في مجالس السيدات
إعداد وتقديم أثير محمد علي
كولاج المادة التي تقدّمها “ذاكرة الحداثة” يعود لباب “في مجالس السيّدات”، الذي خصّصته “مجلّة السيدات والرجال” لنقد فضاء المرأة الخاصّ.
إلى تخوم عام 1926 تترك مجالس السيّدات الباب موارباً لتلجه المجلّة، كي تراقب بطلاته من نساء الفئات الاجتماعية الوسطى، في محاولة لتقريب همومهنَّ ودخيلتهنَّ وأخلاقيات سلوكهنَّ للقارئ، في مشهديّة دالّة ولغة يوميّة معبّرة، تبتعد عن رتوش البيان الإنشائيّ والخطابيّ، الذي طبع الكثير من سرديات المرحلة الرساليّة.
داخل ردهات هذه المجالس تساجل النساء المتنوّرات وهنَّ يمارسن “نميمة” النقد والنقد الذاتي في الآن الذي يرتشفنَ فيه القهوة، أو وهنَّ يتابعن مشاوريهنّ في أرجاء الأماكن العامّة في الأوقات المخصّصة للنساء.
في “مجالس السيّدات” تستعرض النساء أمام القارئ، من خلال قلم روز أنطون حداد (1882-1955) محرّرة المجلة، عري أفكارهنَّ وحراك ميسهنَّ في الآن الذي يعرضن فيه أدائهنّ الاجتماعيّ، ومقارباتهنّ السياسيّة، ومواقفهنّ من الاستعمار، ورؤيتهنّ للتكلّسات التاريخيّة، كما يتركن آثار موارباتهنّ النفسيّة مطبوعة على الورق للعلن. أما روز أنطون حداد (1882-1955) فهي صحفيّة وناشطة نسويّة، لبنانيّة المولد ومصريّة الدار والإقامة، ولدت في طرابلس الشرق، وفيها التحقت بمدرسة البنات الأمريكية للدراسة.
هاجرت إلى مصر في مرحلة شبابها المبكّر، وسكنت في الإسكندرية حيث عملت في حقل التدريس مدّة ثلاث سنوات، وخلال هذه الفترة كتبت للصحافة في مجلة “الجامعة” التي كان يصدرها أخوها فرح أنطون.
وفي 1 نيسان 1903 أسّست مجلة شهرية خاصّة بها، دعتها “مجلّة السيّدات والبنات”، وبقيت تصدر حتى سنة 1906؛ ومن ثمّ هاجرت روز أنطون إلى نيويورك عام 1907، للالتحاق بأخيها فرح بعد انتقاله للمدينة الأمريكية، حيث شاركته العمل على تحرير وإدارة مجلة “الجامعة” من جديد هناك.
في نيويورك تعرّفت إلى الأديب الصيدلانيّ والباحث الاجتماعيّ نقولا حداد، وتزوّجته في 20 آب 1909، وله يعود لقبها الثاني الذي عرفت به “حداد” تبعاً للعادة المستحدثة حينها بين عائلات الطبقة الوسطى والمتبنّاة من بعض العادات الأوربية.
بعد عودة الحياة الدستورية للحكومة العثمانية ترجع روز أنطون حداد إلى مصر برفقة الزوج والأخ وتستقرّ فيها إلى يوم وفاتها.
في مصر تعاود إصدار مجلتها بالتعاون مع نقولا حداد، ولكن هذه المرّة تحت اسم “مجلة السيدات والرجال” وبقيت المجلة تصدر في القاهرة مدّة ربع قرن.
في سطور الكولاج التالية يستطيع قارئ موقع “الأوان” مشاركة النسوة مجالسهن، والإصغاء لفرادة أصواتهنّ، وتخيّل سيمياء الصورة التي يتحرّكن ضمن سياقها التاريخيّ في عشرينات القرن الماضي.
ثورة السيدات ضدّ الفضائل التقليدية
روز أنطون حداد
من مزايا فصل الشتاء على فصل الصيف تزاور السيدات المتواتر واجتماعاتهن الأنيسة التي يكثر فيها القيل والقال. ولذلك يحسن أن نسمي هذا الموسم في مصر “موسم الثرثرة”.
من حسن حظي أن حضرت مجلساً من مجالسهن في هذا الموسم المبارك إذ دعتني ربة المنزل إلى حفلة عيد ميلادها. وكان سروري عظيماً بحضور هذه الحفلة لأن حفلات أعياد المواليد نادرة بين الشرقيين.
بدت ربة المنزل في عزّ شبابها وبهجتها. هيفاء القد، أسيلة الخد، فاترة اللحظ، مشرقة المحيّى، بين شفتيها المصبوغتين ينبوع ابتسامات لا ينضب. وقد ارتدت ثوباً أبيض جميلاً. وكلما دخلت سيدة عانقتها وهنّأتها بعامها الجديد ودعت لها بالعمر المديد.
سألتها إحدى المدعوات: كم ميلا قطعت من مرحلة العمر يا عزيزتي؟ فقالت: احزري. فتفرست فيها وقالت إنّ ملامحك النضيرة تضلّل قراء صفحات الوجوه. فلا أستطيع الحزر. فأجابت: إنّي منذ اليوم في الخامسة والخمسين.
فاستغربت قولها وقلت: تالله ما وراء هذه النضارة أكثر من ثلاثين ربيعاً. فقالت لي: إنك تمزحين. لو كانت صفحات ملامحي تنطوي على ثلاثين فقط هل كنت أحتفل بعيد مولدي؟ قلت: ولماذا؟ قالت: لأننا في بلادنا لا نعيّد إلا لميلاد الأولاد والعجائز فقط.
فضحكت السيدات جميعاً وإذا بسيدة أخرى تدخل قائلة: يا لله إن سلمكم تفضح أعمار الناس. لم أعلم أني صرت عجوزاً إلا حين صعدت هذه السلم المتعالية. فيا لله أخبرنني هل أنا شمطاء أيضاً.
فقهقهن جميعاً وقالت إحداهن: صه لئلا ينقل هذا الحديث إلى زوجك وهو يغالط نفسه في عمرك ليقنع نفسه في عمره أيضاً. فأجابت ضاحكة مازحة: زوجي؟ وماذا يهمّني من اعتقاد زوجي. إن كان يرتاب في عمري وما هو راضٍ فليطلق.
فقلت: ما شاء الله. نعمت الزوجات أنت! وقالت أخرى: يا لله. هذه المرة الثانية أسمعك تتكلمين عن زوجك بهذه الروح. فهل كل حياتكما هكذا؟ فقالت: لا وحقّ من حدّد الأعمار. قضيت معه إلى الآن عشرين سنة ونحن في خير وسلام. ولكنه منذ تعرف جارتنا خسرت قلبه. فقالت الأخرى: إذاً المسألة مسألة غيرة. فالغيرة هذه نار يا ناس… أجابت: كلا. لست أغار. إنما زوجي علمني الغيرة. لأنه في البيت يحبّني وفي الخارج “يدور على هواه”. فقلت: الله. الله! أبعد عشرين سنة تحيى الغيرة؟ فقالت مدام ن: “معليش” الغيرة علامة الحب. فأجابت ربة المنزل: وهل الغيرة تعني الحب دائماً؟
فصمتن جميعاً فترة كأنهن ينظرن جواباً من خبيرة. ثم قالت إحداهن: هذا جواب خاص بمدام س. فإنها فيلسوفة حبّ ولها فيه الرأي الأعلى. فأجابت مدام س باسمة: حيث لا غيرة فلا حبّ. والحبّ يطرد الغيرة. إنّ الحب الصادق يستلزم الثقة. فحيث تكون الثقة متبادلة فلماذا الغيرة؟ فأجابت أخرى: لا بدّ من الغيرة في بدء الحبّ ريثما تتوطّد الثقة فتطرد الغيرة. ولكنّ صاحبتنا بعد عشرين سنة صارت الغيرة تدبّ إلى قلبها. فهل غيرتها دليل على حبّها أو ضعف في الخلق. عذراً يا مدام. إننا نقرّر مبدأ فلسفياً.
فقالت أخرى: أنا لا أعرف للحبّ شريكاً. فإما حبّ أو بغض. ولا أفهم شيئاً من الثقة: لأنّ ثقتنا نحن النساء بالرجال أصبحت كثقة الشرقيين بدول الاستعمار. فإن كان لنا ثقة بهذه الدول فلنا ثقة بالرجال.
فقالت مدام ك: يا سلام. أدخلنا بالسياسة كالجلسة الفائتة؟ حماية واستعمار وانتداب وشرقي وغربي. دعينا من هذا الحديث الذي هو أطول من حديث الحيات. أو هو كما يقولون موال إفرنجي لا آخر له.
فسألت أخرى: ما هو موال الإفرنجي. فأجابتها: كان إفرنجي يرافق شرقياً في طريق مشياً على الأقدام. فهاج جمال المناظر الشرقيّ وقال للإفرنجي دعني أغنّي موّالاً وأنا راكب على ظهرك. فسمح له. ولما انتهى من موّاله ونزل عن ظهره قال الإفرنجي: وأنا أحبّ أن أغنّي موالاً أيضاً فاركبني على ظهرك. فركب الإفرنجي وأخذ يغني ترالا لا لا لا لا إلى ما لا آخر له والشرقيّ يصيح من تحته أما انتهى موالك؟ فيجيبه ترالا لا لا لا. وهكذا بقي على ظهره طول الطريق وموّاله لا ينتهي. وقالت المتكلمة متحمسة: والله هذه قضيتنا نحن الشرقيين مع الغربيين.
فأجابت مدام ن: أوليس حبّ الوطن حبّاً يستوجب الغيرة على مصالح البلاد. إذا كان الإنسان يغار على من يحبّه ويكره أن يرى له شريكاً في حبّه. فكيف لا نغار حين نرى الفرنساوي أو الانكليزي يأتينا وهو ليس شريكاً لنا في البلاد فقط بل يكون أصيلاً فنصبح غرباء في بلادنا ويتمّ فينا وفيه قول القائل:
يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت ربّ المنزل
قالت مدام س: والله لقد صدق فينا هذا القول. إذا كان هذا جزاء التناهي في الضيافة وحبّ الغريب وكرم الأخلاق فيا للخسارة. إذاً هيّا بنا نحن السيدات نثور على تقاليدنا هذه لنرى أوروبا مثلما رأتهُ في حرب الدروز فقد رأت كيف يثور رجال الشرق حرصاً على الشرف، فهلم نري الأوربيون أن في الشرق نساء كما أنّ في السويداء رجالاً. هيا بنا نوقد ثورة في طلب الحرية والاستقلال. فقالت مدام ك: صه. لا تذكري الثورة فإن الجدران جواسيس. فأجابت مدام س: نعم. نثور ونثور وسلاحنا التربية الصحيحة القويمة. نربّي أولادنا تربية جديدة وسنقلع تلك المبادئ القديمة التي ضيّعت الشرق، أعني التناهي بإكرام الضيف وكرم الأخلاق ودماثة الطبع. بل نعلم أولادنا حبّ النفس وهو أساس كل حبّ. فصاحت سيدة: بالله عليك اقصري هذا الحديث. إنني أضنّ بمبادئ الشرق الجميلة الشريفة، تلك المزايا الشرقية التي لا نجدها في الغرب. فقالت مدام ن: بالله! أتريدين أن نبقى نعاجاً ومطايا والإفرنجي يغني على ظهورنا ترالا لا لا لا إلى الأبد. أما سمعت حكايات ضيوف الافرنسيس في سوريا؟ فقلت: ما هذه الحكايات. فأجابت: علم الافرنسيس أنّ الشرقي كريم يقدم لزائره تحفة يعجب الزائر بها وأن الشرقي يفهم أن الإعجاب براعة طلب ولا يردّ طلباً. فصاروا كلّما رأوا تحفة في بيت قالوا: ما أجملها. وصاحب البيت يقول: “مقدّمة” والفرنساوي ينتظر هذه الكلمة ليأخذها. وهكذا عاد كثيرون منهم بتحف سوريا إلى سوق الدلالة في باريس. قال السوريون: فرنسا حبيبتنا. فصدق الافرنسيس وجاءت فرنسا لتأخذ سوريا هدية من المحبين. فهل تعجبك هذه التربية؟ فإما أن نسلم بلادنا بكرم وسخاء ونبقى بلا فراش ولا لحاف أو أن نربي أولادنا ونسلّحهم “بسلاح الغرب الجديد”، لكيلا يكونوا نعاجاً مستسلمة بل يكونون أسوداً تحافظ على شرفها وحقوقها في الحياة والحرية. فقالت أخرى: ما هو سلاح الغرب الجديد؟ هل تعنين به الطيارات والدبابات.. الخ. فقد سمعت أن هذا السلاح لا يذكر بإزاء السلاح الأبيض الذي يحارب به الدروز.
فقالت: لا أعني هذا ولا ذاك بل أعني أسلحة أمضى وأرهف. وهي أن نعلم أولادنا أخلاق الغرب التي هي الطمع والأثرة وحب النفس والتضحية لأجل الوطن، والخشونة واحتقار كل ما لا يتفق مع مصالحنا. وبغير هذه التربية لا نستطيع أن نقاوم تيار الغرب الجارف الأعمى الذي لا يرى أمامه حقاً ولا إنسانية. أعني أننا نحارب الغربيين بنفس المبادئ التي يحاربوننا بها. لا نقدر أن نربي الكبار هذه التربية لأن الكبار رحمة الله عليهم سلفاً. أما الصغار فهم المنبت الجديد الذي يجب أن نربيه لكيلا يكون سمكاً لذيذاً على مائدة جمعية الأمم.
فقالت ربة المنزل: اعملن معروفاً وغيّرن هذا الحديث. إنّ مدام ل. إفرنجية تزوّجت سورياً وستزورني اليوم وأخاف أن تسمع هذا الحديث فتمجّه. فقالت مدام ن: يا لله ما هذا الضعف يا مدام. لماذا لا نتكلّم هكذا أمامها لكي تذهب وتحدّث قومها بما تسمع. ولماذا نخجل أن نكون أحراراً في بلادنا. اسمحي أن أقول لك أنك من أولئك الذين رحمة الله عليهم سلفاً. فقالت: مالي وما للسياسة، فأنا وتلك السيدة صديقتان وأحبّ أن نبقى صديقتين. فأجابت: إننا ندفع ثمن هذه الصداقة غالياً جداً يا مدام. فأنا لا أستصوب هذه الصداقة لأني أحب أن تبقى بلادي لأولادي. الآن كنت تقولين إنك كنت تحبّين زوجك وتغارين عليه ولا تريدين شريكة لك في حبك، فكيف تقبلين صداقة هؤلاء الأجانب وهم يشاركونك في بلادك ويسلبون إرث أولادك ويحتقرونك ويذلوك. فوالله عارٌ علينا نحن السيدات أن نقبل ذلك. فهيا بنا نثر ثورتنا أيتها السيدات. وويل للمغلوب إذا نهضت السيدات الشرقيات. وهم يقولون الحرب لمن يريد الحرب والسلم لمن يريد السلم. فإذا الرجال اختاروا السلم فالنساء سيحاربن إلى الأبد.
وفيما نحن في هذا الحديث دخلت سيدة على آخر موضة وهي “تتحنجل” كأنها الحمام المحجل وقالت: دعنَ هذا الكلام الفارغ. لا شرق ولا غرب. نحن لا نعرف أن نعيش بدون غرب. فقالت إحداهن: ما هذا الكلام يا مدام. فأجابت: نعم لا نعرف أن نعيش من غير الاستعانة بالغربيين. أمس أعطيت فسطاناً لخياطة سورية فأتلفت موضته ورميته. وأمس كلفت نجاراً وطنياً أن يصنع لي خزانة فذقت المرّ من تسويفه ومماطلته قبل أن أنجزها وكانت “بهدلة”. لا لا دعينا من هذا الكلام الفارغ. فقالت مدام س: لهذا يجب أن نثور ثورتنا. يجب أن تخلعي هذه الموضة الإفرنجية وتلبسي زياً وطنياً لا يعرف أن يصنعه إلا أبناء البلاد. إلى الثورة يا سيدات إلى الثورة. فصفقت جميع السيدات. وعند ذلك دخلت الخادمات بالشاي والحلويات. عيد سعيد يا مدام. يعاد عليك وأنت رافلة بحلل الاستقلال. وأظن أنّ الثورة انطفأت عند عتبة الباب. رحمة الله على القائل “لنا الأقوال ولهم الأفعال”. (مجلة السيدات والرجال، ج3، س7، مصر، 15 شباط 1926)
السيدات والمعرض المصري
روز أنطون حداد
قرع جرس التلفون. خير إن شاء الله. لبَّيته فإذا الطارق صديقة قديمة تقول: جئت إلى مصر لمشاهدة المعرض، فهل يسعدني الحظ أن نذهب معاً إليه. فقلت: إنه لمسعدني.
واتفق أن كان يوم زيارتنا للمعرض اليوم المختص بالسيدات. فسرّني هذا الاتفاق جداً لأني توقعت فيه ثلاث رغائب معاً: الأولى زيارة المعرض، والثانية الاجتماع بصديقة قديمة كان الزمان باخلاً بلقائي بها. والثالثة أني أستبضع بضاعة الحديث في باب “مجالس السيدات” هذا، على أمل أن تكون بضاعة نفيسة. “بأبي الشموس الشارقات شواربا” دخلنا إلى المعرض فإذا به يغصُّ بالنساء من كل الطبقات والجنسيات فكأنه لم يكن معرض الزراعة والصناعة بل كان معرض الأزياء والعادات. فمن جمال طبيعي إلى جمال مستعار. ومن وجوه لا تميل عينك عنها إلى وجوه لا تستقرّ العيون عليها. ومشينا بين ماشيات وجالسات وزاهرات وباهرات، ومقنَّعات وسافرات، وسواعد كاسيات وعاريات، وعيون فاترات ناعسات، ولواحظ نابهات ويقظات، وقدود مائسات أو مائلات وأعناق متلعات تارة وأخرى ملتفتات، وألسنة لاغطات، بعضها كأزيز النحلات اللاسعات، وبعضها كهيمنة النسمات العطرات – كذا كان المعرض جديراً بأن يدعى معرض السيدات، لا معرض الزراعات والصناعات.
قلت في نفسي إذاً لقد توفقت اليوم إلى حديث بل إلى أحاديث شيقة لقارئات مجلة السيدات. فطفنا أرجاء المعرض وشاهدنا بدائعه وروائعه من آلات زراعية مختلفة الأشكال والأغراض، إلى حاصلات الأقطان والحبوب والخضرة والفاكهة، إلى نتاج الماشية وكلها مما يشهد بتقدم الزراعة في البلاد تقدماً محسوساً في العقد الأخير من السنين. ثم عكفنا على قسم المصنوعات فأعجبنا أيما إعجاب بصناعة الموزاييك البديعة من مصنوعات المدرسة الإلهامية. كما أننا دهشنا لإتقان صناعة السجاد المضاهي بجماله السجاد العجمي على أنواعه والتفوق عليه بمتانته، ثم استغربنا كل الاستغراب إتقان صناعة الأنسجة على اختلاف أنواعها ولاسيما أنسجة معامل السيد اللوزي الحريرية – وإنما تلا هذا الإعجاب وذلك الاستغراب أسف عميق على قلة إقبال أهالي البلاد على نتاج هذه الصناعات ولاسيما صناعتي الموزاييك والسجاد اللتين لا تضاهيان في الغرب.
ثم ارتحنا في إحدى القهوات التي جعلت للاستراحة. وما هي إلا هنيهة حتى أقبلت علينا سيدتان أخريان من صديقاتنا. فقلت: مرحى أيها المعرض الجميل العظيم الجامع شمل الأصدقاء. فجلسنا بعد التحيات والأشواق وبسطنا جميعاً أبسطة الأحاديث المختلفة عن المعرض وغيره. وقالت إحداهن: لهذا المعرض فوائد جمة ومنها اجتماع الأصدقاء بعد فراق طويل، فما أبهج اجتماعنا الآن. وقالت الأخرى: ولكن له مساوئ أيضاً. ولعل مساوئه تجمعت في هذا اليوم. فقلت: كيف ذلك؟ قالت: شاهدت اليوم أموراً كثيرة لم أكن أود أن أراها أو كنت أود أن أجهلها بتاتاً.
اندلاق النساء
قلت: عجباً ما الذي ساءك؟ قالت: ساءني أن أرى نساء بلا رجال. قلت: لله منك وماذا في ذلك؟ قالت: ما رأيت في حياتي النساء “يندلقن” كما “اندلقن” اليوم. فاستغربت أسلوب تعبيرها وقلت لعلك تعنين أنهن يتدلعن. فقالت: بل أعني أكثر من ذلك. أعني أنهن “مائعات” دلعاً حتى أنهن تدفقن استهتاراً بالآداب والكرامة والسلوك. فكانت كل واحدة منهن تتصرف كأنها داخل غرفتها الخصوصية. فارتفعت الكلفة بينهن ونزعن براقعهن وبرانطهن حتى أحذيتهنَّ. فقالت أخرى: ويك لا تختلقي. فأجابت: ثقي أني لست مبالغة. رأيت بعض السيدات يمشين بالجوارب وأحذيتهن تحت آباطهن. ورأيت بعضهن يحتذين البنطوفلي. فقالت أخرى: اعذريهن. لعل أحذيتهن العالية الكعب آلمتهن فخلعنها. فأجابت: بل الحذاء الواطئ الكعب استاء من إعراضهن عنه فجفاهن اليوم. فاضطررن أن يمشين حافيات إذ تألمن من علو الكعب. فقالت أخرى: لعلمهن أن حذاء الزيارات غير حذاء المعارض. فقلت: وأي حال أهم من حال العرض. فقالت: أخرى أظنهنَّ من طبقة الخادمات اللواتي يتشبهن بسيداتهن، وليس للخادمة سوى حذاء واحد عالي الكعب تحتذيه للزيارة ولسوق الخضار وللمعرض. فقالت صديقتي الأولى: لا تجعلي يا عزيزتي حدّاً بين السيدة والخادمة. فقد رأيت بين السيدات اللواتي تدلّ حلاهن وحللهن على أنهن من الأميرات أو أشياء الأميرات يتصرفن تصرفات لا تتصرفها حتى الخادمات. فكنّ مثلاً يلمسن بأيديهنّ مع أنه كتب عليها “ممنوع اللمس بالأيدي”. فقالت أخرى: لعلهن لا يعرفن القراءة. فقالت: إذاً هن كالبعير يحمل أسفاراً. وما قولك باللواتي مشين حافيات هل كنّ يجهلن أن حذاء الزيارة لا يصلح للمشي في معرض طويل عريض. فقلت: وهؤلاء معذورات إذا كن يجهلن أن حذاء الزيارة لا يصلح للمشي في معرض طويل عريض. فقلت: وهؤلاء معذورات إذا كن لا يعرفن القراءة لأن المطالعة تعلمهن ما يجهلنه. فقالت: ولكنهن لم يكن جاهلات في أحاديثهن ومجونهن وهزلهن ومزاحهن بل كن بارعات حاذقات يتفنن في النكات والتوريات القبيحة ويتخلعنَ في مشيهن. إذاً جهل القراءة والكتابة لم يقلل من براعتهن في الخلاعة.
النساء بلا رجال
قلت: إذاً قد أخطأت إدارة المعرض إذ خصتهن بيوم لأنها تظن أن الحريم المحجبات لا يأتين إلى المعرض إذا كان فيه رجال… فقاطعتني قائلة: لقد أحسنت إدارة المعرض إليهن إذ أخلت لهن الجو فأطلقن لحريتهن العنان. وبدأ كل ما كان مكتوماً في الصدور. فقلت: لهذا أقول أن كل نظام يفرق بين النساء والرجال يكون وبالاً على الآداب. ولو كان هذا الجمع العظيم الآن خليطاً من النساء والرجال لكان كل جنس يكبح جماح ابتذاله حرصاً على كرامته أمام الجنس الآخر. ففي يقيني أن اجتماع الجنسين مهذب لهما. فقالت أخرى: لا خير في التهذيب المصنع. فقلت: إن التهذيب الحقيقي يتغلب أخيراً على التهذيب المصطنع. فقالت صديقتي: هذا إذا كان هنا زعيمات للتربية والأخلاق كما أن هنا زعيمات للسياسة. فقلت: تتكلمين “كأنك غريبة في أورشليم”. ألا تدرين أننا في بدء نهضتنا وأن بيننا راقيات. أما رأيتن تينك السيدتين اللتين دخلتا معنا ومعهما فتاة كانت تشرح لهما المكتوب وغير المكتوب، ثم دخلت بهما إلى قاعة المحاضرات. هذه الفتاة أنموذج النبت الجديد في نهضتنا الحديثة.
ثورة البرنيطة على الطربوش
فقالت رفيقتي: حقاً إننا نحن نطلب دائماً أن نمشي بخطى واسعة. ولكن خطى حياة الشعوب قصيرة بطيئة. فقالت أخرى: ولكن ما قولك بثورة الطربوش والبرنيطة في مصر الآن؟ أليست محاولة وثبة سريعة. فقالت تلك: الحق إن موضوع البرنيطة والطربوش غريب جداً. ولا أفهم لماذا هذه القيامة على الشبان الذين يريدون خلع الطربوش ولبس البرنيطة. والسيدات يلبسن برانيط فلماذا لا يلبسها الرجال أيضاً. فقالت مدام س: من قال أن ما تفعله السيدات صواب. والله إنهن مخطئات جداً ليس من حسن الذوق أن يلبس الرجال أو النساء البرنيطة في هذه الأوان.
فأجابت مدام ك: وما قولك إذن بالأتراك الذين جعلوا لبس البرنيطة قانوناً محتوماً. فقلت أن الأتراك استقلوا استقلالاً مطلقاً على النظام الجمهوري البحت أو الحكم الذاتي وراموا أن يتمموا تطورهم بخلع كل تقليد قديم فخلعوا الطربوش والعمامة وتبرنطوا. وبغيتهم أن يسيروا في تيار أوروبا. أما نحن فما زلنا ننازع أوروبا المغتصبة استقلالنا. والآن نحن في أحرج أوقات النزاع والدماء تسيل والمساكن تهدم، فهل من حسن الذوق أن ننبذ زياً قديماً لنا وأن نضع زيهم أو شعارهم على رؤوسنا. مهما كانت البرنيطة أفضل صحياً واقتصادياً من الطربوش لا يحسن بنا أن نضعها على رأسنا ونرمي طربوشنا لأجلها ونحن في نزاع شديد بيننا وبين أصحابها. لقد ملأوا الدنيا جعجعة بمدنيتهم ومفاخرةً لنا بها. فإذا كنا نتهافت على أزيائهم كنا كأننا نؤّمن على فظائعهم التي يرتكبونها في بلادنا وهم يعدونها تمديناً. فبيننا وبين الأتراك فرق في الموقف فإذا كان إبدال البرنيطة بالطربوش محمدة عندهم، فهو مسوءة عندنا الآن. وإذا كان للطربوش مساوئ صحية أو اقتصادية تستلزم استبداله فلماذا نستبدل به القبعة الأوربية؟ لماذا لا نخترع لنا غطاء للرأس غيره وغير البرنيطة كما فعل العراقيون إذ استنبطوا شكل برنيطة جميل غير شكل البرنيطة الأوربية، فما كانوا مقلدين لخصومهم ولا مقيدين بتقليد قديم. لماذا لا نفعل فعلهم؟ لماذا لا نختلق غطاء جديداً جميلاً لرؤوس السيدات أيضاً وننبذ البرنيطة الأوربية التي تستنزف جانباً من ثروة الشرق وتصبها في أوربا. إني أرى أن الحالة الحاضرة في الشرق الأدنى عموماً تستلزم عقد مؤتمر خاص بالأزياء يشترك فيه النساء والرجال ليقرروا أزياء جديدة عمومية لرجال الشرق ونسائه عموماً. وبذلك نثبت أننا مستقلون بأفكارنا ومستغنون عن الغرب.
فأجابت صديقتي: والله إنك لعلى حق. إن أوربا تستعبد الشرق. والشرقيون يجرون وراءها جري الغنم وراء الجزّار. فماذا يمنعها أن تشمخ وتتفاخر وتستفحل. إن الخطوة الأولى للتملص من استعبادها هي أن نقنعها بالعمل لا بالقول أننا في غنى عنها بكل شيء. ومن الغباوة أن نظن أننا لا نستغني عن أوربا. نقدر أن نعيش بما تنتجه وبما نصنعه مهما كان ونقدر أن نصنع عندنا جميع ما نحتاج إليه. والكلام بسرك إن شكل الطربوش أجمل من شكل البرنيطة لعلَّ الشبان لا يعلمون ذلك. فليستفتوا الشابات به قبل أن يقرروا أمراً بهذا الشأن.
نبوية موسى
عند هذا الحديث مرَّ بنا سربٌ من السيدات وهنَّ بغاية الحشمة والوقار يحففن حول سيدة جليلة المظهر، فتساءلنا عنها فقيل لنا أنها السيدة نبوية موسى. فسألت إحدانا وهي قادمة حديثاً إلى القطر المصري: من هي نبوية موسى؟ فقلت: يا لله: ألم تسمعي باسم هذه المربية المشهورة المفتشة في وزارة المعارف، ومن يجهل مقامها وقد تردد ذكرها أخيراً كثيراً في الجرائد الآن لخلاف وقع بينها وبين معالي وزير المعارف.
فقالت إحدى الصديقات: أجل هذه السيدة أصبحت أشهر من نار على علم من قبل أن يقع خلاف بينها وبين معالي الوزير. هنا يحفلون ويحتفلون ويكرمون أشخاصاً ليس لهم شيء من الفضل الذي لنبوية ولا يفطنون أن يكرموا سيدة كنبوية تبني في أخلاق الأمة. وقالت تلك: عجباً. إذا كان لهذه السيدة هذا الشأن العظيم فكان يجب أن تطير شهرتها في آفاق البلاد العربية ويسمع بها الداني والقاصي. فقلت: ألا تعلمين يا عزيزتي أن الجواهر الرزينة لا تطير كالريش المزخرف الفارغ القلب. ومن نكد الدنيا أن الناس تستهويهم البهارج والزخارف أكثر من الحقائق. إن السيدة نبوية عاملة بسكوت وهدوء وبلا ثرثرة ولا طنطنة فقلما ينتبه أحد لفضلها. فأجابت رفيقتي: إن العظمة الحقيقية هي في من يعمل لأجل العمل لا لأجل التمجد والفخفخة والظهور. فقالت أخرى: إن سيدة لها هذه الصفات التي تقولان عنها تستحق مكافأة من الحكومة التي تسخو بالألقاب والرتب. فإذا غفل الناس عن استحقاقها التكريم فهل تغفل وزارة المعارف عن حقها بالمكافأة التي تستحقها. فقلت: إن وزير المعارف رئيسها الأعلى كافأها بالإهانة وغضب عليها لتنبيهها الوزارة إلى بعض العيوب في إدارة المعارف. فقالت صديقتي: عجباً أن تجازى جزاء سنمار وتبقى سيدات القطر ولاسيما تلميذاتها والمتخرجات من تحت يدها صامتات لا يحتججن على ذلك. إننا في عصر المطالبة بالحقوق واستردادها. ومن يسكت عن حقه ضاع عليه. فقالت أخرى: حبذا أن تتفق بعض السيدات على تأليف جمعية غرضها الدفاع عن حقوق المرأة والمطالبة بها. حتى إذا هضم حق سيدة كنبوية موسى قامت هذه الجمعية للدفاع عنها.
فرقتان من السيدات في حرب
وكانت سيدة وطنية على مقربة منا تسمع حديثنا فما تمالكت أن قالت: بارك الله به اقتراحاً. إن بعض حوادث الشرق الأخيرة أثبتت لنا أن السيدات يستطعن ما لا يستطيعه الرجال في تحصيل الحقوق الضائعة. ولذلك يجب على السيدات أن ينهضن للعمل مادام عملهن عظيم الجدوى وإلا كنّ مسؤولات لدى التاريخ. وها الثورة السورية برهاناً محسوساً على تأثير السيدات في الدفاع الوطني. وقد عدت من الشام حديثاً ونار الثورة تتأجج بين أيدي السيدات. واليوم قرأت في إحدى صحفنا هنا تلغرافاً مفاده أن الثوار ألفوا فرقتين من النساء للقتال. فلم أستغرب الخبر. لأني وأنا هناك علمت أن عصابة من النساء تألفت بقيادة السيدة عائشة الزند. وقد قامت هذه العصابة بخدمات جليلة. وقيل أنها أرسلت أخيراً خطاباً إلى فخامة المفوض السامي ده جوفنل تقول له: “لقد أنذرت الثوار أخيراً بأنك لا تقبل صلحاً إلا على مبدأ التسليم بلا قيد ولا شرط. فإن كان شرف فرنسا يستلزم هذا الإنذار فما عليها إلا أن ترسل جنودها لمنازلة النساء. فقد رأوا من حرب رجالنا كفاية فليروا حرب نسائنا الآن”.
فقالت أخرى: يا لله! ويا للعجب. إذن ما كنا نقرؤه في التاريخ عن بطولة بعض النساء كجان دارك ليس حديث خرافة أو مبالغة تاريخية وها نحن الآن نعاصر بطلات وباسلات لا شك أن عائشة الزند هذه جان دارك سوريا. فقالت أخرى: لم تعرف فرنسا إلا جان دارك واحدة وأما سوريا فستعرف ألف جان دارك. أما قرأتن خطاب أخت فقيد الوطن فؤاد بك سليم لأخيها الآخر نصري بك سليم الذي في الحرب. فقلنا جميعاً: وما أمر هذا الخطاب. قالت لقد أعجبت بذلك الخطاب أيما إعجاب وتلوته مراراً حتى حفظت بعضه. فبعد أن بثت ما بثّت من لواعج الأسى والحزن على أخيها فؤاد قالت: فليكن قدوةً لكل عربيّ يريد أن يحيا مجيداً أو يموت شهيداً. ثم قالت موجهة الخطاب لأخيها نصري: أما أنت فإني وإن أكن أصبحت أخاف عليك خوف الجبناء على أنفسهم فلا أنصح لك ولا أسمح أن تترك جهادك المقدس. وإياك أن تغفل عن أن تعزيتي هي في بقائك محارباً بسيف أخيك لكي تبني مجداً لقومك وعزاً لاسمك – إلى غير ذلك من هذا الكلام الحماسي. فقالت أخرى: ليت الافرنسيس يعلمون أن سوريا ليست لقمة سائغة بل هي عنب حامض، لعلهم يرعوون. فقالت أخرى: حبذا أن يتساهل الثوار في طلباتهم تمهيداً لعقد الصلح وحقن الدماء. فقلت: وحبذا أن يتساهل الافرنسيس أيضاً. لقد تساهل الثوار وتنازلوا عن أشياء من حريتهم. فليتساهل الافرنسيس بشيء من مطامعهم ولاسيما إذ رأوا أن الصلف والبلف لا يكسبان نصراً. عند ذلك مرّ بنا موكبٌ من الطالبات ألفت أنظارنا وبتر حديثنا فوقفنا مسرورات مبتهجات بهذا الموكب الجميل الذي كان فصل الخطاب. والله المسدد الخطى إلى الصواب.
(مجلة السيدات والرجال، ج4، س7، مصر، 15 آذار 1926)
موقع الآوان