صفحات الشعر

ما يعرفه المتعَبون –

null
جولان حاجي

انظُرْ:
الغيمة فوق رأسك
مثل بطنِ حيوانٍ تحبّ أن تداعبه،
الثلج يغطّي في الظلّ
حجراً وكسرة خبز.
أتسمع الريحَ بين غصون الخوخ المزهرة؟
هل فهمتني؟
إنه الصباح،
الهواء أصفى من عيوننا
ولا أحد يترك أثراً في مرآة.

***
ما أفدح ضعفي في وحدتي، وما أبشع قوتي، حين تستفرد أوهامي بي.
أنا حيّ، وأقربائي يموتون في أرضٍ بعيدة: عمتي العمياء وأختي وأبي. أنا حيّ، ولست في الجحيم لأن نسمةً عبرت منذ قليل؛ لستُ معتقلاً، على الأقلّ في الوقت الراهن، لكنهم سمحوا لي بالعيش في هذه الغرفة الصغيرة حيث أواصل حياةً لا تهمّ أحداً، ولا أنطق اسمي الذي لا يعني شيئاً…
لأنني وحدي. لن يرغمني أحدٌ على تفسير وجودي هنا، عارياً هكذا، من دون أيّ حياء، مثل نطفةٍ ميتة.
لأنني وحدي
إذا استيقظتُ لا أضطر إلى “صباح الخير” أو “لو سمحت”،
ولا أُغضِب أشباهي إذا تأخرتُ وتلعثمت،
ولا أُرغِم نفسي على التصفيق والتلويح وتبادل الضحكات؛
لا أرسم بسبّابتي على شفتيَّ المطبقتين صليباً يُسكِتُ طفلاً،
لا يقلقني كسلي الذي يستفزّ كلَّ من يراني،
لا يقلقني عجزي عن فراق السرير، وتعبي لأنني سأرتدي ثياباً أكرهها،
لأنني وحدي
باشمئزازي من كلِّ سرٍّ
أرى الخزي الذي يتوّج كلّ عملٍ يخدِّرني في انتظاري:
ابتسامةَ الطبيب وأناقةَ موظف البنك وشتائمَ سائق الباص وحِيلَ المراهقات…
جئتَ إلى هذا العالم فلا تتوقّع الكثير، واهدأ وانتظرْ.
كلُّهم مرضى، الجدوى تحيِّر الوجود، وشيخوخةُ المهانين أسرع من القتل.
هذا هو العالم، ضياؤه الحمّى،
السجناءُ فيه يقرأون الفلاسفة ويتقنون لغاتٍ لن يستخدموها،
دُعينا إلى وليمتهِ
فقط لأن الكثيرين اعتذروا أو ماتوا،
ولكنّ أشباحهم توافدتْ من كلِّ مكانٍ عشنا فيه
وأهانتنا بين الغرباء.
فلا تقُلْ: لماذا ناديتموني حين كنتُ عاجزاً عن النهوض؟ لماذا استثقلتموني واحتقرتموني وأوشكتم دائماً أن تطردوني؟
الشمس مجنونة تعلو عارَ نومك وتنحت قناعَكَ الذي تعبده؛ العالم ذكيٌّ وأنت نائم، إنه يفاجئك دائماً في مكمنٍ تجهله، في حربٍ لن تشاركَ فيها، ولا يفوّت أيّ فرصةٍ كي يفزعك، أنتَ الهلوع بلا سبب، وقبل أن ينسى يُهرع كي يهنّئكَ على النجاة، فتستغرب كيف يخاطبنا الآخرون بأسمائهم حين يُصرَخُ بك: هنيئاً، أنتَ ميتٌ الآن…
***
العصفور الذي رفرفَ عن سلك الغسيل تعرّف إليَّ من دون أن يعرف اسمي. كانت ساقاه أنحل من السلك؛ ضعيفتان ولكنهما تخدمان حياته جيداً. أفزعته بظهوري فأطلق الفزعُ جناحيه عالياً. لا فرقَ لديه بين سائر الأشكال التي يُطلَق عليها اسم البشر؛ سيان أنا أو سواي، فعيناه البراقتان لا تستأمنان أحداً. أما أنا فأكره أني أحرس اسمي الذي وُهِبْتهُ كي يأسرني، أجرَّه ويجرَّني، فالتصقَ بوجهي وصار جزءاً من نبرة صوتي، أستغربه أحياناً إذا قرأته أو سمعته، أو أضجر منه وأمقته. كالآخرين جميعاً، أمضيتُ وقتاً طويلاً كي أسجن نفسي في اسمي، إذ كلُّ امرئ يُدفَنُ حياً في اسمه: قبرٌ من الخوف والمتعة وسوء الفهم.
***

