القتل باسم “الرب”!
د. عمّار علي حسن
على رغم الإيجابية التي ينطوي عليها مصطلح “التسامح” فإن الناقد الإيطالي امبرتو إيكو له فيه رأي سلبي لافت حيث يصفه بأنه “مصطلح مبهم، وهو بإيجاز، مصطلح لامتسامح، حيث إنه يفترض بالفعل، وفقاً لرافضيه، بأنه يمكننا الاعتقاد بأن شخصاً ما غير مقبول بشكل أساسي، أو أنه أدنى منا مرتبة، ولذا فمن الأفضل تحاشيه، بيد أننا نتسامح معه من باب الأدب، أو إيثاراً لمبدأ السلامة”. لكن إيكو يمقت العنصرية البدائية أو “اللاتسامح الحيواني” الذي يُعزى إلى أسباب بيولوجية، ويراه الأخطر بين ألوان التعصب قاطبة. إذ يمكن مواجهة “العنصرية العلمية” بإبداء الحجج العقلية المقنعة.
وقد قرأت مؤخراً كتاباً بديعاً للدبلوماسي الإيطالي مايكل أنجلو ياكوبوتشي وسمه بـ”أعداء الحوار” تتبع فيه استمرار قيم اللاتسامح وأعراضه في الأديان والمذاهب والفلسفات والممارسات البشرية، في مشارق الأرض ومغاربها. وهو بحث عريض ومطول وعميق يصفه هو قائلا: “بحثي هذا لا يسعى وراء عرض صنائع السوء، والنفس السوداء لهذا الدين أو ذاك، أو لأيديولوجية أو لأخرى، أو لعرق أو آخر، أو لحركة سياسية أو أخرى، بل إنه يسعى للتأكيد على أننا كلما مددنا أعيننا في الزمان والمكان، أدركنا أنه لا يوجد بشر أو شعوب، فقط من حيث الجوهر، أخيار أو أشرار، وأنه لا توجد عقائد أو أيديولوجيات حسنة تماماً أو سيئة تماماً، بل يوجد فقط أناس على قناعة راسخة بأن بعض الأفكار تمثل الخير المطلق، والأفكار المعارضة تمثل الشر. وهذا يحدث لأن هؤلاء يفسرون بطريقة جامدة، تفتقر إلى الاستناد النقدي للمُثل والنواميس التي انتقلت إليهم من خلال معلمين بارزين، ومن خلال حكمة تكونت عبر آلاف السنين. مُثل ونواميس أصبحت في النهاية سجناً لهم، لا يمكنهم التحرر منه، حتى وإن غيروا الظروف”.
ويبدأ ياكوبوتشي باللاتسامح الديني، الذي يعتبره “القتل باسم الرب” ويظهر في الحروب المقدسة والقتل الشعائري والانتحار الجماعي واضطهاد المنشقين، ثم يقول: “إن رحلة بين أعداء الحوار ينبغي أن تبدأ، حتمياً، من الدين. أحد أضخم الموضوعات التي تفرض نفسها في كل حديث عن اللاتسامح، ودائماً تحظى منه بنصيب الأسد”. ومن ثم فإن العديد من أشكال التعصب مثل كراهية الأجانب، والعنصرية، والاضطهاد، مرتبطة بالممارسات الدينية في جانب منها، على رغم أن مختلف العقائد تحض على التضامن والشفقة، ورغم أن الدين، مهما كان تجسده التاريخي، ثبت أنه منبع لا بديل عنه للرحمة والعدالة.
إن البرهنة على هذه المقولة يمكن أن تعود بنا إلى بدء الخليقة، لنتتبعها في مسيرة التاريخ البشري كله، لكن التقاط بعض الأحداث التي وقعت في العقود الأخيرة يكفي للدلالة على ذلك. فالشاب اليهودي المتطرف إيجال عامير الذي قتل رابين برر ما أقدم عليه بقوله: “لقد أمرني الله بذلك، ولست نادماً” وكان في هذا يمتثل لنصوص عديدة في التوراة والتلمود تحض على القتل. ولم تضع الحرب بين الكاثوليك والبروتستانت في إيرلندا أوزارها إلا قبل سنوات بعد أن أزهقت مئات الآلاف من الأرواح. والأصوليون الهندوس قاموا بهدم مسجد قديم وتسويته بالأرض مخلفين آلاف القتلى.
