مناقشة “المادة الاسرائيلية في الصحافة العربية”
يجب التوقف عن الترجمة الاعتباطية
مأمون كيوان
طرح الأستاذ جهاد الزين في “قضايا النهار” في22 كانون الثاني 2010، تحت عنوان “المادة الاسرائيلية في الصحافة العربية واللبنانية: التحدي المهني – السياسي الجديد”، قضية حيوية ومهمة جديرة بالنقاش. وربما تتمثل محاور النقاش المنشود في رزمة اسئلة مثل: لماذا نقرأ الصحافة الإسرائيلية؟! وكيف نقرأها؟ وكيف تعمل؟ وهي أسئلة مشتقة بطبيعة الحال من السؤال الرئيس التالي: ماذا يريد الآخر سواء كان عدوا أم صديقا؟
وإذا بدا سؤال من طراز لماذا نقرأ الصحافة الإسرائيلية ساذجا بالنسبة للبعض، لأن قراءتها هي من باب اعرف عدوك، أو بدا سؤالا مكررا او قديما بالنسبة لآخرين، فإنه في نظر البعض قراءة الصحافة الإسرائيلية شر مستطير وفي الوقت نفسه بوابة من بوابات التطبيع.
ثمة جدوى كبيرة في قراءة الصحافة الإسرائيلية لمواجهة ودحض أساطير الإعلام الإسرائيلي. وفي المقابل يغالي البعض في الاستهزاء والتقليل من قدرات وأساليب الدعاية والإعلان والإعلام الإسرائيلية، وبالتالي فلا حاجة لنا لقراءة الصحافة الإسرائيلية وكأنه ينبغي النوم على سرير الاقتناع بأن الحق إلى جانبنا دون أي جهد للدفاع عن هذا الحق وإقناع الآخرين/ الأصدقاء، وزعزعة اقتناعات الآخرين / الأعداء.
وما بين التهويل والتهوين في رؤيتنا للإعلام الإسرائيلي هناك منطقة وسطى، شعارها الواقعية والمواجهة، أو معرفة الآخر (العدو)، تدخلها وسائل الإعلام العربية، من وكالات أنباء ومحطات تلفزة أرضية وفضائية وإذاعية وصحافة وغيرها، بأسلحة إعلامية بدائية، إن لم تكن متخلفة بسياساتها. فغالبا ما تكون السياسة غائبة أو أحادية الجانب لا تستند في أسسها إلى قراءة موضوعية ودقيقة لخريطة القوى الإعلامية ولا تستند إلى استراتيجية محددة المعالم لشرح القضايا العربية المصيرية.
فإزاء الصراع في المنطقة تغيب الحدود بين السياسات الاستراتيجية أو المتوسطة واليومية التي على أساسها يمكن تحريك الآلة الإعلامية العربية تجاهها. وأحيانا، إن لم يكن غالبا، تؤدي السياسات الإعلامية الخاطئة إلى نتائج سلبية تتناقض مع النتائج المرجوة والمنشودة. وهذا الأمر يتمثل أحيانا في الصحافة العربية المهاجرة أو المقيمة التي شهدنا في السنوات الأخيرة اهتمامها الملحوظ بالشؤون الإسرائيلية من طريق الترجمة والنشر اليوميين لفيض من المقالات المنشورة في عدد محدود من الصحف الإسرائيلية دون أي تمييز ودون أي جهد معرفي، سوى جهد الترجمة عن العبرية. وحتى هذا الجهد تشوبه أخطاء معرفية في بعض الأحيان تنم إما عن عدم احاطة المترجم باللغة العبرية احاطة تامة، أو جهله الأساسي بواقع إسرائيل وتركيبتها السياسية والاجتماعية و الاقتصادية، وآليات عمل منظومتها الإعلامية وارتباطاتها بقوانين السوق وخضوعها لنظام رقابي عسكري. وهنا يقود جهل المترجم إلى تسويقه
مصطلحات زائفة يريد الإسرائيليون تسويقها لنا.
الاكتفاء بترجمة مقالات أو دراسات حفنة من الصحافيين أو الباحثين الإسرائيليين والركون إلى أفكارهم دون فهم آليات العمل الإعلامي الإسرائيلي يعطي هؤلاء الصحافيين والباحثين صدقية لدى القارىء العربي، وأحيانا لدى الباحث العربي في الشؤون الإسرائيلية. وهذه الصدقية التي يسبغها عليهم الإعلام العربي، سواء بقصد أو دون قصد، يظهرهم على أنهم أعداء للصهيونية، وهم ليسوا كذلك، أو محبون للسلام وهم في حقيقة الأمر دعاة حرب. وفي هذا المجال ينبغي الإشارة إلى ما يسمى ظاهرة “ما بعد الصهيونية” ودعاتها ممن يسمون “المؤرخين الجدد”. ودون الدخول في تفاصيل هذه الظاهرة وملابساتها المعرفية، نرى ان هذه الظاهرة جرى تقديمها للقارىء العربي بصورة ملتبسة فبدت أحيانا وكأنها ظاهرة معادية للصهيونية، وأنصارها ربما كانوا عربا أو فلسطينيين اقحاحا، فيما بدت في أحيان أخرى وكأنها ظاهرة تحمل إعلان موت الصهيونية وإفلاسها. وعليه فسقوط الكيان الصهيوني بات أمرا وشيك الحدوث، أو قاب قوسين أو أدنى، مع العلم أن دراسات “ما بعد الصهيونية” استندت في مجملها إلى الأرشيف الصهيوني، أرشيف منظمات”ايتسل” و”ليهي” و”شتيرن” و”الهاغاناه” حول حرب العام 1948 ولم تأخذ شيئا من الارشيفات العربية، إن وجدت. ولم تؤكد الرواية العربية والفلسطينية لتلك الحرب التي لا يشكك من يسمون “المؤرخين الجدد” أنها كانت “حرب استقلال”. كما أن هؤلاء “المؤرخين” لم يبذلوا جهدا علميا في دحض المزاعم الصهيونية حول أحداث سبقت حرب 1948 أو تلتها، ولم يشككوا في “شرعية” وجود إسرائيل، وهم أيضا لا يشكلون داخل النخبة الفكرية الصهيونية جزءاً مسيطرا، بل هم جناح هامشي صغير جاءت أبحاثهم في مسألة ما بعد الصهيونية لتسوّق بصورة غير مباشرة، أفكارا ومشاريع سياسية ذات صلة بطروحات ما يسمى “اليسار الصهيوني”، كما أنهم ارتدوا على أطروحاتهم خلال سنوات الانتفاضة الفلسطينية.
ما سبق قوله لا يعني التوقف عن ترجمة ما يبثه الإعلام الإسرائيلي، بل التوقف عن النشر الاعتباطي لأعمال مصدر إعلامي إسرائيلي محدد مثل الصحافة اليومية التي تعكس بالدرجة الأولى الواقع الإسرائيلي ومتطلبات القارىء الاسرائيلي وهو الذي اعتاد وجود صحافة مهمتها تأكيد اقتناعاته وانتماءاته الحزبية، وهو لا يريد صحافة مشككة في هذه الاقتناعات الإيديولوجية والدينية. لذلك نجد أن عالم الصحافة في إسرائيل حافل بأساليب اختلاق الأفكار والأحداث وفبركة الموضوعات التي تستهوي القارىء الإسرائيلي أولا و التي تخلخل اقتناعات القارىء العربي ثانيا.
المطلوب من وسائل الإعلام العربية توسيع رقعة الترجمة عن العبرية لمعرفة تفاصيل الواقع الإسرائيلي وذلك لوضع معطياته في سياق خطط إعلامية وسياسية مؤثرة تأثيرا فاعلا في الواقع الإسرائيلي.
و تتمثل الخطوة الأولى في اتجاه مواجهة الإعلام الإسرائيلي مطبوعات عربية متخصصة بالشؤون الإسرائيلية تصدر بأكثر من لغة ومنها العبرية، تعنى بتقديم صورة دقيقة للواقع الإسرائيلي، شريطة أن تكون هذه المطبوعات أو الجهود الإعلامية بصورها المتعددة نتاج عمل مؤسسي جماعي وليست عملا فرديا. فالعمل الفردي رغم انه يستحق التقدير والثناء إلا أن فاعليته تبقى محدودة وقدرته ضئيلة. كما أن عملا مؤسسياً بحثيا جاداً يستند إلى قدرات وتقنيات إعلامية معاصرة، مشفوعا بإرادة سياسية سيكون قادرا على تحقيق نتائج عملية مؤثرة وكابحة للنفوذ الإعلامي الإسرائيلي، في حال تجاوز العمل الجماعي العربي اخطاء
تجارب مؤسسية سابقة، إضافة إلى تواصله مع نتائج وخبرات سابقة لجهة الارتقاء بعملية المواجهة الإعلامية التي أصبحت ضرورية وملحة في عالم اليوم، في ظل ثورة تكنولوجية هائلة تجتاح العالم متزامنة مع ظاهرة “عولمة إعلامية” تهدد المجتمعات والقيم البشرية والهويات الوطنية.
(كاتب فلسطيني )
النهار