاً بيروتياً كان – الى جانب عدم إسقاط إميل لحود خلال حشدها المهول – دخولها السريع، والذي لا يغيّر في شيء من أهمية إنجازها الباهر الذي أنهى سنوات القهر والسطوة المخابراتية السورية، في باب التسويات التأسيسية للسلطة الجديدة، من دون أي محاولة لتعديل الممارسة التقليدية، ومن دون بحث جدي في شكل النظام الجديد، واستناداً الى المعادلات نفسها المرتبطة بالاستئثار الطائفي وما ينجم عنه من رشاقة حركة وتموضع، ومن توزيع حصص يعطّل القدرة لاحقاً على اتخاذ القرارات.
بناء على ما ذكر، وبتحليل بارد، لا يعود مستغرباً الوصول الى الشلل اليوم، ولا الى انعدام القدرة على انتخاب رئيس أو إنتاج قرار، طالما أن لا معنى لمفهومَي الأكثرية والاقلية في ظل خلوّ كلٍّ منهما من مكوّن طائفي أساسي في البلد (وهذه ربما قوة تظاهرة 8 آذار في السياق الداخلي، وما أفضت إليه من تحالف رباعي).
بناء على ما ذكر أيضاً، تتضح أهمية اعتماد التمثيل النسبي في الانتخابات لما تتيحه من كسر استئثارات التمثيل الطائفي وتؤمّنه من حدّ أدنى للحكم ولو قاطع طرف أو أطراف مؤسساته. على أن التحليل البارد وحده لا يكفي في حالنا الراهنة. فالموقف ضروري أيضاً لأن الخيارات المطروحة لا تزال – رغم العطب البنيوي المشار اليه – دون الحد الادنى من حق اللبنانيين في وطن مستقر. والمسؤوليات ليست متساوية في عدم بلوغ الحد الادنى هذا الذي يتيح ربما فسحة لتغيير الاصطفافات والبحث الجدي في الإصلاح والسعي، ولو النظري، لاحقاً لتبديل أمور تدبير السياسة. ولا يمكن بعض القوى أن تختبئ خلف شعارات فضفاضة ولو كان فيها شبهة حق: فلا المشاركة ولا إنهاء التهميش ولا حماية الحدود تتحقق من خلال الارتهان لبرنامج نووي هنا، أو لنظام استبداد هناك، ولا المقاومة – ولو على كفاءة قتالية عالية – يمكن أن تؤدي الى غير التفكك والتعصب والبلاء إن كان قرارها خارج حدود الوطن، وإن كان تكوينها طائفيا مذهبيا. ولا هي أساساً حاجة من خارج مؤسسات الدولة إن اعتدى الجوار أو جار.
عودة الى البدء
تعيدنا الخاتمة الى البداهة. الى البداية. الى حقنا في أن نعيش في وطن عادي ينتظر الإصلاح والتغيير من دون قتل ولا حروب ولا مشاريع شهر سكاكين عند كل منعطف. وهي بداهة على سذاجتها، وربما نتيجة ذلك، لن تتحقّق من دون تبدّل حقيقي في وضع محيطنا، ومن دون بدء في بحث ما ندّعي أننا استعرضنا عناوينه في هذه العجالة.
واجبنا على هذا الاساس، ليس الاستسلام الى عواصف المحيط والارتماء في أحضانها، بل محاولة إطلاق المبادرات السياسية الواحدة تلو الأخرى لتصعيب شروط الخارج على الداخل وتقليص اتكال الداخل على الخارج، أو على الأقل لأيجاد فسح بينهما لا تدفعنا دفعاً الى المزيد من التيه والترحال بين الصعاب ¶
لا يسعنا على عتبة السنة الجديدة، سوى أن نرسل ورود حبّ سمير قصير وياسمين عشقه للحرية لتتفتح على شبابيك سجون البعث الدمشقي، حيث ينتظر طلوع الضوء ميشال كيلو وفائق المير وأنور وأكرم البني وفداء الحوراني وعارف دليلة وكمال اللبواني وغسان النجار وأحمد طعمة وجبر الشوفي وعمر وعلي العبد الله ووليد البني وياسر العيتي وسائر معتلقي الرأي الأحرار.
ز. م.