صفحات سورية

لو استمع العرب إلى نصائح د.أنور عبدالملك

null

تهاني سنديان

يعتبر د.أنور عبدالملك من أوائل المفكرين الاستراتيجيين العرب الذين دعوا، ومنذ السبعينيات من القرن الماضي، إلى الالتفات إلى الصين كوحدة حضارية شرقية يتم التعامل معها في إطار إيجاد توازن مع الغرب الطاغي على منطقتنا العربية، وذلك منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية وحتى اليوم. ولم يكن يلتفت إلى هذه الشخصية المصرية الفذة أحد من القوى السياسية العربية المركزية. ودعوة د.عبدالملك لا تقوم على استبدال هيمنة بهيمنة، وإنما تنطلق من فهم عميق للوحدات الحضارية في العالم، والتعامل معها بتوازن يحفظ للعرب بنيتهم الحضارية المستقلة والحرة، والتي لا تلغي انفتاحهم على الجميع في جهات العالم الأربع.

د.أنور عبدالملك متخصص بالحضارة الصينية، وقارئ عميق لتياراتها ورموزها الفكرية والروحية، وبخاصة منها تعاليم كونفوشيوس، وكذلك تعاليم «المدرسة التاوية» التي أنتجت مع كونفوشيوس، ما بات يسمى في عصرنا الحاضر بـ«القيم الآسيوية».

يسخر د.عبدالملك مما يسمى «الحوار بين الإسلام والغرب»، وهو، كما يرى، حوار دفعت به السياسات الغربية الاستعمارية والسياسات العربية المخففة تجاه التحديات التي يفرضها عليها هذا الغرب نفسه، والتي لم تؤد إلا إلى مزيد من التبعية العربية الإسلامية للغرب ومشاريعه على أرضنا، خصوصاً من خلال قاعدته الأخطر: إسرائيل: «صرنا نعيش عزلة تامة عن العالم، خصوصاً منذ اتفاقية كامب ديفيد ومفاعيلها».. هكذا يفصح د.عبدالملك ويردف متسائلاً: «لماذا باتت سياساتنا الخارجية العربية لا تعرف إلا جهة واحدة ووحيدة في العالم هي أميركا؟.. لماذا هذا الارتباط القسري بالغرب؟ ولماذا لا يكون عنوان وجهتنا الأخرى هو الإسلام والشرق البعيد؟».

ينبغي إذاً أن نكسر هذه التبعية برأيه.. فالتلاقي مع الشرق ضرورة ملزمة لنا، هذا إذا أردنا أن نفك عنا حصار الغرب الذي شلّنا شلاً، وأدخلنا في حالة من الغيبوبة التامة.

في إطار دعوته العرب والمسلمين إلى قيام شراكة صينية-عربية/إسلامية في مواجهة تخريب بلداننا، من طرف أميركا والصهيونية، يقول د.أنور عبدالملك إنه يجب التركيز على دائرة المفاهيم والقيم المشتركة، أو المماثلة بيننا وبين أهل الشرق البعيد، وذلك بدلاً من المساجلات الشكلية والمقارنات الشائكة بين المضمون النظري لمختلف الحضارات والأديان.

ومن هنا يرى ضرورة السعي إلى بناء جسور التعارف المتبادل مع حضارات وثقافات الشرق، بأوسع المعاني، وعلى المحاور كافة، خصوصاً أن الحضارتين الرئيسيتين: الصينية والإسلامية تلتقيان على ساحة آسيا من المشرق العربي إلى المحيط الهادي. ولعل ماليزيا خير مثال على ذلك التشابك المصيري، وقد انطلقت إلى مكانة الريادة في مشروع تعبئة دول الآسيان (مجموعة أمم جنوب شرق آسيا) بشكل مطرد منذ سنوات من أجل التمايز عن دائرة الهيمنة الأميركية والغربية في آسيا، والارتباط المصيري بالصين، وكذا التعاون الاقتصادي والاستراتيجي مع اليابان، ثم كوريا، وكذا الأمر بالنسبة إلى دائرة تلاقي حضارة الإسلام مع الثقافات الهندوسية في نصف القارة الهندية -أساساً الهند وباكستان وبنغلاديش- في جنوب آسيا.