أُخفي جحيماً وأنا أبتسم: هذا ما أمثّله طوال الوقت، حتى لو كنتُ وحدي.
لو قتلتُ حقاً كلَّ من لا أحبّه لبقيتُ وحيداً وميتاً، ففي شرودي قتلتُ الجميع ثم قتلتُ نفسي.
وأنا الآن أمقتُ ما أتذكّر في السر، وأحنّ إلى ما يفزعني. آنذاك كانت تستهويني جرعة الحياة الأخيرة في فم الهالك وأنا أقول: رعبي يتنفّس الهواءَ ذاتَه الذي يتنفّسه ضحككم؛ وما كنتُ، أنا المتعثّر بظلالكم، قد انقضضتُ بعد كالمسعور على نفسي.
لا أعرف من المقصلة إلا اسمها، كلما سمعتُهُ رأيتُ رأسَ ماري أنطوانيت الجميل، وفصاحةَ روبسبيير الخطرة، وسيجارةً في زاوية فم ألبر كامو. أتذكّر كيف تأمّل دوستويفسكي الأفكار التي تراود رأساً مقطوعاً خلال اللحظات المعدودة التي يرى فيها جسده وقد افترقا إلى الأبد، النظرةَ الزائغة للعين المذعورة، الدمَ الذي يغمر النطع مثل قربان للعدالة و”موكبها الطويل من العقوبات”. لكني لا أعرف ما هي المقصلة التي أرعبت الكثيرين باسمها، مثلما لا أعرف ما يخيفني.

سيبقى ما أعرفه قليلاً على الدوام، قليلاً ونافلاً.
كلما قطعتُ تذكرةً أراني ميتاً في حادث سير، وفي كلِّ لحمٍ أمضغه آكل إنساناً أجهله.
عيناي تتحرّكان كأنهما تقرآن تحذيراً مستمراً لا يُرَى ولا يختفي:
لا تقُلْ هذه الكلمة. لا تطلب الصفح. لا تُطِلْ أيَّ اعتذار.
ثم ينطبق جفناي كأنها الإغماضة الأخيرة في رأسٍ مقطوع.

أعرف أن المتعبين تناديهم سطوح الأبراج كي يهدوا أجسادهم إلى رماح الأسيجة
وتلحّ عليهم الطرق السريعة كي يرتموا تحت العجلات
وتغريهم نظافة الصيدليات وأنوارها كي يسرقوا ما سينوّمهم إلى الأبد.
لكنني اختفيتُ من ذاكرتي، أو ربما تلاشيت، وأكاد لا أتذكّر أحداً.
ولفرط ما صمتُّ بات كلّ ما أفكّر فيه يمحوني لأنني كلُّ من كلَّمتُهم.

ما عادتْ أيُّ فكرةٍ تخصُّني في هذا الهدوء الكبير، هنا، حيث لا أتذكّر اسماً لم يرعبني ولا أتذكّر أحداً لم أعتذرْ منه، اتصلتُ بمن أحسبهم أصدقائي ودعوتُهم إلى بيتٍ فارغ كي يتأكدوا من مزاح لا أجيده ويروا غيابي.
ما أجمل تنهيدتهم آنذاك وما أصدقها ¶

(سوريا)
ملحق النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى