سكون العقل واندحار التفكير
محمد ديبو
عام 1990 أصدرت هيئة علماء المسلمين في السعودية فتوى تمنع المرأة من قيادة السيارة , وفي عام 2009أصدرالشيخ سليمان الماجد “فتوى تمنع المرأة من الصعود في سيارة مع رجل لوحدهما، إلا إذا كان زجاجها شفافا”ً.
بين العامين المذكورين جرت تبدلات كثيرة في العالم, ظهرت نظريات فكرية وانتهت, وتم تطوير العديد من الأنظمة في كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية.. واحتلّت دول وشنت حروب وتغيّر وجه العالم , بينما بقينا في العالم العربي والإسلامي محكومين بسلطات الفتاوى وحقول الوهم التي تعتقل العقل وتطلق سراح اللامعقول.
عشرون عاما, لم نتغير ولم نتحرك ولم نستطع أن نطور وعينا وديننا قيد أنملة باتجاه القبول بالمتغيرات التي تحصل حولنا.
ويكفي أن نلقي نظرة على تاريخ الفتوى في العالم الإسلامي خلال الثلاثة عقود الأخيرة, لنرى مدى الإسفاف الذي أوصلنا إليه القائمون على شؤون ديننا , ليحشروا الإسلام في عنق الزجاجة وليغدو الإسلام رديفا في نظر الكثيرين عبر العالم للقتل والانتحار, ونموذجا معبرا عن خنق حرية التعبير التي تمثلت في الفتوى الشهيرة التي أطلقها الخميني ضد الكاتب سلمان رشدي, والتي تأتي استمرارا لتاريخ طويل من إلغاء الآخر وكبت الحريات, وتستمر مفاعيلها حتى يومنا هذا بسبب انتشار الوعي المزيف و وجود الأرضية الحاضنة التي تسمح لبذرة التكفير بالإنتاش والنمو .
فتاوى وفتاوى مضادة تبدأ بإرضاع الكبير ولا تنتهي عند إعدام ميكي ماوس وتوم جيري, فتاوى لا تستند إلى أدنى ذرة من العقل أو المنطق أو أي شيء له علاقة بإنسانية الإنسان. فتاوى تتناقض مع الدين نفسه كأيديولوجية جاءت لخلاص البشر لا لتكبيلهم وقتل روح الإبداع في دواخلهم.
واقع الدين في علاقته مع المجتمع والسياسة في العالم العربي والإسلامي كما يتجلى حاليا يقوم على نفي حرية الإنسان. الحرية التي وهبها الله لخصمه اللدود إبليس , يحاصرها العقل الفقهي ليسد نوافذ البحث والتفكير, رافضا التخلي عن سلطاته الرمزية والدينية التي استولى عليها بتعميم الجهل والاستبداد وخنق الحريات, لأنه يدرك أن التفكير وحده هو الذي يفكك أسس اللا عقلانية المفجعة التي يحفل بها الخطاب الإسلامي المعاصر. لذا لا تتورع السلطات الدينية عن استخدام كل الوسائل المتاحة لها لتثبيت دعائمها متحالفة مع السلطات السياسية (رغم تناحرهما الضمني) للحيلولة دون انتشار الحرية الفكرية في التعاطي مع المسلمات, مستخدمة في ذلك سلاح الفتوى وهدر الدم في مرحلة أولى, والقتل وإعلان الجهاد في مرحلة متقدمة.
حوادث كثيرة جرت في العالم العربي, وكلها تدل على مدى انحدار وضع الحرية في العالم الإسلامي , خاصة ما يتماس منها مع الدين, منها منع السلطات الأردنية لكتاب “فانيلا سمراء” للكاتبة منى وفيق وكتاب” برشاقة ظل” للشاعر إسلام سمحان بتهمة هتك المقدسات وتحويل الناشر الروائي إلياس فركوح للمحاكمة, وفي مصر فتوى بقتل محمد حجازي لارتداده عن الإسلام وزواجه من مسيحية ,إضافة إلى منع البهائيين من ممارسة طقوسهم عدا عن منع الكتب وتكفير الفنانين والكتاب وهدر دمهم على الملأ, وفي سورية تم منع كتب كثيرة منها “فلينزع الحجاب” لكاتبة إيرانية شابة , وسحب ترخيص جمعية نسائية علمانية ومنعها من القيام بأنشطتها تحت ضغط سلطات دينية, إضافة إلى مضايقات كثيرة رافقت تصوير مسلسل “الأسباط” لأنه يجسد شخصيتي الإمامين الحسن والحسين, حيث قال أنذاك عماد ياسين مدير الإنتاج في التلفزيون العربي السوري والذي يخضع النص في مديريته للرقابة : (أحلنا النص إلى اللجنة المعنية لبيان الرأي الفني وسنحيله بعد ذلك لوزارة الأوقاف ودار الإفتاء).
ويحيلنا تصريح مدير الإنتاج إلى أسئلة كثيرة : منها ما علاقة وزارة الأوقاف ودار الإفتاء في مسلسل تلفزيوني, في دولة علمانية ؟
هنا نستطيع أن نلاحظ مدى الترابط الوثيق بين السلطات الدينية والسياسية في العالم العربي, ومدى اتفاقهما على خنق الحريات, حيث تعمل الأخيرة على استخدام الدين وسلطاته لصالح تثبيت دعائمها مقابل التخلي عن بعض مهمات الدولة للسلطة الدينية التي تتغير مواقفها تبعا لقربها أو بعدها من مراكز القرار السياسي. وتعمل السلطة الدينية في خدمة السلطة السياسية عن طريق تخدير الوعي وتغييب العقل عبر إسباغ العصمة المعرفية والدينية على سياسات الحكومات الخاطئة, مستغلة بذلك مشاعر البسطاء الدينية, ومتلاعبة بالدين كونه الرأسمال الرمزي للشعوب المتدينة عبر إظهار أن معارضة الحكام تجلب سخط الله وغضبه. حيث تعمل السلطات الدينية بذلك على تزييف الوعي وتعميم الجهل ومحاربة الحرية كي تسهل للسلطة السياسية مهماتها في حكم مستقر, عدا عن الجانب الآخر الذي يروج القتل والعنف باسم الدين.
وتستخدم السلطات السياسية قانون الطوارئ وتدعمه السلطات الدينية برفع شعارها الشهير” الحاكمية لله”, ليشكلا معا طرفا كماشة تدهس بين براثنها العقل المستقل الذي يسعى لتعميم الحرية كشرط شارط لتحقيق التقدم والازدهار.
لذا لابد من تفكيك شعار” لا حكم إلا لله” الذي يعني أن قانون الله الوارد في النص القرآني بحذافيره هو الذي يجب أن يسود دون الأخذ بعين الاعتبار الظروف التاريخية التي جاء بها النص القرآني وملاحظة أن هذه الظروف تغيرت بين العصر الإسلامي الأول وعصرنا الحالي.
وطالما أن الله غير موجود لتطبيق قانونه فإن “أولو الأمر” هم المعنيون بتطبيقه, ليفرضوا بذلك سلطان الفقه والظلام ويمنعوا الناس من التفكير الحر الذي وحده يقتلع جذور التعصب ويفتح نوافذ الفقه لتتلاقح مع رياح الحداثة.
ولا بد أيضا من إعادة النظر بكل التراث الديني وإعادة قراءته لتنظيفه من السحر والكذب واللامعقول , والعمل على تعميم الحرية الدينية وفتح المجال أمام الإصلاح الديني ليأخذ مداه الواسع في طرح أي قضية على إطار البحث بعيدا عن التكفير وهدر الدم.
ولعل أهم مسألة تقع على عاتق التنويريين العرب والمسلمين هي العمل البحثي الكثيف والعميق على تفكيك الأساطير الدينية المؤسسة للعصمة المعرفية للشيوخ وتبيان زيفها عبر إعادة قراءة التراث الفقهي وإثبات مدى عقمه وتناقضه مع الدين نفسه من جهة ومع مقتضيات العصر والحداثة من جهة ثانية.
ويستوجب العمل على قراءة الترابط العميق بين الديني والسياسي في العالمين العربي والإسلامي وتنوير الناس والمجتمع حول مدى تكامل أدوارهما في تقييد الحرية والعقل معا, كمقدمة لتحقيق الفصل المنشود بينهما عن طريق علمانية حرة تتخذ الديني بعدا لها دون أن تسمح له بالسيادة عليها,وتجعل من الديمقراطية رفيقا لها لترسيخ قيم العقلانية و حقوق الإنسان واحترام الحريات.
خاص – صفحات سورية –