ويعود اللاتسامح الذي تنتجه الممارسات الدينية المجافية لمقاصد الأديان وغاياتها، في نظر ياكوبوتشي إلى ثلاثة أسباب رئيسة، أولها: تسييس الدين، وهو بدأ في اتحاد مهام الحاكم والكاهن في شخص واحد أو التحالف بينهما، الذي استمر قروناً عانت فيها شعوب الغرب من تبادل المنافع بين السلطتين الكنسية والزمنية، وتسخير مختلف السلطات للدين بتحويله إلى أيديولوجيا واستغلاله في كسب الشرعية، والتلاعب بالجماهير، ورفع الغطاء عن المعارضين باتهامهم بالرفض أو الهرطقة أو الردة. والسبب الثاني: قيام بعض رجال الدين في المسيحية واليهودية، بالحيلولة دون العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه، عبر الكهنوت. وقيام بعض علماء الدين ورموزه في الإسلام بمحاولة لعب الدور نفسه، على رغم أن إحدى ركائز الإسلام هي عدم وجود أي واسطة بين الإنسان والله سبحانه وتعالى. أما السبب الثالث فهو: رفض أتباع كل دين لـ”الأغيار” أو أتباع الديانات الأخرى، فاليهودية رفضت المسيحية، والأخيرة ترفض الإسلام، والأخير لا يرفض الاثنتين لكنه يعتمد مساراً معيناً لهما، انطوى عليه القرآن الكريم، الذي يقول: “لا نفرق بين أحد من رسله”.
كما أن أتباع الديانات السماوية الثلاث يرفضون الأديان والمذاهب الوضعية، ويطلقون على أتباعها اسم “الوثنيين”. وقد بلغ هذا الرفض ذروته في مصر القديمة، حيث تم هدم معابد المعرفة، وتحويلها عنوة إلى كنائس، علاوة على قتل العلماء والفلاسفة، وفي مقدمتهم هياباتيا. وهنا يقول ياكوبوتشي: “بداية من عام 609 م، ومع تكريس البانثيون في روما أثناء بابوية بونيفاتشو الرابع بدأ افتتاح كنائس عديدة فوق المعابد، كنيسة تلو أخرى”. ثم يسرد موجات أخرى من التعصب باسم المسيحية، مثل الصراع بين المسيحيين أنفسهم حول الثوابت العقدية، وموضوعات الهرطقة الكبرى، ثم حرب الفرنجة التي رفعت شعار “الصليب”، وبعدها محاكم التفتيش في القرون الوسطى، والتي تعد أكثر النقاط سواداً في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، وتلتها مطاردة الساحرات، ثم ظهور البروتسانتية التي أدت إلى أن تصير أوروبا مسرحاً لحرب دينية طويلة، أظهر فيها الطرفان أدلة متساوية على البشاعة والغلظة، لم ينته الفصل الأكثر دموية فيها إلا مع صلح ويستفاليا عام 1648 الذي أنشأ مجتمعاً دولياً جديداً يقوم على أساس الدولة القومية.
لكن قيام الدولة القومية وانتشار التحديث والحداثة لم يقضيا على الأصولية المسيحية، التي ولدت في الولايات المتحدة، وظلت تترعرع فيها حتى أوصلت أحد رجالها وهو بوش إلى سدة السلطة، وهو الذي سعى إلى تنفيذ أكثر أطروحات الإنجيليين تعصباً، باحتلال العراق وأفغانستان، لتعبيد الطريق أمام الحرب الأخيرة التي تشهد عودة المسيح، كما يعتقد هؤلاء.
وجاءت الأصولية الإسلامية لتجنح بعيداً عن تعاليم الإسلام التي تحض على الرحمة، وتؤمن بحرية الاعتقاد، وتمنع الواسطة بين الإنسان وخالقه. وأخذت هذه الأصولية، لاسيما في شقها السياسي، تنتج خطاباً معادياً للآخر، سواء من بين المسلمين الآخرين، الذين يشكلون التيار العريض والعام من بين شعوب العالم الإسلامي، أو أتباع الجماعات والتنظيمات الإسلامية الأخرى، دعوية كانت أم مسيسة، أو أتباع الديانات الأخرى.
الاتحاد