وعليه فإن حوار الحضارات المطلوب هنا، من وجهة نظر د.أنور عبدالملك، يجب أن يتم في المقام الأول بين أهم حضارتين في الشرق المعاصر (ثلثا الإنسانية): الحضارة الصينية والحضارة الإسلامية.. وهنا نقول «الحضارة»، ولا نقول «الدين»، ذلك أن حضارتنا الإسلامية التي نفخر بالانتماء إليها بالفكر والعمل، تحتوي في إطارها السمح غالبية الشعوب الإسلامية ديناً جنباً إلى جنب.. إن قطاعاً واسعاً في مصر مثلا، وفي غيرها من الأقطار العربية، هو من المسيحية الشرقية بخاصة، وبعض الفئات الأخرى (خصوصاً في إيران)، وكذا فإن حضارة الصين المعاصرة تشمل غالبية من أتباع الكونفوشية، وقطاعاً غير قليل من البوذيين والمسلمين والمسيحيين.. المهم، لا بل الأهم، في المعاملات بين الشعوب والأمم هنا، إنما هو تلاقي المصالح والغايات في مواجهة القوى التي تتنكر لهذه المصالح وتلك الغايات.

من جهة أخرى يرى د.أنور عبدالملك أن الحروب التي تخوضها أميركا في الشرق الأوسط هي ضد مستقبل هذه المنطقة، منطقتنا، ولا سبيل إلى مواجهتها إلا من خلال إقامة سياسة «تحالفات» مع قوى كبرى وحضارات مغايرة، والعمل على تكريس التعددية القطبية على مستوى كوكبي، ذلك أنه لا مستقبل حقيقياً للإنسانية في عالم الأفق الواحد، فمن شأن هذا العالم أن يسد على الآخرين حريتهم واستقلالهم، ويحل سياسة التدمير الشامل لكل ما أنجزته وتنجزه الإنسانية غير الغربية حتى الآن.

على أية حال، العالم سيعود قريباً، إن لم يكن قد عاد، إلى وضعية توازن القوى من جديد، من خلال سيادة التعددية القطبية… من هنا على العرب والمسلمين إذاً أن يعيدوا النظر في سياساتهم الاستراتيجية، وخصوصاً تلك التي تتصور أن الولايات المتحدة هي حليفتهم الدائمة، بينما هي على العكس من ذلك، كانت ولا تزال حليفة إسرائيل، العدو الأول والأخير للعرب.. والذي يسعى إلى تمزيقهم وتشتيتهم ليتسيّد على أشلائهم المتناثرة على هيئة كانتونات طائفية ومذهبية وإثنية، هنا وهناك وهنالك. ولو كان العرب «مرتبطين» بأحلاف دولية كبرى (شرقية خصوصاً) وذلك على قاعدة المصالح الإستراتيجية لهم وللقطب الآخر غير الغربي، لما كانت اجتيحت بلدانهم واستبيحت على هذا الشكل المهين والمدمر، ولما استرخصت دماؤهم وثرواتهم، وهددوا فعلاً بفناء حاضرهم ومستقبلهم في الصميم.

ولو استمع العرب إلى تعاليم ونصائح د.أنور عبدالملك منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي، لكانوا وفروا على أنفسهم كل هذا الدمار المعلن على أرضهم، والمرسوم على جبين إنسانهم. خاصة أنه كان أول مفكر عربي يتنبأ بصعود بلدان شرق آسيا، وبأن الصين ستكون المنافس الأول للولايات المتحدة، والقطب الذي سيخشى جانبه من طرفها، في مطلع القرن الحادي والعشرين.

كاتبة من لبنان


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى